الحبّ أقسى القتلة وأعدلهم

بليغ حمدي ووردة

الأغنيات بحزنها وحبورها، بتطريبها وتحطيمها لقلوبنا إذا ما انفلتت الآه على حين غفلة من قلب المغنّي، تمامًا كما يحدث دائمًا مع أمّ كلثوم في الدّقيقة (10:35) من أغنية ألف ليلة وليلة؛ الأغنيات بكلّ هذه المشاعر المختلطة الّتي يقذفها الملحّن والشّاعر في قلب المغنّي، الّذي يقف على بوّابات قلوبنا حاملًا فانوس حزنه، لا تأتي من فراغ، ولا بدّ من انصهارات جمّة تشعل الكواليس لتنضج فيها الأغنية؛ ولعلّ التّجلّي الحقّ لهذه الاشتعالات يلمع في الثّنائيّات خير لمعان.

حبّيتك بالصّيف

يروي عاصي الرّحباني في إحدى الحوارات الإذاعيّة قصّة أغنية 'حبّيتك بالصّيف'، يقول: 'لا تنسى فيروز الإساءات مهما كانت صغيرة، قبل أن نتزوّج ضربنا موعدًا لنسجّل أغنية، تأخّرتُ عن موعدنا، وللصّدفة أمطرت يومها، فيما كانت فيروز تنتظرني على الرّصيف، فظلّت تعايرني 20 سنة وتقول: إنت نَطَّرْتَني عالرّصيف تحت المطر. فوجدت نفسي أكتب لها أغنية أقول فيها: حبّيتِك بالصّيف، حبّيتِك بالشّتي، ونطرتِك بالصّيف ونطرتِك بالشّتي. ثمّ عدّلناها إلى صيغة المخاطب المذكّر، لتناسب فيروز حين قرّرت أن تغنّيها.'

عاصي الرّحباني وفيروز

هذه اللّوحة الّتي تمكّن هذا الثّنائيّ من رسمها بأدوات بسيطة: حبّ، مطر، شعر، موسيقى، عتاب، استطاعت أن تبلغ الخلود، ربّما كان صدق الموقف بمثابة العمود الفقريّ لهذا العمل، لكنّ المأزق الجميل الّذي يشكّل ذروة القشعريرة في هذا العمل، هو المرآة الّتي نجمت عن احتكاك صوت فيروز بقصيدة الرّحباني الغنائيّة. لقد خرجت فيروز من كينونتها وتحوّلت إلى شخص ثالث لتقول حكايتها تحت المطر؛ إنّها تصف صورتها وهي عاثرة بغياب حبيبها، وحيدة تحت المطر بلا وردة ولا يد دافئة. نعم، لقد غنّت فيروز نفسها، ولم يكن لهذه المرآة أن تلتمع دون أن يعترف عاصي بذنبه ويفضحه على الملأ وهو يقول: 'بإيّام البرد، وإيّام الشّتي/ والرّصيف بحيرة والشّارع غريق/ تجي هاك البنت، من بيتها العتيق/ ويقلّا انطريني/ وتنطر ع الطّريق/ ويروح وينساها وتدبل بالشّتي.' لقد جرّم عاصي نفسه وقسى عليها، في سبيل الوقوف إلى جانب حبيبته بعد 20 سنة!

كرسيّ فارغ خلف السّتّ

كان محمّد القصبجي الّذي تتلمذ على يده كلٌّ من محمّد عبد الوهّاب وفريد الأطرش ورياض السّنباطي، والّذي قدّم أهمّ الأعمال العربّية أيضًا، منها 'رقّ الحبيب' (أمّ كلثوم)، و'أنا قلبي دليلي' (ليلى مراد)، و'يا طيور' (أسمهان)، وكذلك الفصل الأوّل من 'أوبرا عايدة'، واحدًا من أهمّ القوائم الّتي وقف عليها اسم أمّ كلثوم وصوتها، ولعلّ المنجزَ الأهمّ هو تأسيس الفرقة وإدخال التّشيلو والكونتر باص إلى الأغنية العربيّة. ظلّ القصبجي مأخوذًا بأمّ كلثوم وفعلها، مؤمنًا بها إيمانًا أعمى؛ أعطاها زهرة ألحانه، حتّى صار اسمه 'الموسيقيّ العاشق'، إلّا أنّ الموسيقى خانته.

يذكر الباحث الموسيقيّ التّونسيّ د. محمد العلّاني، أنّ أمّ كلثوم بدأت تشعر بمنافسة قويّة بينها وبين أسمهان، فلم يرقها الأمر، فطلبت من القصبجي أن يقلع عن التّلحين لأسمهان، لكنّ القصبجي رفض ذلك، فرفضت أمّ كلثوم بدورها أن تغنّي من ألحانه، وظلّ يسكب ألحانه العاشقة في صوت أسمهان حتّى قُتلت عام 1944، فعاد القصبجي إلى أمّ كلثوم بلحن جديد، إلّا أنّها أصرّت على الرّفض، كما كانت ترفض ألحان فريد الأطرش العملاقة.

أمّ كلثوم

ما كان من القصبجي إلّا أن رضخ واستسلم لجبروت صوت أمّ كلثوم وقلبها، واختار كرسيًّا متواضعًا ليجلس وراءها عازف عود فقط، مخافة أن يخسرها إلى الأبد، تاركًا بذلك التّأليف الموسيقيّ والتّلحين، فيما لم تأبه هي بذلك. فيا لحزن القصبجي وهو يعزف لحن غريمه لمعشوقته! ظلّ الأمر كذلك حتّى مات القصبجي متلفّعًا بحزنه، فحافظت أمّ كلثوم على كرسيّه فارغًا وراءها تقديرًا لمنزلته الّتي لا يملؤها أحد مهما طالت قامته.

وردة وبليغ

يذكر الإعلاميّ وجدي الحكيم أنّ قصّة وردة الجزائريّة مع بليغ حمدي بدأت في بيت محمّد فوزي، حين التقيا هناك، وأعربت له عن ولعها بلحن أغنية 'تخونوه' في فيلم الوسادة الخالية، فمنحها لحن أغنية 'يانخلتين في العلالي'، الأغنية الّتي كانت بمثابة فخّ وقع فيه بليغ في غرام وردة.

كان بليغ قد انفصل عن زوجته الأولى، أمنية طحيمر، ولم يلبث حتّى بدأ قلبه يتسلّق حبال صوت وردة، حتّى تولّه بها، ولم يكن منها سوى أن استسلمت لموسيقارها الملهم. وعندما تقدّم بليغ للزّواج من وردة، رفض والدها الأمر رفضًا قاطعًا، ويذكر الحكيم أنّه طرده من بيته أيضًا. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فقد زوّجها والدها لوكيل وزارة الاقتصاد جمال قصيري، واعتزلت بذلك الغناء، فلم يجد بليغ أمامه إلّا كتابة رسائل موسيقيّة لعشيقته المسبيّة، فقيل إنّ مقدّمات أغنيات 'بعيد عنّك'، و'الحبّ كلّه'، و'سيرة الحبّ'، و'أنساك'، كانت رسائل صاغها الموسيقار إلى وردة، حتّى أنّ أمّ كلثوم علّقت على الأمر مازحة: 'إنت بتشتغلني كوبري للبنت اللّي بتحبّها!' وظلّ الأمر كذلك حتّى التقيا في الجزائر عام 1972، حين طلب الرّئيس هوّاري بومدين منها أن تغنّي في احتفالات عيد الاستقلال، فأشعل الحنين قلبيهما وأعماهما، أو ربّما كشف عنهما غطاءهما فأصبح بصرهما حديدًا، إلى الحدّ الّذي دفع وردة إلى طلب الطّلاق من زوجها، والعودة إلى مصر لمواصلة مشوارها الفنّيّ.

الموسيقيّ العاشق، القصبجي

عام 1972 عُقِدَ قرانهما في بيت الرّاقصة نجوى فؤاد، ذلك الزّواج الّذي دام حتّى 1979، لكنّ الحبّ على ما يبدو لم ينتهِ، فبليغ الّذي تلهّى بعد ذلك بالعمل في حقول صوت ميّادة حنّاوي، كتب أغنيات أضافت إلى المكتبة الموسيقيّة جواهر حزينة، مثل أغنية 'أنا بعشقك'، فكأنّه هذه المرّة أبقى على كتابة الرّسائل الموسيقيّة، وأضاف إلى ذلك الرّسائل الصّريحة الّتي راح يكتبها ويلحّنها لتُغَنّى بأصوات الجيل الجديد لأميرة حبّه الّتي تركت قصره بحجّة إهماله أسرته لصالح فنّه. أمّا وردة، فلقد برهنت حبّها عام 1984 حين جرى التّحفّظ على بليغ حمدي بتهمة التّسبّب في انتحار الفنّانة المغربيّة الصّاعدة، سميرة مليان، الّتي ألقت بنفسها من شقّته، إذ توسّطت وردة لدى زكي بدر، وزير الدّاخليّة آنذاك، وهدّدت بالاعتصام أمام وزارة الدّاخليّة إذا اعتُقِلَ بليغ ليوم واحد!

بقدر ما كانت هذه الانكسارات قاسية وقاصمة حين وقعت على رؤوس هؤلاء العمالقة، كانت أيضًا أسبابًا جميلة لتشييد حدائق للعشّاق، يضيعون فيها كلّما اشتدّ عليهم الحبّ، وكلّما أزهر بداخلهم الوجع. الحبّ أقسى القتلة وأعدلهم، حين تصير الأغنيات نصله الأنعم.