بديل يوازي الأصيل: عن "مهرجان الكمنجاتي" و"إكسبو" فلسطين

من "معرض موسيقى فلسطين"

 

يقترح الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ، خلال نيسان (أبريل) الحاليّ، مشهدًا موسيقيًّا مكثّفًا، من خلال عشرات الأمسيات، والمهرجانات، والمبادرات التي تشهدها أماكن تجمّعات الفلسطينيّين المختلفة. ولعلّ تسليط الضوء على نموذجي "معرض موسيقى فلسطين" (إكسبو) و"مهرجان الكمنجاتي"، يمكنه أن يوجز، إلى حدّ بعيد، التوجّهات والسياسات المضمونيّة – البنيويّة لدى المشتغلين في هذا الحقل.

بديلة

أربعة وعشرون فنّانًا وفرقة موسيقيّة استضافهم "معرض موسيقى فلسطين" في دورته الثانية، ما بين 11 – 13 نيسان (أبريل) 2018، قدّمت غالبيّتهم ما يُعرف بـ "الموسيقى البديلة"، التي ما زالت حدود تعريفها، بصفتها نوعًا موسيقيًّا، غير واضحة المعالم تمامًا لمن يبحث عن هذا التعريف وفيه.

 

 

الهيب هوب، والروك، والبوب، والجاز، والراب، والموسيقى الإلكترونيّة، والسطْوَنَة، واستثمار خصائص موسيقى الشعوب والجمع بينها، واعتماد الصوت البشريّ "أداة" لحنيّة مجرّدة، وغيرها؛ أشكال وتقنيّات يعتمدها هؤلاء الفنّانون والفرق لطرح مقولاتهم الموسيقيّة. ومتى حضرت الكلمة، فإنّها تميل إلى ما هو مُفارِق عادة، بالاعتماد على لغة سلسة، بسيطة، غير متوقّعة، فجّة، مغايرة في نطقها، معتمدة على المحكيّات شديدة التمسّك بمحلّيّتها، ساذجة، تعتني بالهامشيّ، بالإضافة إلى سمات أخرى عديدة تأتلف ليكون نصّ الأغنية.

تستدعي هذه الأنماط الموسيقيّة، عادة، "طقوس" تلقٍّ راكمها منتجوها وجمهورها، وتعارفوا عليها حتّى غدت بمنزلة "الشرط" المرافق والضابط لها، وهي تنسحب حتّى على مساحات عرضها، ويمكن وصفها مجتمعة بـ "الثقافة التحتيّة" (Underground culture)، حيث إعلان الخروج على النظام، والسائد، والمألوف، والتأكيد على التفكيك والرفض، مع انشغال بالمضامين المفاهيميّة أحيانًا، المُنَكَّهَة بخليط من الواقعيّة والوجوديّة والفوضويّة في آن.

Fuck The System

Fuck The System""... تُرى أين تجد هذه العبارة، وهي بمنزلة الشعار لدى جمهور هذه الثقافة، محلًّا لنفسها في فندق "الجراند بارك" برام الله، الموقع الذي اختاره القائمون على "معرض موسيقى فلسطين"، للعام الثاني على التوالي، مساحة لمبادرتهم هذه؟ وهل يمكن التغاضي عن هذه الجزئيّة أمام حقيقة أنّ الحيّز أساس في توليد المضامين والتأثير فيها؟ هل يمكن تقديم هذه الأنماط الموسيقيّة تحديدًا، ضمن ظروف عرض تشبه تلك المرافقة لحفلات مطربين جماهيريّين نجوم، مثل محمّد عسّاف أو طوني قطّان مثلًا؟ وهل تتصالح البديليّة الخارجة على النظام مع كتيبة من رجال الأمن التابعين لشركة خاصّة، تفتّش جسدك، باللمس، متى خرجت من القاعة ودخلت إليها، إن كنت "ذكرًا" تحديدًا، ليزيد الأمر سوءًا إن كانت هيأتك هيئة "دود" (من العبريّة: דוד)، بينما الحناجر على المنصّة تصدح بالمفاهيم الكويريّة، واللاجَنْدَرَة، واللاتصنيف، واللاأحكام مسبقة؟

ومع أنّ هذه الأنماط تجذب، غالبًا، الشريحة الشبابيّة العشرينيّة، لكن هل هذه الأنماط الموسيقيّة، بمضامينها وما تستلزمه من "طقوس"، قادرة على ملاءمة نفسها إلى شريحة عمريّة أقلّ من 18 عامًا، حضرت فعاليّات المعرض بكثافة هذا العامّ؟ بل وبدا أنّها غالبة على ساحة الرقص أحيانًا؟ هذا لا يعني أنّ هذه الشريحة، التي تعيش سياقًا معلوماتيًّا وتقنيًّا شديد التدفّق والتحوّل بما له من تأثير في صياغة الوعي والهويّة، لا يحقّ لها أن تعيش مثل هذه التجارب الثقافيّة، لكن السؤال يكمن حول الجدوى، لدى المبدع والمتلقّي معًا، في أن يقدّم الأوّل للثاني منتجًا ضمن علاقة قد لا تتعدّى الجانب الترفيهيّ والإمتاعيّ، إلى طرح أسئلة مفكّكة وناقدة حول مفاهيم كبرى، ولا سيّما مع مثل هذا النمط من الفنون.

الصوت المهمّ

تجاوزًا لذلك، وغيرها من ملاحظات تنظيميّة وفنّيّة يمكن تسجيلها، فإنّه لا مفرّ من الانفعال أمام القدرة على جمع هذا الكمّ الفلسطينيّ من الفنّانين والفرق، بأشكالهم وتقنياتهم الموسيقيّة المتفاوتة، وخلق مساحة موسيقيّة شديدة الغنى والتنوّع، جريئة في مضامينها، وكذلك في محاولتها تصميم حيّز في قلب رام الله، يمنح الناس قسطًا أكبر من الحرّيّة الفرديّة في علاقتهم مع الإبداع، غير الاستهلاكيّ تحديدًا، وهي المدينة التي ما زال يسيطر على مشهدها الثقافيّ شيء من "محافظة" ثقيلة، يمارسها حتّى من يعدّون أنفسهم "ليبراليّين"، على الرغم من مركزيّتها اللاهثة نحو "الحداثة"، ولعلّ في النقاشات التي شهدها المجتمع الفلسطينيّ خلال السنوات الأخيرة، وكان لهذه المدينة المركز حظّ دائم منها، حول منع/ حظر/ ملاحقة/ إزالة إنتاجات ثقافيّة، ما يؤكّد على ذلك.

ولهذا، فإنّ "معرض موسيقى فلسطين"، والمبادرات التي تشبهه، بما يوفّره من أجواء اجتماعيّة، ومضامين جريئة، وتوجّه وطنيّ جامع، يُعَدّ صوتًا مهمًّا، اجتماعيًّا وسياسيًّا، وتحديدًا في تسجيل مقولته حول الحالة الاستعماريّة، وتجلّياتها المؤسّساتيّة الفلسطينيّة.

تراثيّة وتقليديّة

لم تتمكّن جمعيّة الكمنجاتي فكاكًا من قوّة حضور الموسيقى البديلة، فلسطينيًّا وعربيًّا، فاستضافت في الدورة الثالثة من مهرجانها كلًّا من الفنّانة اللبنانيّة ياسمين حمدان، والمُسَوْطِنَة الفلسطينيّة سما عبد الهادي، وكلتاهما معروفة بإنتاج الموسيقى الإلكترونيّة والتحتيّة ((Underground، بالإضافة إلى كونهما تستثمران عناصر موسيقيّة تراثيّة، وتدمجانها مع عناصر غربيّة وعالميّة؛ ولعلّ هذا الاستثمار لديهما ما يشرح استضافتهما ضمن مهرجان مخصّص للموسيقى التراثيّة والتقليديّة، بعنوان "رحلة الروح"، كونه "رحلة موسيقيّة من خلال ثقافات وتقاليد العالم من أرض فلسطين إلى قلبها، القدس"، كما جاء في تعريفه.

مئات المغنّين، والعازفين، والراقصين، والفنّيّين من مجال الصوت والموسيقى، ينتمون إلى أكثر من 20 جنسيّة، غالبيّتها من آسيا، يقدّمون على مدار 18 يومًا، مشهدًا فنّيًّا تراثيًّا تقليديًّا شديد الغنى والتنوّع، حيث الموسيقى الصوفيّة، والمدائح النبويّة، والابتهالات، والأناشيد، والترنميات، والأغاني التراثيّة الفلسطينيّة والشاميّة، ومن ضمنها البدويّة، وكذلك الموسيقى التركيّة الكلاسيكيّة (أو العثمانيّة)، والفارسيّة، والبيزنطيّة، والشعبيّة الخليجيّة، والعسكريّة الصينيّة، والملاحم الغنائيّة والشعريّة، والأوبرا، والأغاني العربيّة الطربيّة، والموسيقى الشعبيّة من ثقافات وحضارات مختلفة، بالإضافة إلى الموسيقى والأغاني المرافقة لعروض رقص، مثل الفلامنغو الإسبانيّ، والكاثاك المغوليّ، والرقص التقليديّ الأوريغوريّ، وغيرها.

 

من عرض "طريق الحرير" ضمن مهرجان الكمنجاتي

 

التمسّك بالروحانيّ والجماعيّ

مقولة هذا المحفل الفنّيّ الضخم، إذًا، التمسّك بالقديم والأصيل، بالروحانيّ والأسطوريّ، بالفخم والمهيب، بالشعبيّ والتراثيّ، والتأكيد على الموسيقى جسرًا بين الشعوب والحضارات، التي تلاقحت وتبادلت التأثير على مدار قرون، إن كان في استخدام الآلة وتطويرها، مثل القانون والعود؛ أو تأليف اللحن، مثل اعتماد المقام؛ وكذلك المضامين، وتحديدًا الروحانيّة والماورائيّة.

وهي مقولة تخالف كثيرًا، إلى حدّ التضادّ، مقولة "معرض موسيقى فلسطين"، حيث الانهماك شبه الكلّيّ بالمحلّيّ مقابل العالميّ، والابتعاد شبه التامّ عن التراثيّ والتقليديّ لصالح التجريبيّ والبديل، والتركيز على الفرديّ بالأساس، وإن كان نقطة انطلاق نحو الجمعيّ، والهبوط من السماء إلى الأرض، والانشغال بقضايا الإنسان المعاصر وأسئلته، ولا سيّما المادّيّة، أكثر بكثير ممّا هو مرتبط بالوجدانيّ والتاريخيّ.

برك سليمان وقلعة مراد في قرية أرطاس، جنوب بيت لحم، كانت فضاءً لـ "طريق الحرير"، العرض المركزيّ ضمن مهرجان الكمنجاتي. مهابة التاريخ وغموضه في طبقات المبنى الأثريّ، تلتقي مع لوحات بصريّة ضخمة وألعاب من الضوء والظلال، تصوّر تعدّد الثقافات وروعتها، وبساط ألوان من العازفين والمغنّين والراقصين والمؤدّين أسفلها، ينتقلون عبر مشاهد يَنْظِمُها ماركو بولو، من خلال نصّ مأخوذ من رحلته الشهيرة، "كتاب العجائب"، من فينيسيا إلى أواسط آسيا.

 

من عرض ياسمين حمدان ضمن مهرجان الكمنجاتي

 

جاب هذا العرض أماكن مختلفة ذُكِرَتْ في رحلة بولو، ومع كلّ مرّة يحلّ ضيفًا على بلد ما، يكون التركيز على ما جاء في الرحلة عن هذا البلد تحديدًا، لذا كانت القدس خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، عنوان العرض المركزيّ بنسخته الفلسطينيّة، بمشاركة الممثّل عامر حليحل (راويًا)، والفنّانة دلال أبو آمنة (غناءً).

لن يُعرض "طريق الحرير" سوى مرّة واحدة خلال المهرجان؛ عرضٌ لا بدّ وأنّ تنظيمه كلّف عشرات آلاف الدولارات، ليحضره بضعة مئات فقط، ما يدفع إلى تساؤل مربك عن ثنائيّة خسارة فرصة مشاهدة مثل هذا الجمال من جهة، والحاجة إلى كلّ هذا "البذخ" الفنّيّ من أجل نخبة محدودة من الناس من جهة ثانية، وأنا أكيد بأنّ أهل الخضر، وهندازة، ووادي رحال، ومخيّم الدهيشة، وغيرها من البلدات المحيطة بموقع العرض، كانوا سيفرحون لو وُجّهت لهم دعوات لمشاهدة عرض يُنظّم في ضيافتهم، وتقع في مركزه عاصمتهم، القدس.

متى؟

وعلى الرغم من هذه الملاحظة، وهي شأن تسويقيّ بالأساس يعاني منه الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ بعامّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أسعار البطاقات لكلّ من فعاليّات وعروض المحفلين الموسيقيّين المتناولين في هذه المقالة، تعبّر عن حساسيّة وتفهّم تجاه جمهور الهدف، فهي تُعَدّ أسعارًا معقولة ومقبولة، ولا تمثّل عبئًا يعيق الإقبال على مثل هذه الفعاليّات.

 

الموسيقيّ اليونانيّ كيرياكوس كاليتايديس والممثّل عامر حليحل ضمن مهرجان الكمنجاتي

 

يوجز المحفلان الموسيقيّان، "معرض موسيقى فلسطين" و"مهرجان الكمنجاتي"، توجّهين مركزيّين في صناعة الموسيقى وتلقّيها فلسطينيًّا، كما أسلفنا، ويفتحان الباب أمام أسئلة عديدة حول تنظيم الفعل الثقافيّ ومأسسته، أولويّاته، وتحدّياته، واحتياجاته. ولعلّ أكثر تلك الأسئلة إلحاحًا لديّ، عن مدى مركزيّة الخبرات والطاقات الفلسطينيّة وتوظيفها في هذا الفعل، إذ إنّ الوقوف على أسماء طواقم العمل والداعمين، توحي بأنّ المهمّات الفنّيّة والتقنيّة الأساسيّة، والجهات التمويليّة، والصلاحيّات الإداريّة، يضطّلع بكثير منها غير فلسطينيّين، ولا سيّما أوروبيّون، فمتى نرى الخبرات والطاقات الفلسطينيّة تتعدّى دور الوكيل والشريك في محافل كهذه، دوليّة الطابع، لتقود الطواقم، وتضع الاستراتيجيّات والخطط، وتشرف على التنفيذ؟

 

علي مواسي

 

شاعر وباحث. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط ثقافيًّا وسياسيًّا في عدد من الأطر والمبادرات. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (2016)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع - عمّان.