بلبل برلين

كانت لزيارة المكان لهفة قبل أن أصل برلين مطلع تمّوز (يوليو) الماضي، حتّى قبل أن يبدأ صاحبه، الفلسطينيّ نضال بلبل، بالإعلان عنه عبر الفيسبوك، إذ كان يحدّثنا عن نيّته افتتاح مقهى ثقافيّ في العاصمة الألمانيّة، والتي غدت فضاء يضمّ ثقافات عديدة من كلّ العالم.

"بلبل برلين"، اسم المقهى الذي افتتحه نضال نهاية نيسان (أبريل) الماضي في حيّ "كروتسبيرغ" الشهير، وقد قصدته أوّل مرّة يوم خميس، والذي يُخصّص لاستضافة فرق موسيقيّة فلسطينيّة وعربيّة وألمانيّة وغيرها للعزف والغناء على منصّته الصغيرة داخل المكان. كان ذلك الخميس حارًّا جدًّا، فقرّر نضال أن يكون العرض الموسيقيّ في الخارج. التقينا هناك، أصدقاء من فلسطين ولبنان وسوريا، نستمع إلى الموسيقى، حتّى حان وقت التقليد العربيّ في المقاهي التي نحبّها، والمقاهي التي تشبهنا في حيفا والشام وبيروت؛ نغنّي بصوت عالٍ أغاني يعرفها كلّ منا، وتعيش في الذاكرة، وأحيانًا تتطوّر حالة الغناء الجماعيّ إلى رقص أيضًا، سواء على الأغاني التي نغنّيها، أو حين يسمح لنا صاحب المكان بأن نضع الأغاني التي نحبّ، كما فعل نضال ليلة الخميس هذه، فرقصنا على قدود حلبيّة بصوت صباح فخري.

صحافيّ في غزّة

وُلد نضال بلبل في حيّ الشجاعيّة بقطاع غزّة، لم يرغب يومًا أن يتركها، رغم حلمه بأن يكمل دراسته الأكاديميّة خارجها، لكنّ الاحتلال لم يتح فرصة الذهاب إلى رام الله لاستصدار تأشيرة سفر. قرّر أن يدرس الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى في غزّة، وبدأ خلال دراسته بممارسة مهنة الصحافة.

نضال بلبل

عمل مع وكالات أنباء فلسطينيّة وعربيّة عديدة مصوّرًا، إلى أن بدأ بالعمل مع وكالة "رويترز". عمله هذا منحه فرصة بناء شبكة علاقات مع محيطه، وبالتالي، فقد مع الوقت رغبته بأن يترك المدينة. إلّا أنّ يوم 20 كانون الأوّل (ديسمبر) 2007 كان نقطة فارقة لديه، إذ كان يغطّي جنازة تسعة شهداء في مخيّم البريج بعد الاجتياح الإسرائيليّ، وخلال الاشتباك، ودون أن يعرف ما حصل بالضبط، سقط جيب العمل الذي كان يجلس داخله في وادٍ، فأصيبت رجله اليمنى إصابة صعبة.

كانت الساعة العاشرة صباحًا حين سقط الجيب في الوادي، "كان وزنه 5 أطنان"، يقول نضال في حديث خاص لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. وبحكم عمله مع وكالة "رويترز"، حصل على تصريح علاج في مستشفى هداسا في القدس. وصل إلى حاجز إيرز، "منسمّيه معبر الموت"، يقول نضال. ويتابع: "بهديك اللحظة، تذكّرت عدد الأطفال اللي ماتوا على هاد المعبر، 492 طفل كانوا بالطريق للعلاج في القدس."

وصل الحاجز مع الإسعاف الفلسطينيّ، الذي يصل فقط إلى منطقة 55، ومن غير المسموح له أن يتقدّم أكثر. "نزلوا، وحملوني بشيّالة، ومشيوا فيي لغاية نقطة معيّنة ما بقدروا يعدّوا منها. حطّوني على الأرض ورجعوا. ومفروض يجي الإسعاف الإسرائيلي ياخدني ويطلع. بعد فترة إجوا، كان شهر 12 والجوّ برد كتير، وأنا ممنوع أكون لابس إشي غير غطاء المستشفى. ولسّة عندي نزيف، الحادث صار الساعة 10 الصبح، عالجوني علاج أوّلي في مستشفى الشفا بغزّة لحتّى أوصل هداسا. وصلت حاجز إيرز الساعة 2 الظهر، والإسعاف الإسرائيلي وصل الساعة 12 بالليل،" يقول نضال.

حبّ من أوّل نظرة

فقد رجله اليمنى، "السبب الرئيسي في فقدان رجلي، هو الفترة الزمنيّة اللي قضيتها على الحاجز،" يقول نضال الذي قضى عامين من العلاج في القدس، تعرّف خلالهما إلى فلسطين التي لم يرها وهو في غزّة، وخلال تلك الفترة أيضًا، سنحت له فرصة تدريب في تلفزيون ألمانيّ، فوصل برلين عام 2010، بعد قضائه مدّة في مدينة بايرويث الألمانيّة، وقد كانت كلّ توقّعاته أن يقضي فترة التدريب ثمّ يعود إلى غزّة عن طريق مصر، ولم يكن يعرف أنّ حبّه "من أوّل نظرة" للعاصمة الألمانيّة سيرسم له مستقبلًا غير الذي خطّط له، ما بين الصحافة ومشروع مقهًى ثقافيّ يحمل اسمه.

بعد حصوله على الإقامة الألمانيّة، استغلّ الوقت لدراسة اللغة الألمانيّة والتعرّف على ثقافة المكان، وكلّما تنقّل بين مدينة وأخرى، كانت برلين لا تزال في باله. حين يعود إليها، يشعر أنّه عائد إلى البيت. "ما بتغنيني عن حبّ غزّة... زيّ ما بقوله، القلب بعشق مدينتين... بس غزّة مكان بحلم أعيش فيه بس مشّ بالظروف اللي بتمرّ فيها الآن. ما عندي مشكلة مع الظروف اللي بتمرق فيها غزّة، مشكلتي هي انعدام حرّيّة الحركة والمعابر،" يقول نضال.

عام 2011، بدأ العمل مع وكالة أنباء ألمانيّة، "كان غريب كتير، خاصّة طبيعة يومي كصحفي في غزّة، بحمل كاميرا بتربطني فيها علاقة شخصيّة، زي حبيبتي... وين ما بروح باخدها معي، كلّ الوقت ستاند باي مستنّي صاروخ أو بيت ينهدم أو مؤتمر صحافي... فجأة، صفّيت على سجّادة حمرا، بين نجوم هوليود... كان يخطرلي كلّ ما أقرّب بالمايكرفون على فنّان عشان أسأله سؤال، أقولّه: بتعرف من وين أنا جاي؟ بتعرف غزّة؟"

حلم يُبنى

في أيّار (مايو) 2016، حصل نضال على الجنسيّة الألمانيّة، ونهاية نيسان (أبريل) 2016، افتتح مكانه "بلبل برلين". "سمّيته على اسم عائلتي، وكمان على اسم طائر البلبل... والمكان الوحيد اللي بتسمعي منّه صوت البلبل، هو في حديقة غوليتسر (القريبة من المكان)،" يقول نضال.

كان حلمه دومًا أن يملك مقهى ومساحة خاصّة، منذ أن عمل في غزّة قبل قدوم الصيف في بناء كافيتيريات على شاطئ البحر. بعد عمله في مجال الصحافة ببرلين، وما شعره من فرق بين طبيعتي العمل في غزّة وبرلين، قرّر أن يترك المهنة، وأن يحقّق حلمه.

قبل عامين، بدأ نضال البحث عن مكان لتحقيق مشروع المقهى، لم يرغب في أن يكون المكان في مركز المدينة، "صعب جدًّا تبني بينك وبين الزبائن علاقة لمّا يكون المكان بالمدينة... كنت بدوّر على مكان بعنيلي." وجد المكان في شارع غوليتسر، وقضى 4 شهور داخله يبني كلّ شيء فيه بيديه، تجوّل في أنحاء برلين، لملم الخشب الملقى في الشوارع، فبنى البار، ومن ثمّ المنصّة، وافتتح المكان يوم 28 نيسان (أبريل) 2016.

ملتقى ثقافات

افتتاح مكان خاصّ فكرة لا تقتصر على حلم نضال، بل يرتبط أيضًا بواقع الأماكن العربيّة التي رآها في برلين. "من بداية وصولي، شفت محلّات تجاريّة ومطاعم وأراجيل، مش إشي أكثر من هيك. ما شفت أماكن ثقافيّة، وأماكن تعّلم جيل الفلسطينيّين اللي خلقان في الشتات عن ثقافتهم وقضيّتهم وتراثهم، كتير الإشي مفقود هون... في كتير مبادرات، بسّ ما استمرّت،" يقول نضال، ويتابع: "العرب اللي هون، ما في شي يجمعهن، في أكثر من معهد فنّي، بسّ الفرق العربيّة اللي بتوصل لهون، ما بتلاقي إطار تلتقي فيه... جزء من فكرة المكان، إنّي أرضي حاجاتي وهويّتي. أنا عربي، على قدّ ما بتقن اللغة الألمانيّة، لكن أنا انولدت في فلسطين وربيت فيها وعشت الحياة العربيّة، وكلّ مرّة بمرق من شارع وبسمع فيروز، أو بلاقي عربي، بحسّ بحنين وشوق وفراغ بدّي أعبّيه."

يهدف نضال بلبل من خلال مساحته "بلبل برلين"، إلى خلق فضاء يتّسع للتعبير الثقافيّ العربيّ ويحتضن مبادرات ثقافيّة وفنّيّة عربيّة، بالإضافة إلى محاولة تغيير الواقع، والدمج بين الثقافات التي تعيش في برلين، وهو ما يُجَسَّدُ أيضًا في أنواع الطعام التي يقدّمها المقهى، إذ يدمج بين المطبخين العربيّ والألمانيّ، ويرحّب بكافّة ثقافات العالم، "ما عندي اختلاف مع دينك ولون بشرتك... إنت مرحّب فيك هون وبكلّ وقت."