الفنّ المفرّق: حين تكون الأغاني سلاحًا بأيدي الأنظمة

من كليب أوبريت "علّم قطر"

لطالما كانت الأغنية العربيّة متّصلة بالواقع السياسيّ الذي تعيشه أمّتها، ومعبّرة عن آمال وتطلّعات الشعوب، أو موظّفة في خدمة مشاريع سياسيّة لحكومات وأنظمة، أو لحركات، أو لأحزاب. وقد شاعت في الكثير من الأغاني السياسيّة أو الوطنيّة، على مدار عقود، مضامين الحرّيّة والتحرّر، والدعوة إلى الوحدة ورصّ الصفّ، وتمجيد المقاومة في مواجهة أعداء خارجيّين واضحين، ورفع الظلم عن الشعوب، وتحقيق النهضة، وغيرها.

وعلى الرغم من النقد الذي يمكن توجيهه للأغنية السياسيّة العربيّة بعامّة، ولا سيّما حين يُلمس تمجيدها لرؤى فكريّة أو سياسيّة معيّنة، أو الترويج لها، فتتّهم بالشعاراتيّة والديماغوجيّة، أو بكونها حالمة ورومانسيّة، إلّا أنّها استطاعت أن تحافظ على مستوى فنّيّ راق في كثير من الحالات، وأن تبثّ مضامين إنسانيّة ووحدويّة تساهم في صياغة الوعي العربيّ، فرديًّا وجماعيًّا، نحو هذا الاتّجاه الإيجابيّ.

الحلم العربيّ... الوطن الأكبر

ولعلّ الحدث الغنائيّ الأبرز الذي شهده الوطن العربيّ معبّرًا عن هذه المضامين، 'أوبريت الحلم العربيّ'، الذي أُنتج عام 1998، والذي اكتسح الشاشات ومنصّات البثّ عقب الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، وهو من إنتاج أحمد العريّان، وإخراج طارق العريّان، وتأليف الشاعرين، المصريّ مدحت العدل والإماراتيّ سيف سالم الخالدي، وألحان الملحّنين المصريّين صلاح الشرنوبي وحلمي بكر، وتوزيع موسيقيّ للّيبيّ حميد الشاعري والمصريّ يحيى الموجي. وقد شارك فيه عشرون فنّانًا، معبّرين بصوت واحد عن الحلم العربيّ الأكبر: 'جايز ظلام الليل/ يبعدنا يوم إنّما/ يقدر شعاع النور/ يوصل لأبعد سما/ دا حلمنا/ طول عمرنا/ حضن يضمّنا كلّنا'.

وقد جاء 'الحلم العربيّ' على غرار أوبريت 'وطني حبيبي الوطن الأكبر'، الذي أُنتج عام 1960، وهو من تأليف الشاعر أحمد شفيق، وألحان محمّد عبد الوهّاب، وغناء مجموعة من الفنّانين المصريّين والعرب المقيمين في مصر. وقد قُدّم للمرّة الأولى احتفاءً بوضع حجر أساس السدّ العالي.

يقول المقطع الذي تؤدّيه صباح، مثلًا: 'حلو يا مجد يا مالي قلوبنا/ حلو يا نصر يا كاسي رايتنا/ حلوة يا وحدة يا جامعة شعوبنا/ حلوة يا أحلى نغم في حياتنا/ يا نغم ساري بين المحيطين/ بين مرّاكش والبحرين/ في اليمن ودمشق وجدّة/ نفس الغنوة لأجمل وحدة/ وحدة كلّ الشعب العربي'.

الحشد الشعبيّ وعسكر مصر

ومن المؤكّد أنّ الأغنية السياسيّة العربيّة عبّرت عن مضامين فرقة وخلاف، وروّجت لها، في ظلّ النزاعات بين الأنظمة، والصراعات بين فرقاء الدولة الواحدة، إلّا أنّ هذا الدور كان محدودًا ومحصورًا جدًّا، مقارنة مع ما نشهده خلال السنوات الأخيرة من توظيف للأغنية على يد أنظمة وأحزاب، أو مؤيّدين لها، في الصراعات والنزاعات بين الخصوم، في ما بات يوصف بـ 'حرب الأغاني'، وفي الحرب تسقط القيم ولا يعود للأخلاق أيّ اعتبار.

ففي وقت ينتظر فيه المتلقّي العربيّ موقف استنكار تطلقه النخب الفنّيّة والثقافيّة، احتجاجًا على عمليّات التطهير العرقيّ التي قادها الحشد الشعبيّ ضدّ شرائح محدّدة في العراق تحت ذريعة 'محاربة الإرهاب'، لانتمائها الطائفيّ أو العشائريّ، وذلك وفق تقارير منظّمات حقوقيّة، دوليّة ومحلّيّة، تشارك السوريّة ميّادة الحنّاوي في أغنية تمجّد فعائله، وتصف جرائمه بالبطولة.

كما قدّم هاني شاكر أغنية أخرى، لم تتطرّق إلى تمجيد الحشد الشعبيّ مباشرة، لكنّها، ووفق هيئة الإعلام والاتّصالات العراقيّة، حالها حال أغنية الحنّاوي، مموّلة من رئاسة الوزراء العراقيّة، ضمن حملة خصّصت 800 ألف دولار، في سبيل إقناع فنّانين عرب وعراقيّين بتأدية أغاني تبيّض صورة الحشد، بعد حملة التقارير التي أصدرتها منظّمات حقوقيّة ممنوعة من العمل في بغداد، وتتّخذ من أربيل مقرًّا لها، وقد استنكر فنّانون عراقيّون هذا الفعل، واصفين إيّاه بالمؤسف.

وهو نهج يحيلنا إلى عديد الأغنيات المصريّة التي أُنتجت تمجيدًا للعسكر وحكمهم، ومهاجمةً للإخوان المسلمين، وتحديدًا بعد انقلاب 30 يونيو 2013. ومن أبرز تلك الأغاني 'إحنا شعب وإنتو شعب' المنتجة عام 2013، من كلمات مدحت الحجّار، وألحان أحمد الحجّار، وغناء علي الحجّار، والتي تجعل الإخوان ومؤيّديهم غير منتمين للشعب المصريّ.

ومن تلك الأغاني أيضًا أوبريت 'تسلم الأيادي' المنتجة عام 2013 أيضًا، من كلمات وألحان مصطفى كامل، وغناء مجموعة من الفنّانين المصريّين، والتي جاءت لتشكر القوّات المسلّحة لعزلها الرئيس المنتخب محمّد مرسي، وتعطيل العمل بالدستور، وفضّ اعتصامي 'رابعة' و'النهضة'.

وجاءت عام 2014 أغنية 'بشرة خير'، من كلمات أيمن بهجت قمر، وألحان عمرو مصطفى، وغناء الإماراتيّ حسين الجسمي، وكان الهدف منها تشجيع المواطنين المصريّين على المشاركة في الانتخابات الأولى بعد الانقلاب، وقد وصفها المعارضون لها بأنّها 'غسيل دماغ'، ورقص على دماء ضحايا ممارسات العسكر.

 

أزمة في الخليج

ولم تسلم الأغنية في ظلّ الأزمة الخليجيّة الراهنة، والتي أدّت إلى مقاطعة دولة قطر وفرض حصار عليها من السعوديّة، والإمارات، والبحرين، ومصر. فقد أشار تقرير نشرته صحيفة 'البيان' الإماراتيّة، بتاريخ 2 آب (أغسطس) 2017، إلى إنتاج 9 أغنيات تمجّد النظام الحاكم في الإمارات وتؤيّد قراراته، وتتوعّد كلّ مَنْ يهدّد المصلحة الوطنيّة، في إشارة إلى قطر.

كما أطلق الفنّان الشعبيّ المصريّ، شعبان عبد الرحيم (شعبولًا)، أغنية 'الفار في المصيدة'، مهاجمًا فيها قطر وأميرها، تميم بن حمد، متّهمًا إيّاه بتمويل الإرهاب والخيانة، وكذلك قناة 'الجزيرة'، في مقابل تمجيد أنظمة الدول المحاصرة لقطر وتأييد قرارها بالمقاطعة والحصار. وقد أُذيعت الأغنية للمرّة الأولى في برنامج 'العاشرة مساءً'، الذي يقدّمه وائل الأبراشي على قناة 'دريم' المصريّة.

'علّم قطر'

وقبل أيّام قليلة، أطلقت شركة 'روتانا' أوبريت 'علّم قطر'، من كلمات المستشار في الديوان الملكيّ السعوديّ، تركي آل الشيخ، وألحان رابح صقر (السعوديّة)، وتوزيع مدحت خميس (مصر)، ويشارك فيه كلّ من رابح صقر (السعوديّة)، ووليد الشامي (العراق)، وعبد المجيد عبد الله (السعوديّة)، وماجد المهندس (العراق)، وأصيل أبو بكر (اليمن)، وراشد الماجد (السعوديّة)، ومحمّد عبده (السعوديّة).

يتناول الأوبريت دولة قطر بالسخرية والوعيد والتهديد، ويمجّد السعوديّة ونظامها، على ألسنة فنّانين كنّا ننتظر منهم أن يتّخذوا مواقف توفيقيّة، تسهم في توحيد الصفّ الخليجيّ والعربيّ، إلّا أنّهم فاجأونا بما يعزّز الفرقة ويشعل نار الفتنة. يقول تركي آل الشيخ في الأغنية: 'علّم قطر، واللّي وقف ورا قطر / إنّ البلد هذي طويلٍ بالها/ بسّ المسايل لين وصلت للخطر/ لا والله أن تشوف فعل رجالها/ طعناتنا في الوجه، ما هي في الظهر/ وإن كبرت العقدة نفكّ حبالها/ عشرين عام من الدسايس والغدر/ ومؤمراتٍ، عارفين أحوالها/ هذي السعوديّة، ترى عزم وظفر/ لا ضاقت أرض، وزلزلت زلزالها/ هذي بلاد العزّ  وبلاد الفخر/ ومجوّدين أمورها عقّالها'.

الغريب في الأمر أنّ معظم المشاركين في الأوبريت، قدّموا في السابق أغنيات في مديح قطر وأمرائها، مثل أغنية 'والله أحبّك يا قطر' لعبد المجيد عبد الله (2010)، و'روحي قطر' لماجد المهندس (2010)، وغيرهما، فكيف كانوا يغنّون في مديح قطر، وهم يعرفون 'غدرها ومؤامراتها' منذ عشرين عامًا؟ أو ما الرسالة التي يحملون على عاتقهم إيصالها من خلال هذا العمل؟ وكيف استطاع وليد الشامي المواءمة بين مشاركته في هذا الأوبريت، وتأديته لأغنية 'مشينا' (2014)، التي انتقد فيها الفرقة والتخلّي عن الشعوب العربيّة المنكوبة في السنوات الأخيرة؟

من حقّ أيّ متلقّ عربيّ أن يطرح مثل هذه التساؤلات ويحصل على إجابات عنها، بغضّ النظر عن موقفه، إن كان من المؤيّدين لسياسة قطر، أو من المعارضين لها، أو ممّن اختاروا طريقًا ثالثة. وقد عبّر نشطاء وإعلاميّون ومثقّفون كثر عن استنكارهم لهذه الأغنية التي انتشرت على نحو كبير، واضطّرّت 'روتانا' إلى حذف التعليقات وحظرها على الكليب في قناتها الرسميّة على يوتيوب.

'سفينة الدوحة'

كما أطلق وليد الشامي أغنية أخرى، بعد أوبريت 'علّم قطر'، من كلمات 'ضاري'، وهو الاسم المستعار للمستشار السعوديّ، سعود القحطانيّ، على يوتيوب، تهاجم حكّام قطر بأسمائهم، وتتناول بالتجريح شخصيّات تقيم في الدوحة، منها عزمي بشارة، مدير المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، إذ تقول: 'يلعب بها عزمي بشارة على الكيف/ فاسد وشوفوا وش نتائج فساده'.

كما تتضمّن الأغنية تحريضًا للشعب القطريّ على الدولة: 'يا ربعنا يا أهل قطر يالعواريف/ إحنا لكم إخوان شعب وقيادة/ سفينة الدوحة بليا مجاديف/ قبطانها ما هو بيمّ القيادة'. بالإضافة إلى مهاجمتها قناة 'الجزيرة'، متساوقة في ذلك مع سياسة دول المقاطعة في محاربة حرّيّة الإعلام: 'أوجد قناته للدجل والملاقيف/ ما خاف ربّه واستحى من عباده'.

وتظهر في كليب الأغنية رسائل ضمنيّة لحلفاء السعوديّة، فتُعرض صورة ترامب مع جملة 'ويفرح بنا الضيف'، وصورة عبد ربّه منصور هادي مع جملة 'يأمن بنا الخايف'.

هذا النوع من 'الغناء الاستنهاضيّ'، بمثل هذه الهمّة العالية، كان ينبغي توجيهه صوب العدوّ الصريح والمشترك الذي لا يغطّى له وجه، إسرائيل والقوى الإمبرياليّة العالميّة، بدل استثمارهما في إثارة النعرات بين شعوب شقيقة، وقلقلة أمن الدول العربيّة.

هذه ليست مهمّة الفنّ، وكان من الأجدى لو أنّه وضع صلصالًا في عمق الشقّ، حتّى يلتئم.

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ من قضاء يافا، من مواليد الثمانينات، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'بائع النبيّ' عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.