أمّ كلثوم في مساجد فلسطين

في أحد أحياء القاهرة الشعبيّة | مروان نعامنة

'ده مستحيل، قلبي يميل، ويحبّ يوم غيرك، أبدًا أبدًا، أهو ده اللّي مش ممكن أبدًا...'

هذا ما قالته أمّ كلثوم غناءً عام 1961 لأوّل مرّة، سنة إنتاج أغنية 'أنساك يا سلام' الشّهيرة، وهي من تأليف مأمون الشّناوي وتلحين بليغ حمدي.

ملأت هذه الكلمات، وغيرها، فضاء مدينة نابلس أمس الخميس، لا من خلال حفل موسيقيّ طربيّ أو مقهًى أو مسرح ما، إنّما من خلال مآذن المساجد، وتحديدًا في المنطقة الغربيّة من المدينة، حيث بُثّت أربع مرّات، خلال النّهار والمساء، مقاطع مختلفة من أغاني أمّ كلثوم، وسط دهشة القائمين على المساجد، والأهالي الّذين سارع عدد منهم لتوثيق الحادثة اللّافتة وبثّها عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، لتتناقلها بعد ذلك وسائل الإعلام المختلفة وتثير موجة جدل.

خلل فنّيّ أم اختراق؟

تشير بعض التّقديرات إلى أن ثمّة من استطاع اختراق شبكة الأذان الموحّد في مساجد المدينة، والّتي تخضع لمسؤوليّة البلديّة ورقابتها؛ بينما أكّد مدير عام أوقاف نابلس، محمّد الكيلاني، لوسائل الإعلام، أنّ ما حصل خلل فنّيّ، وهو ناتج عن تداخل موجات إذاعيّة على الموجة الخاصّة ببعض المساجد الّتي تحتوي أجهزة لا سلكيّة وتستقبل بثّ الأذان الموحّد عبرها.

وأفاد الكيلاني أنّ الأذان الموحّد يُبثّ من مسجد الحاجّ نمر النّابلسيّ، وأنّ المؤذّن فقط يملك مفتاح غرفة الأذان، وأنّ بثّ الأغاني حصل في أوقات بعيدة عن وقت الأذان والصّلاة.

وقد شكّلت وزارة الأوقاف لجنة تحقيق لمعرفة كيف بُثّت الأغاني عبر مآذن المساجد، بالتّعاون مع بلديّة نابلس.

أعطني حرّيّتي

هذه ليست المرّة الأولى الّتي يثير فيها حضور أمّ كلثوم في المساجد جلبة عبر وسائل الإعلام، الرّسميّة والاجتماعيّة، إذ أقدم إمام أحد مساجد مدينة طولكرم، عام 2012، على اقتباس أمّ كلثوم خلال خطبة الجمعة الّتي انتقد فيها توجّه السّلطة الفلسطينيّة إلى الأمم المتّحدة لنيل صفة دولة، قائلًا، وفق المصلّين: 'تقول أمّ كلثوم، أعطني حرّيّتي أطلق يديَّ.' وتابع: 'عذرًا كوكب الشّرق، فالحرّيّة تؤخذ بالقوّة ولا تُطلب فتُعطى.' وقد قوبلت هذه الخطوة بردود أفعال تتراوح بين الاستنكار والتّندّر.

كما شهد مسجد البيرة قرب رام الله، على اسم 'جمال عبد النّاصر'، عام 2014، بثّ جزء من أغنية 'بعيد عنّك' لأمّ كلثوم، وتحديدًا كلمات: 'نسيت النّوم وأحلامه، نسيت لياليه وأيّامه'، متداخلًا مع صوت المقرئ الشّيخ عبد الباسط عبد الصّمد، وقيل حينها إنّ الأمر ناتج عن خلل فنّيّ بسبب تقنيّة الأذان الموحّد أيضًا. وأفادت مصادر إعلاميّة أنّ المسجد نفسه بُثّ فيه، خلال إحدى صلوات الجمعة، مقطع من أغنية 'زيّ الهوى' لعبد الحليم حافظ، ما أثار استنكار المصلّين.

استنكار وفكاهة

يرافق مثل هذه الحوادث، ومع وجود فضاءات التّعبير المفتوحة، غضب واستنكار لدى كثيرين من كيفيّة دخول الموسيقى إلى المسجد، وهذا ما دفع الأوقاف لتشكيل لجنة تحقيق للبحث في ملابسات حادثة نابلس.

فقد تساءل المواطن معاوية عورتاني عبر صفحته على فيسبوك: 'أين ذهب الأئمّة والمؤذّنون والمصلّون؟! بل أين جيران المساجد والأجهزة والأوقاف؟! مجهولون يبثّون لـ 7 دقائق أغاني لأمّ كلثوم على شبكة الأذان الموحّد في نابلس'!

أمّ كلثوم تصلّي في مسجد الزّيتونة بتونس (1968)

بينما تشيع الطّرافة لدى آخرين، إذ يميلون إلى تناول الموضوع بفكاهة؛ من خلال تعليقات مثل: 'يا حبيبي... اليوم أمّ كلثوم وبكرة نانسي'، أو 'ساعة لقلبك وساعة لربّك... مش غلط.'

الفنّ والإسلام

وقد استثمر البعض بثّ أغاني أمّ كلثوم للحديث عن الموسيقى والفنّ في الإسلام، إذ تُحَرّم بعض التّيّارات الدّينيّة الموسيقى تمامًا. كتبت الصّحافيّة مجد حثناوي عبر صفحتها على فيسبوك: 'استيقظنا على خبر أمّ كلثوم وهي تصدح في مآذن مدينة نابلس ’بالغلط’ لعلّها لحظة تصالح فريدة بين الفنّ والدّين.'

بينما دوّن الكاتب رأفت آمنة جمال نصًّا تعليقيًّا حول الحادثة، جاء فيه: '(صيتها أكثر من الأذان... يسمعوه المسلمين، والتّتَر والتّركمان...) بهذه العبارة وصف الشّاعر الرّاحل أحمد فؤاد نجم السّيّدة الخالدة أمّ كلثوم في إحدى قصائده، الّتي هجاها فيها ليتراجع لاحقًا معتبرًا السّتّ الهرم الرّابع.

أمس عَلا صوت السّيّدة أمّ كلثوم عبر منابر المساجد في نابلس، والمساجد هناك، لمن لا يعلم، موحّدة، أي أنّها ترفع الأذان بشكل منظّم بصوت واحد عبر مكبّرات صوت مشتركة. إلّا أنّ ما رُفِعَ في سماء نابلس أمس هو صوت السّيّدة أم كلثوم، الّتي ردّدت لدقائق عديدة رائعتها: ’أنساك؟ ده كلام؟‘ ليعلو صوتها وسط تصفيق الحضور في حفلها عند مقطع: ’أهو ده اللّي مش ممكن أبدًا، ولا أفكّر فيه أبدًا‘.

وأضاف: 'مَن كان يعتقد أنّ مسجدًا سيرفع صوت أمّ كلثوم عاليًا؟ التّحقيقات جارية لمعرفة سبب ذلك، خطأ تقنيّ أم ’قلّة أدب‘ من ’مشاغبين‘! في كلا الحالتين ليس ثمّة ما يزعج في الأمر أو يُسيء للإسلام ولبيت الله، فأمّ كلثوم نفسها غنّت في قاعات تابعة لمساجد وأنشدت في المولد النّبويّ وفي مناسبات كثيرة، وهي الّتي اختتمت حياتها بأغنية ’القلب يعشق كلّ جميل’ الغنيّة بالإيمان والتّغنّي بوجه الله، في زمنٍ لم يكن صوت المرأة فيه ’عورة’ أو حرامًا. أمّا في هذا الزّمن الّذي تضجّ فيه مساجدنا بالتّطرّف والتّحريض على النّاس وتجهيلهم باسم الله والرّسول والإسلام، في بيوت الله الّتي تفصل النّساء عن الرّجال، ويكثر فيها المنافقون، وتعلو فيها لغة التّرهيب، لا بأس أن تردّد فيها أمّ كلثوم: ‘ذكريات حُبّي وحُبّك ما انساهاش!‘ قليل من الحبّ، باسم الله، لا يضرّ. الله محبّة.'

هل؟!

كانت أمّ كلثوم في صباها مقرئة للقرآن ومنشدة للتّواشيح، على خطى والدها، مؤذّن قرية طماي الزّهايرة المصريّة، إبراهيم البلتاجي، وخلال مشوارها الفنّيّ قدّمت مجموعة من الأغاني الإيمانيّة المعروفة، مثل 'نهج البردة' و'وُلِدَ الهدى' في مدح الرّسول (ص)، وكلاهما من كلمات أحمد شوقي؛ كما خصّت الحجّ وزيارة مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشّريف بثلاث أغنيات، هي 'من عرفات الله' من كلمات شوقي، و'الثّلاثيّة المقدّسة' من كلمات صالح جودت، وكذلك أغنية 'القلب يعشق كلّ جميل'، من كلمات بيرم التّونسيّ، والّتي تناجي فيها الله وتعبّر عن شوقها لزيارة بيته الحرام.

كما أنّ لها عدّة أغانٍ في فيلم رابعة العدويّة، من ألحان رياض السّنباطي ومحمّد الموجي وكمال الطّويل، وغيرها من أغانٍ.

فهل لبثّ أغاني أمّ كلثوم، تحديدًا، عبر مآذن المساجد، والاستشهاد بكلمات أغانيها من على المنابر، علاقة بإرثها الغنائيّ الإيمانيّ؟ أم هو مجرّد صدفة وأخطاء فنّيّة متكرّرة قد يتسامح النّاس معها، لأنّها 'السّتّ'؟!