فضّة ريم تلحمي تلمع في نابلس

ريم تلحمي | عدسة عدي يعيش

بزيّ فلسطينيّ صُمّم خصّيصًا لترتديه في ليلتين فلسطينيّتين جدًّا، بالفضّة كلّ الفضّة داخلها، وبالموسيقى الّتي من جبال وعرائش كنعان القديمة، حضرت ريم تلحمي إلى نابلس لإحياء عرض غنائيّ أعاد إلى المدينة عافية الجمال، وبثّ فيها بهجة خاصّة. 

ريم تلحمي، القادمة من القدس، والّتي تُعَدّ من أبرز الأصوات الغنائيّة النّسائيّة في فلسطين، بدأت حياتها الفنّيّة عام 1987، وتجيد الغناء الأوبراليّ، إضافة إلى أداء الأنماط الغنائيّة الشّعبيّة، فبعد تخرّجها من معهد روبين الموسيقيّ في القدس، انضمّت إلى فرق محلّيّة عديدة مثل 'غربة' و'وشم'، وتعاونت مع عازف البيانو اليونانيّ، ساراندِس كاساراس، وأحيت معه العديد من الحفلات، بالإضافة إلى تعاونها مع الفنّان جميل السّايح وفرقة 'زمار'، والّتي تعيد إحياء الأغاني الشّعبيّة الفلسطينيّة، علاوة على غناء مؤلّفات جديدة، ولها العديد من الألبومات، منها: 'يحملني اللّيل'، و'بالسّلامة يا عروسة'.

لأنّها نابلس

أرادت الفنّانة أن يكون لها ذات التّأثير الموسيقيّ القويّ الّذي اعتاده جمهورها، ونزعتها القويّة نحو التّغيير، من خلال هذا العرض في مدينة ربّما لا تنال حقّها الأوفى من الضّوء والاهتمام الإعلاميّ والثّقافيّ الّذي تستحقّه، مع كلّ ذلك التّاريخ والثّقل الحضاريّ، فالمركزيّة الّتي كُرِّسَتْ لحساب مدن أخرى، جعل شريحة كبيرة من النّاس في معزل عن الاستمتاع بليالٍ كهذه.

انتبه القائمون في 'مركز أوتار للثّقافة والفنون'، والّذي استضاف عرض 'فضّة' بالإضافة إلى مراكز عديدة في نابلس، إلى نقطة كان يجدر بهم الانتباه لها منذ وقت طويل، فكان البدء بافتتاح المهرجان الموسيقيّ العالميّ 'رحلة روح' على مدار ثلاثة أيّام من شهر آذار الماضي، مرورًا بالعديد من الفعاليّات الثّقافيّة والموسيقيّة المهمّة، وصولًا إلى 'فضّة'.

بالزّنبق امتلأ الهواء

عندما أُعلن عن عرض 'فضّة' في منتصف شهر آذار، وضعت منشورًا على صفحة الدّعوة الخاصّة بالفعاليّة في الفيس بوك، مختصرًا توقّعاتي ومشيرًا إلى ريم بكلمات قليلة: 'صوتكِ في نابلس عيد.' فحديث الأصدقاء وترقّبهم لهذا العرض كان مؤثّرًا، ويبيّن إلى درجة كبيرة أهمّيّة ريم وعمق حضورها، وقد كان ذلك فعلًا، فعلى امتداد ساعتين رائعتين، نقلت الفنّانة الحضور إلى عوالم عالية، ونقّلت قلوبهم في مشاعر مختلفة تتراوح بين الأسى، والحبّ، والحزن، والفرح، والوطنيّة الهائلة بالطّبع، رافقتها في ذلك فرقة من الموسيقيّين المبدعين: عادل جبران على آلة التشيلّلو، وشكري امسيس على القانون، وإلياس حبيب على الإيقاع، بإدارة موسيقيّة من درويش درويش، الّذي عزف على الكمان أيضًا.

ورغم أنّ ريم نبّهت بداية الحفل، فيما يشبه الاعتذار، بأنّ حنجرتها منهكة وأنّها تعاني من إرهاق قد يؤثّر على أدائها، إلّا أنّ ذلك كان تحدّيًا جديدًا أضافته إلى سلسلة طويلة من التّحدّيات الّتي تخطّتها بجدارة، فكانت في الموعد لتُرْقِصَ خيول البال وتنثر الياسمين على العرائس، وتمجّد ظلال الشّهداء الّتي حفّت المكان. بالمواويل والمدائح والقصائد، جعلت طبقات صوتها تنشئ درجًا عاليًا صعدناه جميعًا نحو الأبّهة الكاملة. بالدّمع والضّحك، بالحماس والألفة، كان كلّ شيء مثاليًّا، وكان الحضور يشبهون فرقة صوفيّة متّحدة ومنتشية تمامًا، وأصدق تمثيل لذلك ما قاله محمود درويش: 'بالزّنبق امتلأ الهواء كأنّ موسيقى ستصدح.'

بخفّةٍ وأناة

لقد حملت ريم القصائد وهواجس الشّعراء، الّتي ربّما كانت ستظلّ حبيسة الأدراج والأوراق، إلى آذان النّاس بخفّة، وصبّتها في قلوبهم بأناة، وحملت اللّيل إلى عرش فضّة لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، كأنّما هي في حديقتها المضيئة في كفر نعمة، تقلّم الأشجار وتهدّئ روع الورد بيديها، وتترك لمسرح الأفق عينيها تصنعان الدّهشة.

أهمّيّة هذا الحدث لا تقتصر بالطّبع على منح فرصة للنّاس حتّى يلامسوا أصواتًا جديدة وعميقة مثل صوت ريم، ولا على الذّهاب بالذّوق العامّ إلى مساحات ومناطق إبداعيّة مختلفة فحسب؛ بل ثمّة أهمّيّة لاستمرار هذا اللّون الفنّيّ الملتزم بقوّته ولتجذّره في النّفوس أكثر، فكلّ حدث أو عرض كهذا العرض أعدّه انتصارًا كبيرًا، لأنّ الجودة تغلّبت على الرّداءة، والجمال كسب مربّعًا إضافيًّا من القبح، فمقاومة الانهيار الموسيقيّ العامّ بإصدارات متمهّلة وواثقة، واجب فنّيّ، وأكبر مثال على ذلك هي ريم، فعلى الرّغم من نشاطها ومثابرتها على الغناء، إلّا أّن تجربتها تحتوي على عدد  قليل من الألبومات، لكنّ كلّ ألبوم يمثّل بصمة هائلة بحدّ ذاته، ويترسّخ صداه في الذّاكرة.

'سمرا وقدّ القولْ

والعشق صايدْها

على شفّة اليرغولْ

هدّت قصايدها

أرخت جدايل ليلْ

والنّجم عايدها

تهمس سحايب نورْ

والضّحكة من فضّة

لو أشّرت للحورْ

يعطوها تا ترضى

تمشي وراها بدورْ

بطلّتها تتوضّا!'

شكرًا ريم تلحمي، فقد جعلت روائح البلاد البعيدة ممكنة، شكرًا لأنّ صوتك ما زال يحتفظ بكلّ تاريخنا، مآسينا، أفراحنا، أعراسنا، مراثينا، وبالتّأكيد شكرًا لأنّك لم تحضري إلى نابلس فقط، بل كنت نابلس طوال ليلتين عظيمتين، لن تنساهما المدينة.