"الإخفاء": استضافة الضجيج اليوميّ

مريم صالح، وتامر أبو غزالة، وموريس لوقا | Ruggero Maramotti

ظهرت الموسيقى البديلة أو "الروك البديل" بداية الثمانينات، موجة كاسحة تمرّدت على قوانين الشكل الموسيقيّ، واستثمرت تنوّع الأشكال لصوغ أصوات داخليّة جديدة، تمكّنت من إفراز طقوس مفاجئة تحاكي الدواخل بشكل مغناطيسيّ يشبه إلى حدّ بعيد شهوة الوحل، الذي ما إن يتلقّف ساقك حتّى يجرّك إلى منازل لم تكن تتخيّل أن تنزلها من قبل. إنّها موسيقى الورطة، أو ورطة الموسيقى!

يمكن تبسيط هذا المصطلح من خلال تعريفه بأنّه فنّ قائم على حرّيّة المزج بين الأنواع الموسيقيّة، من دون الاحتكام إلى القوانين الكلاسيكيّة التي تجعل المستمع قادرًا على تصنيف الموسيقى، وبالتالي انتقائها على أساس مزاجه لحظة الاستماع.

إنّها بشكل ما طريقة جديدة للزجّ بكلّ ما في ذهن الموسيقيّ على طاولة المستمع، ما سوف يضع لاحقًا مسؤوليّة التحليل على عاتق الأخير أيضًا؛ لذلك ظلّ هذا اللون جدليًّا وصعبًا على الطرفين، المنتِج والمتلقّي، فهو بحاجة إلى طاقة كبيرة من أجل الخلط، وطاقة أخرى كبيرة معاكسة من أجل التفكيك، أو من أجل تلقّي كرة موسيقيّة صلدة قد ترتطم بوجه المتلقّي في أيّ لحظة، وعليه مواجهتها بفهمها كتلة واحدة.

خليط صادم

في ألبوم "الإخفاء"، الذي تَشارَك فيه كلّ من مريم صالح (مصر)، وتامر أبو غزالة (فلسطين)، وموريس لوقا (لبنان)، لحنًا وغناءً، وكتب كلماته الشاعر ميدو زهير (مصر)، يظهر الخليط بوضوح صادم، قادر على ترك بصمة قويّة في الدماغ، دوائر موسيقيّة لا تبرح رأسك مدّة بعد أن تتخلّى عن حقّك في الاستماع، أو بعد أن تنتهي من الاستماع للألبوم.

الألبوم الذي اشتمل على عشر أغنيات، قد يبدو ضربًا من التهوّر في البداية، أو حالة نهرب منها جميعًا، ألبوم يستضيف الضجيج اليوميّ، بل يحوّله إلى جزء أصيل من تكوينه الموسيقيّ. ولا ننسى الضجيج الموضوعيّ أو الثيميّ أيضًا، الذي تنتجه نصوص الألبوم، تلك التي اشتغلت على زوايا جديدة وعالجتها بأساليب قد لا تبدو جديدة كلّ الجدّة على الشعر- ولا سيّما المحكيّ – لكنّها، بلا شكّ، جديدة على الغناء العربيّ، بل فيها الشيء الكثير من المغامرة، إذ تضمّنت بعض المعالجات الانحياز إلى لغة الشارع بصورتها العمليّة والمزاجيّة واللفظيّة أيضًا.

زَيِّ العَيِّلْ

ففي أغنية "تسكر تبكي"، اعتمد الشاعر معالجة الأزمة العاطفيّة الحادّة التي تودي بمصابها إلى السُّكْر، بالمواجهة والعتاب المرّ للمصاب، بما يقترب من التوبيخ بلغة "الصحبة" النابعة من المحبّة.

"لَجْلِ العِشْقِ فْـ بَخْتَكْ مَيِّلْ

تِسْكَرْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

لَجْلِ الصُّبْحِ فْـ عِينَكْ لَيِّلْ

تِسْكَرْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

لَجْلِ دْماغَكْ مُشْ مَظْبوطَة

وْلَجْلِ الْحِلْوَة كانِتْ شَرْموطَة

وْلَجْلِ مُغَفَّلْ فِـ الْحَدّوتَة

وْلَجْلِ عَلامَكْ لِسَّة قْلَيِّلْ

تِسْكَرْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

لَجْلِ الصُّحْبَة كانِتْ قَحَبْة

وْلَجْلِ الضِّحْكَة طِلْعِتْ نَحْبَة

وْلَجْلِ وْشوشْ الْماضي الشّاحْبَة

سايْبَة فْـ قَلْبَكْ جَرْحِ مْسَيِّلْ

تِسْكَرْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

وْرَغْمِ دا كُلُّه بَرْضَكْ حاسِسْ

إِنِّ الْحُبِّ الْفَرْضِ السّادِسْ

لَأْ وِالْأَدْهى فْـ أَصْغَرْ حادِثْ

تِجْري تْروحْ سَكْرانْ مِتْنَيِّلْ

تُقْعُدْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

وِتْقولْ أُمَّكْ ماتِتْ بَدْري

لَجْلِ بْلادَكْ كِفْها الْحُزْنْ

وِانِّ صْحابَكْ عِشْقوا صَبايا

وِانْتَ عْشِقْتِ عَرايِسْ قُطْنْ

ياللِّي الدَّمْعَة فْـ عينَكْ طوبَة

وِانْتَ فْـ قَلْبَكْ وَرْدَة وْغُصْنْ

رَفيقِ السُّكْرِ ما كانْ مُتَخَيِّلْ

تِسْكَرْ تِبْكي زَيِّ الْعَيِّلْ

وفي لحن هذه الأغنية انحياز إلى تحديث الشعبيّ؛ ضربات الإيقاع التي تتصاعد منتصف الأغنية لتسيطر على اللحن أكثر فأكثر، تحيلنا إلى اللون الشعبيّ المقترن بسهرات كهذه عادة، وقد بدا هذا الانسياق اللحنيّ وراء الكلمات، بمعناه الإيجابيّ، واضحًا في الألبوم كلّه.

تغليب الموسيقى

في أغنيات عديدة، غاب صوت المؤدّين، بين ضجيج الآلات وجنونها. أنا، مثلًا، لم أستطع تبيّن كلام بعض الأغنيات إلّا من خلال البحث عبر جوجل، وربّما كانت هذه فلسفة توزيعيّة أرادت تغليب موسيقى النصّ على مضمونه، وإعطاء دور البطولة للآلة، أو استثمار أصوات المؤدّين بصفتها آلات لا أصوات بشريّة، في تجربة لتوصيف الحال لا لقولها صراحةً.

إذا ما قرأنا هذه التجارب على هذا النحو، فإنّها تبدو تجارب ناضجة وواعية، تمكّنت من نقل الموضوع إلى الحيّز العمليّ، أمّا إذا تناولناها بالطريقة الكلاسيكيّة، فستبدو ضجيجًا بلا جدوى.

وتظهر هذه اللعبة في أغنية "مزّيكا وخوف" بشكل حلو ومبرّر، لأنّ النصّ مشغول داخل الحلم، ويرتكز على عنصريّ الموسيقى والخوف.

يأس

في الألبوم نظرة تشاؤميّة بادية في غير محلّ، ثمّة يأس كبير في المسألة الوطنيّة، والإنسانيّة، واليوميّة أيضًا؛ الناس "غشّاشين"، الوطن "بعيد"، الحبيبة "خائنة"، النفس "تناكف العقل"، الليل هو المهرب الوحيد، لكنّه أيضًا "غدّار وسارق".

كانت الموسيقى على قدر هذا اليأس، إلّا أنّها ساورته بشيء من الذكاء، لتحمله على إيقاعات ساخنة، وتمنحه لياقة أعلى؛ يأس لائق وحزن مرن، يستطيع أن يقفز من أغنية إلى أختها، من دون أن يخرجك من مزاج العمل العامّ.

مَتْحَفْ فُنونِ الْغِشّْ

الدُّنْيا حَبِّةْ ديكورْ

وِعيشْ هَايِشْ وِهَشّْ

وْصِدْقِ تايِهْ في زورْ

إِبْرَة في كومِةْ قَشّْ

وِالنّاسْ خَبايا وْمَرايا

بُصِّ فْـ وُشوشْهُمْ وزور

مَتْحَفْ فُنونِ الْغِشّْ

خدر

في أغنية "الشهوة والسعار"، توصيف صارخ للحالة العامّة، الضمير يتحدّث مشبعًا بخدر "سيجارة الفرار"، إنّه يفرّ من الواقع، لكنّه لا ينجو. الأرض تدور داخل الأغنية، ترسم الوتريّات دوائر لحنيّة مغلقة بشكل متواصل، تعبّر في المعنى القريب عن حالة السكر والخدر التي تتملّك هذا الضمير، وفي المعنى البعيد عن حالة التخبّط التي يعيشها المجتمع، يتخبّط ويهرب وهو يعرف أسباب الضنك كلّها، يعدّها ويحصيها بكلّ ما أوتي من جرأة.

لكن بعد أن يفتنه "الحلو المستعار" ويغرق في "الوهم الجميل"، يمرّ على كلّ الأيدي التي تخنقه وتشوهه؛ التحرّش، والفساد، وشتات الصفّ، وتضارب المصالح، كلّ هذه القضايا المتسلسلة والمعقّدة أمكن صهرها، بشكلها المشوّش، في أغنية تنافس البيئة في بشاعة جسدها، وحلاوة صنعتها، وقسوة طالعها.

السُّطُلْ بِوَفْرَة، وِالْبُطولَة بَفْرَة

وِالتَّراتيلْ أَغاني، وِالْأَغاني صَفْرا

وِالطُّرُقْ مَتاني، كافْرَة بِنْتِ كافْرَة

وِالْعُهْدَة الْعُمومي، إِتْصَرَفِتْ في حَفْلَة

فَالْإِرادْ مِعَجِّزْ، فَالْوِكالَة قافْلَة

وِكُلُّهْ الصُّبْحِ يِقْبَضْ، الْحَرْبِ وِالِانْتِظارْ

صمود

بطلا الأبطال كلّهم في الألبوم كانا المكس والماسترينج اللذان تولّاهما كلّ من خيام اللامي وجون دينت على الترتيب، ولا شكّ بأنّ فضل هاتين العمليّتين الدقيقتين فاض على اللحن، وتسبّب في وجود كثير من الميزات التي ذكرناها، فبفضلهما تحوّلت الأصوات الغنائيّة إلى آلات تصرخ، وبفضلهما غابت الكلمات وتشوّهت، وبفضلهما تصاعد الإيقاع الشعبيّ وتفوّق على الإيقاع الغربيّ، في لحظات النشوة تحديدًا، وبفضلهما أيضًا تحوّل اليأس إلى حالة من اللامبالاة.

لا يجد الثلاثيّ؛ تامر، ومريم، وموريس، سببًا مباشرًا لاختيار عنوان الألبوم، لكنّهم – على ما يبدو – يتركون التحليل للمتلقّي، وفي هذا المكان يمكن عرض مقترحات عدّة، يرضيني أن أختار منها تلك المتعلّقة بالمناطق الخافية في الدماغ، أو في المجتمع، أو في النفس. هذا تأويل يمكن عدّه منسجمًا جدًّا مع الأغنيات العشر.

يمكننا القول، بالفم الملآن، إنّ ألبوم "الإخفاء" نموذج دقيق وحقيقيّ للموسيقى البديلة، ومثال جدير على الجرأة في الطرح، وعلى الرغم من الزوايا التي تناولها، والبيئة الصعبة التي تموضعت فيها الأغنيات: السّكر، والفقر، والغدر، واليأس، والتعب، لم ألمس فيه تحريضًا على البشاعة أو الاعتداء، وهذا صمود أراه مبهجًا في هذا الزمن.

 

سلطان القيسي

 

شاعر وكاتب من قضاء يافا، يحمل الجنسيّة الأردنيّة ويقيم في عمّان، يكتب في الصحافة العربيّة. صدرت له مجموعتان شعريّتان؛ 'بائع النبيّ' عن دار موزاييك - عمّان، و'أؤجّل موتي' عن دار فضاءات - عمّان، وترجمة 'الوطن - سيرة آل أوباما' لجورج أوباما، الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكيّ باراك أوباما، عن مؤسّسة العبيكان، الرياض.