في المهاهاة وخلخلة الثنائيّات

باسل وسوسن غطّاس في محكمة "ريشوت لتيسون" | لقطة من فيديو

هدأت العاصفة التي رافقت اعتقال النائب باسل غطّاس، وانفرجت الأزمة إثر إطلاق سراحه، وقد عبّرت عن هذا الانفراج في لحظته سوسن غطّاس، زوجته، بواسطة المهاهاة. الآن، بعد هدوء العاصفة وانفراج الأزمة، لدينا من الترف ما يمكّننا في هذه المقالة من الالتفات إلى المهاهاة في المشهد.

المهاهاة، بوصفها نوعًا فنيًّا تراثيَّا متفرّدًا، وزمكانيّة إطلاقها، وبقيّة عناصر المشهد المذكور، كلّ هذه تجعلها تُخَلْخِل الثنائيّات المعهودة بين الخاصّ والعامّ، والشخصيّ والسياسيّ، والفرديّ والجمعيّ، والتراث والسياسة، والتراث والحداثة، والتراثيّ والوطنيّ، والنسائيّ والنسويّ، والنسائيّ والنسويّ والسياسيّ، والوطنيّة والمواطنة وتقاطعاتها المحتملة كافّة، وتضعها في مصافّ فعل المقاومة الشعبيّ، لا أقلّ.

المهاهاة

المهاهاة[1]، اصطلاحًا، نوع غنائيّ تراثيّ شائع في بلاد الشام، تختصّ به النساء دون الرجال، وهو غناء للفرح، يؤدّى، عادة، أداءً فرديًّا بإطلاق الصوت عاليًا وسط صمت الحضور. تتكوّن المهاهاة الواحدة من أربعة أبيات/ أربع جمل، في الغالب، يبتدئ كلّ بيت بمفردة 'آويها'، أو بمفردة رديفة لها أو محوّرة عنها (نحو: 'أ هي'، 'ها يي'، 'هي يي'، 'أ يي')، تبعًا للقُطر والمنطقة، بل أحيانًا، تبعًا للبلدة. وفيها الجملة (البيت) قصيرة ومحكمة البناء، تنتهي بقافية. تُختتم المهاهاة بزغرودة تطلقها أكثر من امرأة واحدة في المحضر نفسه.

تُغنّى المهاهاة في الأفراح، لا سيّما تلك المتعلّقة بالزواج، في كلّ واحد من مراسمه التقليديّة؛ كالجاهة، وساعة 'قطع الحكي' أو قراءة الفاتحة، والخطبة، وليالي التعاليل، وسهرة العروس، وليلة الحنّاء، وفي العرس، وذلك في البيت الخاصّ وفي ساحته أو في طرقات وبيادر البلدة تاريخيًّا، وفي قلّة من الحالات، في قاعات الأفراح، مذ تحوّل الناس لإقامة أفراحهم فيها. فضلًا عن العروس والعريس، تخصّ النساء رجالهّن بالمهاهاة؛ الأب والأخ والزوج والابن والعمّ والخال وكبار العائلة، في انعكاس للأبويّة والذكوريّة، واحدة من أبرز سمات النظام الاجتماعيّ (ولن أخوض في النقد ونقد النقد هنا)، فيها يُعَبّرن عن المباهاة بهم، وعن فرحهنّ وقلقهنّ والفوز بالفَرَج وغيرها من المشاعر. والمهاهاة تُؤَدّى إمّا ارتجالًا، بمعنى أن تبتكر المرأة القول على نحو خلّاق، وإمّا نقلًا، حيث تهاهي ما جرت العادة أن يقال في المناسبة التي هي فيها أو في مثيلتها.

فعل مقاومة

مهاهاة السيّدة غطّاس جاءت على غرار بعض عناصر التعريف الآنف الذكر، ومغايرة لبعض عناصره الأخرى، وهو ما يجعلها أكثر استحقاقًا للتوقّف عندها والكتابة عنها. فالحدث، على نحو ما شهدناه في فيديو انتشر في وسائل التواصل الاجتماعيّ وبعض وسائل الإعلام،  تألّفت فيه المهاهاة من بيتين/ جملتين:

'ياااا يَ وحياة من خلّى [نجوم][2] الليل ي [ت] تفسّر

 ياااا وصار لي زمان على هاليوم بتحسّر'

أعقبتهما زغردة جماعيّة.

جملتان شائعتان في التراث الفلسطينيّ، تتّسمان بالبساطة والبلاغة في آن، وتحملان من المكنونات ما لا يتّسق مع بساطتهما. بوحها بالفرح بنمط فنّيّ تراثيّ نسائيّ في شأن يخصّ زوجها هو أمر اعتياديّ، لكنّ الحدث وزمكانيّته غير المعهودة، تحمّله من الأبعاد والدلالات ما هو ناءٍ كلّ النأي عن الاعتياديّ والمبتذل، بل تجعل منه، في رأيي، فعل مقاومة. وعلى الرغم من أنّ استخدام التراث الشعبيّ اللفظيّ بشتّى أنواعه (ومنه المغنّى كالحُداء والزجل)، وشحن الأغاني الفلسطينيّة الشهيرة بكلمات بدل الأصليّة، وتضمينها رسائل سياسيّة في محاكاة الحدث والاحتجاج والمقاومة، مع الإبقاء على اللحن الأصليّ (الدلعونا على سبيل المثال)، وتأليف أغانٍ جديدة في هذا المضمار، على الرغم من أنّ كلّ هذه وتلك مألوفة في التاريخ الاجتماعي الفلسطينيّ، فإنّ مهاهاة غطّاس لغطّاس تتفرّد في أكثر من باب.

في رواق محكمة إسرائيليّة

المكان: رواق محكمة الصلح في ريشون لتسيون، فضاء دَوْلانيّ بامتياز. الزمان: فور صدور الحكم بإطلاق سراح النائب غطّاس وإخضاعه للحبس المنزليّ على خلفيّة تهريب هواتف لسجناء سياسيّين في سجن إسرائيليّ، وتلك قضيّة عصفت بالداخل الفلسطينيّ، قيادةً وأحزابًا وناشطين وجماهير. وفي مرحلة من العداء والهجوم على اللغة العربيّة في الدولة العبريّة في الحيّز العامّ (الأذان؛ إسكات العربيّة في باصات بئر السبع وحظرها بين ناطقيها في بعض أماكن عملهم...). الشهود: كلّ مَن حضر في الزمكانيّة المحدّدة لحظتها، من موظّفي المحكمة والعائلة والأصدقاء وأعضاء حزب التجمّع ومندوبين عن أحزاب أخرى ومرافقين غيرهم. بالإضافة إلى كلّ هؤلاء، الصحافة كانت هناك، وبكثافة، وعليه، شهد الحدث كلّ من كان بالإمكان أن ينكشف عليه بشكل كامن. إذًا، صدحت المهاهاة في فضاء دَوْلانيّ، وسأعود إلى ذلك لاحقًا.

ما وراء النّدرة والتندّر

لم يسبق لي أن سمعت عن حدث شبيه. الأقرب إلى ذلك ممّا يمكن استذكاره، تناقله أهالي بلدات عديدة في أراضي 48 حتّى السبعينات من القرن الماضي (العشرين) في حكاية نادرة، مفادها أنّ أمًّا لطالب طبّ في دولة أوروبيّة حضرت ووالده (زوجها) حفلة تخرّجه، وإذ أعلنوا اسمه وصعد المنصّة لتسلّم شهادته، لم تتمالك نفسها وشرعت بالمهاهاة عاليًا تعبيرًا عن فرحتها وسعادتها وسط استهجان الحضور. ليس لدينا توثيق للحادثة، وإن وُجِد، فهو مكنوز في درج أسرة طبيب من الرعيل الأوّل ممّن تخرّجوا من دول أوروبا. لكن الأهمّ، أنّ الحكاية، حقيقةً أو اختلاقًا، وإن جرى تداولها من باب التندّر والتفكّه، تعبّر عن ندرة الحدث في السياق المذكور، وتفصح عن مكانة هذا النوع الغنائيّ التراثيّ في مخيال الشعب الفلسطينيّ، وشعوب الشام التاريخيّة بعامّة، إذ لا يسعف في التعبير عن الموقف وعمّا يختلج في الروح من أحاسيس إلّا ما استقته النفس عبر تنشئتها، وذُوِّتَ في الوجدان الفرديّ والجمعيّ، بوصفه محتوًى ووعاءَ احتواء يتّسم بالبلاغة، هنا المهاهاة.

خلخلة الثنائيّات

في المهاهاة لغطّاس في رواق محكمة ريشون لتسيون، تتجلّى جدليّات الشخصيّ والسياسيّ، والخاصّ والعامّ، والفرديّ والجمعيّ، والتراث والسياسة، والتراث والحداثة، والتراثيّ والوطنيّ، والنسائيّ والنسويّ، والنسائيّ والنسويّ والسياسيّ، والوطنيّة والمواطنة وجميع تقاطعاتها المحتملة. لا متّسع في هذه العجالة للخوض فيها كافّة، وسأكتفي بإيراد بعض ملاحظات لن تكون وفق ترتيب تعدادها.

الموقف قيد المعالجة في سياقه وزمكانيّته وشخوصه تعدّى الخاصّ والشخصيّ إلى السياسيّ والجمعيّ. على الرغم من أنّها لم تؤلّف مبتكرًا وليد الحالة، إلّا أنّ الزوجة لم تعبّر بمهاهاتها فقط عمّا اختلج في نفسها من أحاسيس وما اعتراها من أفكار جرّاء المحنة التي مرّت بها على المستوى الشخصيّ، زهاء الأسبوع، منذ اعْتُقِلَ زوجها ولحظة فكّ اعتقاله، بل عبّرت كذلك عن مشاعر وأفكار الكثيرين من أبناء جلدتها، ولامست هذه المشاعر والأفكار، وذلك بأسلوب استثنائيّ أصيل بليغ، يتماهى معه كلّ الفلسطينيّين أينما وُجِدوا، على اختلاف شرائحهم الاجتماعيّة وطوائفهم ومذاهبهم الدينيّة ومشاربهم الأيديولوجيّة؛ ففي التاريخ والتجربة والثقافة والتراث الفلسطينيّ، ما يربط بين بنات وأبناء هذا الشعب حدّ اللّحمة.

الأدوار الجندريّة

تستحضر الحالة هذه، مجدّدًا، جدليّات توزيع الأدوار الجندريّة (الأدوار الجنوسيّة أو أدوار النوع الاجتماعيّ)، واعتبارات ثنائيّات السياسة والتراث، والخاصّ والعامّ في المجموعات القوميّة والوطنيّة، في ثنائيّة تنسب للرجال الدور في المجال السياسيّ وتستبعد النساء عنه، وتُماهي بين النساء والتراث، وتلقي عليهنّ مهمّة حفظه، كما هو الشأن في إلقاء مهمّات أخرى عليهنّ؛ كولادة أجيال المجموعة، وترسيم وحراسة حدودها الاجتماعيّة، وحفظ هويّتها وثقافتها، وإخضاعهنّ للأخيرة ونقلها للأجيال الناشئة. إنّها توزيعات أدوار الجندر التقليديّة، ظاهريًّا. إنّها توزيعات أدوار الجندر التقليديّة، ظاهريًّا، والتي تكتسب أهمّيّة خاصّة في سياقات الجماعات الأصلانيّة.

لقد استقطبت هذه التوزيعات معالجة الفكر النقديّ، النسويّ منه بخاصّة. سأخصّ بالذكر هنا توجّهها الماهويّ (من لفظة 'ماهيّة') نحو الفوارق بين الرجال والنساء وكونها ثنائيّة قطبيّة، بينما في الحالة قيد المعالجة، 'ينغزل' التراث بالسياسة، والتراث بالحداثة، وتتبيّن الوشائج في سائر الثنائيّات، وتخوض النساء كِلا طرفَي كلّ ثنائيّة، ومن مواقعهنّ نستجلي نقاط التماسّ ومرونة وسيولة التحوّل والتجوّل في الإحداثيّات الكامنة بينها كافّة. إنّ الخروج عن التنظير المألوف في التوجّهات الغربيّة يفتح طريقًا لفهم آخر لهذه التوزيعات الثنائيّة، ويهيّئ لتطوير تنظير بديل يخلّصنا من الثنائيّات وما تنطوي عليه من تراتبيّات، وهو ما لن أسترسل فيه هنا.

نفي الإنسانيّ عن الفلسطينيّ

تجاهل الصحافة والسياسيّين والأكاديميّين لمهاهاة غطّاس في رواق محكمة ريشون لتسيون، هو وقوع في الثنائيّة الآنفة الذكر، والتي تصنّف سلوكها في النسائيّ والخاصّ والتراثيّ، وتُمَوْضِعُه، على سلّم التراتبيّة، في مكان ليس بذي قيمة، حدّ التجاهل، أو في درجة أدنى من الأمنيّ والمدنيّ والوطنيّ والسياسيّ، والتي حازت جميعها على الأولويّة والاهتمام بوصفها الجوهريّة والرئيسيّة في النقاش. عند الحديث عن الصحافة العبريّة، فضلًا عن ذلك، ينمّ هذا التجاهل عن الاستعلاء على نوع تراثيّ شعبيّ نسائيّ عربيّ فلسطينيّ، فُهِم في أحسن الأحوال على أنّه غرائبيّ، وذلك لدى غالبيّتهم.

من الجدير الانتباه إلى ردّ فعل النائب باسل غطّاس على مهاهاة زوجته، إلى أناة سماعه مهاهاتها، وتركيز نظره بحنوّ على وجهها، وتمريره يده على شعرها بحركة رقيقة تتالت حتّى نهاية المهاهاة، وتُوِّجَت بضمّة مهذّبة خاطفة، تنمّ عن إقرارهما أيضًا بأحقّيّة الحاضرين وغيرهم باللحظة. في اعتقادي، أضفى هذا على المشهد، المحمّل، أصلًا، بكمّ من المشاعر الإنسانيّة، أضفى ما وفّر للمشاهد/ ة تجلّيًا راقيًا للعلاقات الإنسانيّة، وبين زوجين فلسطينيّين بخاصّة؛ وهو ما يضيف بعدًا إضافيًّا على تفسير تجاهل الإعلام العبريّ للموقف، في استمرار لنفي الإنسانيّ عن الفلسطينيّ، وإن كان مواطنًا، ودأبه عوض ذلك على شيطنته والتسريع في كيل الاتّهامات له إلى أن تثبت براءته. هذا النهج لا يتحمّل الخلخلة، لذا كان التعتيم العبريّ على المشهديّة.

مفاتيح المعنى

أمّا الجزئيّة التالية، فتندرج أكثر ما تندرج ضمن اهتمامات الأنثروبولوجيّين. أصوغها في نقطتين موجزتين مكمّلتين، هكذا، ودونما اعتذار: أوّلاهما أنّه على الرغم من التغيّرات والتحوّلات التي تعتري التراث الأصيل، يبقى هذا التراث عصيًّا على الاندثار؛ والثانية أنّه من العصيّ على الأجانب (حتّى المستشرقين من بينهم) سبر أغواره؛ فالتمكّن من ثقافات الشعوب، لا سيّما الأصلانيّة العريقة منها، لا يُدْرَك بالترجمة من لغة إلى لغة، مهما كانت الترجمة فذّة، بل بامتلاك مفاتيح طبقات المعنى المبثوثة في جزيئات الثقافة والتراث، والمتراكمة حصيلة تأريخ وتاريخ اجتماعيّ متكامل، وأنموذجها المهاهاة. وهيهات!

كان بإمكان سوسن غطّاس أن تبثّ سعادتها لزوجها والمقرّبين منهما لحظة قرار المحكمة إطلاق سراحه بطرق أخرى. في اعتقادي، كلّ طرائق التعبير المعروفة الممكنة، بما فيها تلك المستوحاة من التراث من مقولات نثريّة وشعريّة، كانت ستبدو عاديّة، كما تعبيرات الآخرين، حتّى صادقي المشاعر منهم، أو رَوْسَميّة (كليشيهيّة) ومبتذلة. وحدها المهاهاة التي استحضرتها بوصفها قولًا تراثيًّا مسبوكًا، ببساطتها وبلاغتها السهلة الممتنعة، ارتقت بالتعبير عن الإحساس بالحدث بتعقيداته وتركيبيّته، وضاعفت حضورها في المشهد، ومنحت الزوجة خاصّيّة موقعها، ومنحت بوحها الحسّيّ بعدًا ثقافيًّا جمعيًّا، وتجربتها الفرديّة الشخصيّة بعدًا سياسيًّا ووطنيًّا.


[1]. المهاهاة، لغة، كما وردت في المعاجم العربيّة، مناداة لدعاء أو زجر الإبل، لكن معالجة الربط بين الاستخدامين وما بينهما يقع خارج اهتمام هذه المقالة.

[2]. موجودة في صيغة المهاهاة الأصل، وسقطت في قول السيدة غطاس.

 

 

د. تغريد يحيى - يونس

 

باحثة ومحاضرة في برنامج الدراسات النسويّة والجندر، وفي كلّيّة البحوث الثقافيّة في جامعة تل أبيب. حاصلة علىى الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تل أبيب، وشهادة ما بعد الدكتوراه من جامعتين في لندن،SOAS وLES. اهتماماتها البحثيّة الرئيسيّة هي ديناميكية الانتماء والاغتراب، والهويّات الجنوسيّة، والرجولة، والسياسة والجندر، والحيّز والجندر وبحثت، أيضًا، أنماط مشاركة النساء العربيّات في السياسة المحلّيّة.