إنّهم يغنّون في جنازة!

جانب من تشييع الفنّانة المناضلة ريم بنّا | وديع عواودة

 

لا تشغلنا الجنازات، عادةً، ولا ندّعي "فنّ تنظيمها"، وباستثناء ما تنشد جدّاتنا من أهازيجَ ونواح، لا نملك من أمر الجنازات شيئًا. لم يعتد معظمنا على الرثاء، أقصد الرثاء بحقّ، الرثاء الأشبه بنصّ تأمّليّ عميق، الرثاء المبنيّ على سبر غور الفقيد وفهمه، لا كلمات التأبين المملّة.

لا نتقن هذا "الفنّ"، ولم نطوّره، فكيف إن كانت الجنازة كما شاهدناها أوّل أمس؟ وكيف إن الفقيدة ريم، ريم بنّا، التي لمّحت إلى اعتزالها جنازتها إن تحوّلت حديثًا عن آلام المفاصل... ساخرةً كتبت.

الأصعب في الجنازات المسافة الفاصلة بين المسجد/ الكنيسة والمقبرة، في الكنيسة والمسجد يتكفّل رجال الدين والجدّات بالأمر، صلاة ونواح، صلاة ونواح، صلاة ونواح؛ أمّا في تلك المسافة فلا شيء تقليديًّا ورثناه، البكاء؟ ربّما. النواح؟ منذ متى ينوح الرجال في بلادنا؟

أنا، كالآخرين، لا أعرف ما يمكن فعله في المسافات الفاصلة بين الكنيسة والمقبرة، غير تأمّل الحاضرين.

 

 

فراس ينظر في وجوه الموجودين، زهيرة تنظر إلى وجه ريم كثيرًا، وإلى وجه أبناء ريم أكثر. دلال أبو آمنة ترتبك عند مدخل القاعة، وسلام معها، لكنّهما حين رأتا الجثمان سارعتا إليه. نضال بدارنة هنا، لكنّه تخلّى عن سخريته الدائمة من جنازاتنا كما في عروضه، وجهه أحمر يكاد ينفجر، أمامه حسن وهبة. حنين زعبي جاءت قبل المراسم بقليل، تدخل مسرعة مباشرة إلى القاعة لتلقي نظرة على جثمان ريم، ولتبحث عن فراس. خرجت بعد ذلك، سمعتها تقول ما كتبته لاحقًا في صفحتها على فيسبوك: "نحصي بشكل مختلف مَنْ نودّعهنّ مع شعور أنّنا لم نوفيهنّ حقّهنّ في حياتهنّ... مَنْ كنّا نراقب مواقفهنّ بتقدير عميق، لكن بصمت"، وتستدرك: "هاي اللحظة إلها معنى". في المقبرة رأيت أمل مرقص كأنّني أراها للمرّة الأولى، على الرغم من سيري إلى جوارها طوال مسار الجنازة، كانت هناك وكأنّها تبحث عن عناق وكتف تضع رأسها عليها، كما يبحث الآخرون. في المقبرة طبيبة، تقول: "زارتنا في رمبام قبل شهر، وعدتنا أن يكون ألبومها المقبل خاصًّا"، تردّ عليها أخرى: "وبالفرنساوي، مكنتش تخلّي مريضة سرطان إلّا وتخفّف عنها"، سيروي كثيرون في هذا الموضوع، وسيُسمع عن حديثها مع ضحايا السرطان طوال الجنازة. لكلّ مشيّع مع ريم حكاية!

دلال وسلام وأنوار شرارة، ومعهنّ إلهام دعبول، أنقذن الموقف. بدأن داخل القاعة بإنشاد "عذّب الجمّال قلبي عندما اختار الرحيل"، الاستغراب يسيطر على الحضور، التابوت مرفوع ملفوف بعلم فلسطين والورود، ترفعه السواعد تعبة، وهم يستغربون الغناء في مثل هذه المناسبات، ألم أقل لكم إنّنا لا نتقن هذا الفنّ؟

من توابيت الضحايا سوف يعلو

علم يقول: قفوا! قفوا!

واستوقفوا!

لا؛ لا تذلّوا!

(محمود درويش، كفر قاسم).

 

الاستغراب تبدّد أغنية بعد أخرى، وحين أنشدن "موطني"، سيطرت الألفة على المكان، وانضمّ إليهنّ مَنْ صوته جميل، ولاحقًا، خطوة خطوة، وأغنية أغنية، انضمّ الجميع للغناء... نعم، نحصي الجنازة بالأغاني.

غدًا سيُقال هذا غنّينا في جنازته خمس أغنيات، وتلك استفضنا في الغناء حتّى حلّ الليل وبكى القمر.

لم أشارك في جنازة سار فيها الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، أستمع إلى المشاركات والمشاركين، إلى تمتماتهم وأهازيجهم، وأرقب ركّاب الحافلات، وأولئك الذين خرجوا إلى شرفات بيوتهم. لم تشهد الناصرة جنازة يسير فيها المشيّعون وهم يغنّون، يتمايلون، ولا أحدّد هنا إن كانوا يتمايلون طربًا... أو وجعًا.

أمرّ في أجزاء متقطّعة من مسار الجنازة يوميًّا، وفي المظاهرات أكون هتّيفًا عادة، يهتف ويرقب عيون الناس، في الشرفات، فضولهم يسوقهم من أمام التلفزيون إلى الشرفات والشبابيك، من البثّ المباشر إلى قلبه. شعور آخر لا أعرف كنهه، سيطر على عيون الناس في شرفاتهم، يتجاوزهم إلى عيون ركّاب الحافلات، شعور يتراوح بين الحزن والإعجاب والإحساس بالفقد. أمّ محمّد في شرفتها واقفة، تتّكئ على عكّازة... واقفة؟ ظننتها سنواتٍ لا تمشي، لم أرها واقفة من قبل! سمير، المصوّر، لم يترك سورًا إلّا وتعربش عليه، الكاميرات تنتقل من كتف إلى أخرى، والأكتاف على مدّ البصر، إنّها لا تنتهي. أكتاف للمواساة، وأكتاف للحطّة الفلسطينيّة، وأكتاف للكاميرات... وأكتاف لحمل النعش.

 

 

ويستمرّ سمير في تعربشاته، قبل الجنازة كان مشغولًا بالمقابلات، يحمل المايكرفون ويسأل، سأل حنين، سأل سعيد، لكن عندما انتبه للغناء في الجنازة أعطاني المايكرفون واختفى... لا كلام ولا مقابلات الآن، إنّهم يغنّون في جنازة! ليس سمير وحده، الصحافيّون الذين ذرعوا المكان قبل دقائق لمقابلة أبو السعيد وأبو الطيّب وآخرين، ويفكّرون كيف ينجزون تقريرًا في دقيقتين، كأنّ الذهول تخطّفهم الآن.

حين خرج النعش إلى ساحة العين، كانت الجلبة واضحة، أحاديث غير مفهومة، الإسلاميّون لم يسمعوا لريم إلّا قصيدة رابعة العدويّة، والجبهويّون لم يسمعوا لها إلّا "وأعطي نصف عمري..."، عصام مشغول في البثّ الحي، حَجّاج أعلى البئر يحاول التقاط صورة، أمير يسأل عن أزمة السير، أحاديث عاديّة، إلى أن خرج الناس، وقع أقدامهم بدأ يرتفع، يرتفع، بإيقاع وقع المشيّعين... يتجمّع الناس ويرتفع، يتجمّعون أكثر ويرتفع، ثمّ يخفت، مع بدء الإنشاد، يخفت على وقع صوت المغنّيات، يخفت كلّما علا صوت ريم تلحمي، ويخفت كلّما قوّمت سلام بيدها العُرَبَ أو استبقت كلام المقطع المقبل.

أتمتم في سرّي: أيّ شيء أتمنّاه أكثر من أن يسير المشيّعون في جنازتي وهم يغنّون؟

يسير النعش إلى حيث يجب أن يسير، ريم في مقدّمته تزهو، وعلم فلسطين يعلوها، والناس دونهما ومن خلفهما يغنّون... يا الله! أيّ قصيدة هذه؟ لو أنّني شاعر! أو لو أنّني رسّام! غير ذلك، لو أنّني مغنٍّ يغنّي مع المغنّيات... وأندب.

عند الدفن، وأنا أرقبه، وأنا أرقب رشا ترتقي عتبةً في المكان لترقب النعش وهو يوارى، وأنا أرقب عمّار والعبرات تخنقه، وأنا أرى الجميع يعزّي الجميع هنا، وأنا أرى الناس ما عادت تميّز أبناء عائلتها عن جمهورها، سيطر محمود درويش عليّ مرّة أخرى:

أنا الأرضُ

والأرضُ أنتِ

خديجةُ! لا تغلقي البابَ،

لا تدخلي في الغيابْ

سنطردُهم من إناء الزهور وحبل الغسيلْ

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليلْ.


إنّه فنّ، فنّ الارتجال في الجنازات.

 

أحمد دراوشة

 

ناشط سياسيّ وطالب في معهد 'التخنيون' بحيفا. يعمل صحافيًّا في موقع عرب 48. شارك في إعداد عدد من البرامج الوثائقيّة والإخباريّة، والأفلام الاستقصائيّة، لصالح التلفزيون العربيّ وقناة الجزيرة.