الأخوان الكويتي؛ من قصر فيصل إلى حانوت تل أبيب

الأخوان صالح وداوود الكويتي

يقول دودو تاسا في إحدى مقابلاته لمجلّة التّابلت، إنّه كان يسمع دائمًا من أمّه أنّ والدها داوود الكويتي كان فنّانًا عظيمًا، لكنّه لم يعطِ الأمر اهتمامًا حقيقيًّا، رغم أنّ تاسا يقاسم جدّه الاهتمام بالموسيقى، فتاسا (38 عامًا) مغنّي روك ولاعب جيتار وكاتب أغانٍ، أصدر أوّل ألبوماته 'أوهيف إت هشيريم' (يُحبّ الأغاني) وهو في الثّالثة عشرة من عمره.

بالعراقيّة المكسّرة

لكنّ تاسا يعود في نفس المقابلة ليخبرنا أنّ أمرًا ما تغيّر عندما أرسل له أحد أقاربه كليبًّا من التّلفزيون العراقيّ، يحكي كيف كان جدّه داوود، وصالح أخو جدّه، في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص صالح، من أعظم الملحّنين الّذين أنجبتهم العراق في العصر الحديث، 'قلت واو'، يقول تاسا، لتقوده هذه الواو بعد ذلك لإعادة إنتاج أغاني جدوده، مازجًا بين شرقيّتها والموسيقى الغربيّة الّتي نشأ عليها، ليقدّم لنا عام 2011 ألبوم 'دودو تاسا والكويتيّان'، وقد قدّمه بعربيّة مكسّرة، إذ أنّ لغته الأمّ هي العبريّة، لكنّه تدرّب على كلمات الأغاني بالعربيّة العراقيّة، لتكون عربيّته المكسّرة أداة أخرى من جماليّات ألبومه الّذي بُثّت إحدى أغانيه 'وِن يا قلب' يوميًّا، مدّة شهر ونصف، على محطّة بوب إسرائيليّة، كما يقول تاسا نفسه.

دودو تاسا

'وِن يا قلب'، أوّل أغنية سمعتها لتاسا من ألبومه، ثم سمعت 'لا تغيب غنّي وتروح'، ثمّ أغنية من أوّل ألبوم له، 'أني شار' (أنا أغنّي) بالعبريّة، وانتقلت من هناك في رحلة غير متوقّعة، لأعرف بعد ذلك أن ألبوم تاسا هذا يتعدّى كونه مشروعًا من مشاريع عصرنة القديم، بل هو إعادة اعتبار لجدوده الّذين 'بهدلتهم' الدّنيا.

مقام اللّامي

لم يكن صالح الكويتيّ من أصول كويتيّة، لكنّه ولد هناك (1908) لعائلة هاجرت من بصرة العراق إلى مدينة الكويت، وأبدا هو وأخوه داوود، والد تاسا الّذي سيكون رفيقًا لصالح في رحلته، شغفًا بالموسيقى في سنّ مبكرة، عزّزه عندهم عمّهم العائد من رحلاته التّجاريّة من الهند، حين أهداهما كمانًا وعودًا. تعلّما الألحان الكويتيّة هناك وأتقناها على يد العوّاد خالد البكر، واطّلعا على الألحان المصريّة واليمنيّة والخليجيّة. 

في الكويت، أعاد الأخوان إحياء أغنية 'والله عجبني جمالك'، لصاحبها عبد الله الفرج، إذ كانت أوّل أغنية يقدّمانها أمام شيوخ الكويت آنذاك. ولسطوع صيتهم في مدينتهم الكويت، بعد إحياء الكثير من الحفلات عند الأقارب والتّجّار والشّيوخ، قرّرت عائلة الكويتيّ الانتقال إلى البصرة، مطرحهم قبل انتقالهم لمدينة الكويت، وفي البصرة تعرّفا إلى محمّد القبنجي، مبتدع مقام اللّامي، الّذي شاركهم عروضًا كثيرة، وعنه أخذ صالح مقام اللّامي ووسّعه لاحقًا.

فرقة الإذاعة العراقيّة بقيادة صالح الحكواتي

هذا المقام الّذي سيُعجب به محمّد عبد الوهّاب في زيارة له لبغداد (1932)، لينقله ويستخدمه بعد ذلك في أغنية 'يلّي زرعتو البرتقال' في الفيلم المصريّ 'يحيا الحبّ' (1938)، والّتي قدّمتها المطربة رئيسة عفيفي، صاحبة 'دقّوا المزاهر' الّتي غنّتها في الفيلم المصريّ 'لحن الخلود' (1952).

الأغنية الّتي أعجبت أمّ كلثوم

بعد ستّة أشهر من الاستقرار في البصرة، انتقل الأخوان إلى بغداد، حيث تعرّفا في الملاهي الّتي قدّموا فيها عروضهم إلى سليمة مراد وعبد الكريم العلّاف، الأولى مغنّية 'قلبك صخر جلمود' والثّاني صاحب كلماتها، وهي 'الأغنية الأكثر شهرة في بغداد' في حينها، حسبما يقول صالح الكويتي، ملحّن هذه الأغنية، في تسجيل له موجود على اليوتيوب،  في معرض حديثه عن زيارة أمّ كلثوم لبغداد في نفس العام الّذي زارها فيه عبد الوهّاب، وسؤالها عن 'الأغنية الشّهيرة' هناك. 'قلبك صخر جلمود' كانت الإجابة، والّتي ستكون بعد ذلك الأغنية الوحيدة الّتي غنّتها أمّ كلثوم لملحّن غير مصريّ.  

لحّن صالح لسليمة مراد 'هو البلاني' أيضًا، و'آه يا سليمة'، و'يا نبعة الرّيحان'. ولحّن للعديد من الفنّانين أمثال سلطانة يوسف، بدريّة أنور، جليلة أمّ سامي، منيرة الهوزوز، زهور حسين، عفيفة إسكندر، زكيّة جورج، عشيقته، والّتي لحّن لها 'يا بلبل غنّي لجيرانك'، وهي قصيدة طاغور الّذي كان في زيارة لبغداد (1932) إثر دعوة أرسلها له ملكها، فيصل الأوّل، وهو في إيران.

في بلاط الملك

كانت بغداد نقطة انطلاقة حقيقيّة للأخوين، انتقلا فيها من الملاهي إلى البلاط الملكيّ، ولحّن صالح لمناسباته، مثل لحن تتويج الملك غازي، ولحن ميلاده، ولحن وفاة الملك فيصل الأوّل. وبطلب من السّلطات، شارك الأخوان الكويتي في تأسيس أوّل فرقة موسيقيّة للإذاعة (1936)، قدّما فيها أوّل أوركسترا متكاملة في العراق، عملت تحت رئاسة صالح الكويتي حتّى استقالته (1944)، بالإضافة إلى مشاركة الأخير في وضع الموسيقى التّصويريّة لفيلم 'عليا وعصام' (1949)، كما لحّن أغانيه الّتي غنّت سليمة مراد الكثير منها، وشاركت كذلك في التّمثيل. 'بعثوا علينا من حلب وبيروت،' كما يقول صالح في تسجيل آخر على اليوتيوب، لأنّ شهرتهم فعلًا قد تخطّت حدود المكان.

لهذا لم يكن غريبًا ولا زيفًا ما كان يسمعه دودو تاسا عن جدوده، بأنّهم من أهمّ مؤسّسي وواضعي قواعد الأغنية العراقيّة الحديثة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، لأنّهم كانوا كذلك. لكنّ إسرائيل الّتي عكّرت ولا زالت تعكّر صفو هذه المنطقة بشكل كامل، عكّرت حياتهم أيضًا، إذ أنّ وجودها ودعوتها الطّائفيّة ليهود العالم بالهجرة إلى وطنهم المزعوم، كانت السّبب في انهيار ما شيّده الأخوان عبر تاريخهم الحافل.

من الوطن... إلى الوطن المزعوم

كان الوجود اليهوديّ السّياسيّ المتطرّف الّذي يستعر في فلسطين، سببًا لإشعالِ طائفيّة نائمة في المنطقة العربيّة، بدأت بطرد اليهود من وظائفهم وتجميد أموالهم، ضمن حملة طويلة انفجرت بما يُعرف بالفرهود، الأوّل من يوليو (1941)، يوم أسود ليهود العراق، حيث هاجمتهم جماعات متطرّفة وقتلت منهم قرابة الـ 200 فردًا، وأصابت أكثر من 1000 شخص، ونهبت ودمّرت بيوتهم.

سليمة مراد

مسلسل الاعتداءات استمرّ بتفجير دور العبادة اليهوديّة - علمًا أنّ هناك اتّهامات لصهاينة بفعل ذلك لنشر الذّعر بين اليهود، فيكون ذلك دافعًا للهجرة - جنبًا إلى جنب مع نموّ الرّفض المجتمعيّ الطّائفيّ لليهود، في الوقت الّذي لا زالت إسرائيل بعد قيام دولتها تنشر دعوتها ليهود العالم بالهجرة نحوها، الأمر الّذي دفع بعض العراقيّين اليهود للهجرة إلى إسرائيل سرًّا، وسرعان ما أصدرت الحكومة العراقيّة، قرارًا عُرف بقرار إسقاط الجنسيّة (1950)، والّذي يقضي بالسّماح ليهود العراق بالهجرة قانونيًّا إلى إسرائيل، شرط سقوط جنسيّاتهم العراقيّة عنهم، وحدث ذلك.

أفواج وجماعات طارت إلى إسرائيل ضمن عمليّات تهجير منظّمة في المنطقة؛ عمليّة بساط الرّيح في اليمن، وعمليّة جوشوا في إثيوبيا، وفي العراق كانت عمليّة عزرا ونحميا الّتي هاجر فيها 12-13 ألف يهوديّ في رحلات جوّية من العراق إلى إسرائيل، عبر إيران وقبرص. كانت هذه الرّحلات بطائراتها الأمريكيّة والبريطانيّة تحمل أيضًا صالح وداوود الكويتي ضمن مَنْ حملتهم إلى موطنهم المزعوم.

الموسيقى المنبوذة

سليمة مراد يهوديّة أيضًا، لكنّها لم تهاجر مع من هاجروا. 'لمن أغنّي في إسرائيل، حياتي في العراق مع جمهوري، ولا حياة للفنّان من غير جمهوره.' كان هذا ردّها على سؤال الأخوين، حين حاولا استوضاح نواياها. وسليمة مراد كانت محقّة تمامًا، فعند وصول الأخوين الكويتي إلى إسرائيل، عاشوا في مخيّمات بسيطة، حتّى استطاعا افتتاح دكّان صغير لبيع الموادّ الغذائيّة لإعالة أسرهما. أمّا الموسيقى الّتي كانت سببًا في صعود نجمهم في العراق، فقد كانت ممنوعة ومنبوذة في إسرائيل، فهي عراقيّة عربيّة شرقيّة، دون المستوى مقارنة بالموسيقى الغربيّة، في مجتمع قام أساسًا على التّقسيم الطّبقيّ.

شارع في تل أبيب

في العراق أيضًا، أمر صدّام حسين، وقت كان نائبًا لمجلس قيادة الثّورة، بتشكيل 'لجنة فحص التّراث الموسيقيّ العراقيّ'، لجرد هذا التّراث وغربلته، هكذا حذف اسم الأخوين الكويتي من كلّ الأعمال الّتي قدّماها، لتصبح التّسجيلات مقدّمة على أنّها أغاني شعبيّة غير معلومة المصادر، الأمر الّذي كان يحزّ في نفس الأخوين الكويتي، كما يوضح شلومو في معرض حديثه عن والده صالح، في وثائقيّ بسيط أعدّته قناة الحرّة التّلفزيونيّة. شلومو الّذي له كتاب تحت اسم 'أوتار منعشة'، يسرد فيه قصّة الأخوين الكويتي، والّذي يحاول أن يعرّف بهما في كلّ مكان يذهبه.

اسمٌ عربيٌّ في تل أبيب

كان شلومو وعائلة الكويتي قد تقدّما بطلب لمجلس بلديّة تل أبيب، بتغيير اسم شارع صغير قريب منهم، ليحمل اسم الأخوين الكويتي تكريمًا لجهودهما. وافقت البلديّة على الطّلب، وغُيّر اسم شارع بوسم ستريت، ليحمل اسم الأخوين الكويتي؛ لكنّ هذا كان كفيلًا بإثارة حفيظة سكّانه، لأنّ الاسم عربيّ!

حاول الأخوان الكويتي، من قلب عزلتهما في إسرائيل، التّواصل مع أصدقاء ورفاق الماضي للعودة إلى العمل مرّة أخرى، لكنّ التّجاهل الّذي تلقّياه جعلهما يستسلمان لحقيقة سقوطهما، ليعيشا في إسرائيل على حنين لم ينقطع للعراق، وللكويت أوّلًا، الّتي وُلِدا فيها، حتّى وفاتهما في إسرائيل، صالح توفّي عام 1986، وداوود توفّي عام 1976، قبل ثلاثة أشهر فقط من ولادة حفيده دودو تاسا، الّذي يبدو أنّ ألبومه 'دودو تاسا والكويتيّان' أتى إليه بشيءٍ يقوده حاليًّا لاستصدار ألبوم جديد، كألبومه الأوّل على أعمال الأخوين الكويتي، هذا بعد أن قدّم كليبًّا غنّى فيه أغنية 'ويّاك'، وهي إعادة إنتاج لأغنية 'ويّاك' لفريد الأطرش، مضيفًا إليها الجيتار والموسيقى الإلكترونيّة.