السينابتك: كنبي يبشر بديانة جديدة

ليث الحسيني، السينابتيك

 

يصوّر ألبوم السينابتك الجديد "أمّ الموجات"، مجموعة متنوّعة من المواضيع والقضايا الّتي تهمّ الفرد، على الصعيدين العامّ والخاصّ؛ ففي أغنيتَي "بيتابريد" و"ضلّك" يبرز الجانب الاجتماعيّ، وفي أغنية "مطر" نجد موضوع العلاقات العاطفيّة حاضرًا وبارزًا. أمّا القضايا الأكثر شخصيّة من حياة الفرد، وصراعاته الداخليّة في عالم معادٍ وبارد، فنجدها تحتلّ مساحة كبيرة في الألبوم.

 

الميتا

إنّ ما يميّز هذا الألبوم، وما هو حقًّا استثنائيّ في عالم الموسيقى، على الصعيدين المحلّيّ والعالم العربيّ على حدّ سواء، يكمن في البُعد "ميتا" (Meta)، المصطلح الدقيق في اللغة الأكاديميّة "الواصفة"، ويمكن هذه الأداة أن تكون في نصّ، فتُسمّى "النصّيّة الواصفة"، وإن وُجدت في شعر، فإنّها تُسمّى "الشعريّة الواصفة"، ولكن بالإمكان أيضًا استعمال المصطلح المأخوذ عن الإنجليزيّة "ميتا"، الّذي يعني حرفيًّا "فوق". نحن نتحدّث عن مستوًى فوق مستوى النصّ، الّذي يضيف بعدًا آخر إلى النصّ وإلى المضمون. في كلّ عمل فنّيّ، أفيلمًا كان أم رواية أم أغنية، تكمن هذه الإمكانيّة بوجود بُعد "ميتا"، لكنّه مشروط بأن يتناول موضوعًا واحدًا ووحيدًا: ذاته.

 

 

لنأخذ الشعر مثالًا: الشعر الميتا هو الشعر الّذي يتناول موضوع الشعر، إنّه شعر واعٍ لذاته؛ يتحدّث عن نفسه من خلال نفسه. وكذلك في المسرح، فعلى سبيل المثال، مسرحيّة "ميتا" (Meta-Theatrical) هي مسرحيّة تتناول موضوع المسرح من خلال عمل مسرحيّ. وأخيرًا، في الموسيقى أيضًا يمكن أغنيةً أن تكون "ميتا"؛ من خلال طرحها موضوع "الموسيقى"، و"الأغاني" و"كتابة الموسيقى".

يتعامل السينابتك في أغانٍ عدّة من الألبوم، مع مسألة "كتابة الراب" و"كتابة الأغاني والموسيقى"، فهذه الأغاني تتناول موضوع كتابتها، وكونها أغنية في ألبوم غنائيّ. تصبح الأغنية في نهاية المطاف أغنية تتحدّث عن نفسها من خلال نفسها، ويصبح الألبوم عملًا فنّيًّا واعيًا لكونه عملًا فنّيًّا مصنوعًا من كلمات وأصوات.

بعض الأغاني يعرض هذا الموضوع بوضوح، وبعضها الآخر يخفيه تحت غطاء موضوع آخر؛ فيصبح للأغنية مستويان: مستوًى مكشوف وآخر مخفيّ.

ما يجعل هذا الفعل من الإخفاء والكشف عند السينابتك أكثر إثارة للاهتمام، مزجه بصور واستعارات دينيّة، وبخاصّة توراتيّة.

 

زَيّ موسى

دعونا نبدأ من البداية.

تشير أغنية المقدّمة للألبوم "الطوفان"، إلى قصّة النبيّ نوح والطوفان، الّتي يقرّر فيها الله أن يُعيد الأرض إلى حالة ما قبل الخلق، من فوضًى مائيّة؛ ليُعيد تشكيلها في انعكاس الخليقة. يختار الله نوحًا منقذًا إلهيًّا للبشريّة؛ إذ يأمره ببناء سفينة خشبيّة، لحماية عائلته وكلّ ذكر وأنثى من الفصائل الحيوانيّة، ليخرجوا بعد الطوفان ويُعيدوا إنشاء الخليقة. وبالمثل، قصّة النبيّ موسى تردّد أيضًا فكرة المنقذ، الّذي يُختار إلهيًّا، والّذي يأمره الربّ بنقل شعبه إلى أرض "الحليب والعسل"، من خلال شقّ البحر الأحمر.

 

 

في أغنية "الطوفان"، يقدّم السينابتك نفسه كنبيّ آتٍ ليحفظ شعبه، وينقله إلى مكان أفضل، فيقول: "زيّ موسى النار بالليل حاكتني، وقالتلي يا ليث الحزين/ نطلع الجبال جهال وننزل حاملين وصايا". مشابهًا لموسى، يحمل السينابتك وصيّة لنا نحن الشعب المستمعين، ويكمل:

أشقّ البحر وأمشي فوق الصفايح

أنا وناسي لبعيد فيهم رايح

بعيد عن كلّ طبع... عن كلّ قمع كان من قبل

وإن لم تستطع أن تقتنع ضلّ بالأصل

أو الحق الصوت الغريب

وإرمي كلشي وراك

بهذا المعنى، النبيّ الّذي جاء ليُظهر للناس مسارًا جديدًا ودينًا جديدًا، يصبح في هذه الحالة السينابتك "الفنّان"، الّذي يخاطب مستمعي الأغنية، ويقول لهم: أنتم الّذين تتبعون كلّ شيء أليف ومعتاد عليه، يمكنكم الاستمرار في الخوف من التغيير ومن ثَمّ الفشل، أو يمكنكم اتّباع "الصوت الغريب"؛ فالصوت الغريب هو صوت السينابتك وفنّه، وألبومه هو الأرض الجديدة من "الحليب والعسل".

السينابتك يقدّم نفسه على أنّه النبيّ الجديد، في عالم "الراب" الّذي جاء ليصنع التغيير؛ لينقذنا جميعًا من عبء الرتابة. يمكن أيضًا اعتبار هذا المقطع نقدًا للمغنّين الآخرين، الّذين يصنعون المزيد ممّا هو مألوف، بدلًا من أن يستكشفوا طرقًا جديدة، وأدوات جديدة من الابتكار والتجديد.

في نهاية الأغنية، يقول:

أمّ الموجات... أمّ الموجات... قوموا يا أموات

لنروح بعيد.

 

"أمّ الموجات" هو الألبوم، الفيضان والطوفان العظيم، الّذي سيوقظ الموتى ويزيل الصمت؛ ليغسل كلّ شيء بالماء الجديد، إنّه الفيضان الّذي سيُعيد صناعة الموسيقى و"الراب" وفق السينابتك.

 

أغنية "أمّ الموجات"

الأغنية الرابعة في الألبوم، وتحمل نفس الاسم "أمّ الموجات"، تبدأ بوصف صراع داخليّ لفرد ممزّق، بين دراسته الجامعيّة وشغفه الموسيقيّ؛ هذا الصراع يؤدّي إلى تدفّق كبير من المشاعر، الّتي تتأرجح بين الحاجة إلى اللحاق بالقطيع، والوفاء إلى ذاته وأحلامها، ومع ذلك فعندما يقول: "خايف تخون الحروف" و"خايف الحالة تلزمني إنّي ألزم السكوت"، يبدأ هذا الصراع باتّخاذ شكل آخر: صراع الكاتب/ الفنّان مع الكتابة، ومع خلق عمل فنّيّ.

 

 

وتباعًا لفكرة أغنية المقدّمة، يقول:

جاييك بأمّ الموجات لتشيل كلشي، ونعيد من جديد

قارب معمول من أصوات

يا بينقذني يا بغرق فيه

البُعد "الميتا" للأغنية يكشف أنّ القارب هو في الحقيقة الألبوم، والأصوات هي الأغاني.

ألبوم "أمّ الموجات" الألبوم الأوّل للسينابتك؛ ولذلك هو قاربه الّذي إمّا سينقذه عن طريق نجاحه، ليجعل من السينابتك فنّانًا جديدًا في عالم الموسيقى، وإمّا سيفشل ويغرق مع ألبومه تحت المياه؛ أي تحت كلّ المحاولات الموسيقيّة، الّتي ضاعت تحت أصوات أعلى وأجمل.

هذه هي اللحظة "الميتا"، الّتي تكشف فيها قصّة النبوّة والطوفان، عن طبقة أخرى وقصّة أخرى عن عمليّة الكتابة، وعن الأغنية نفسها، كصوت في قارب الألبوم.

 

الفوضى الداخليّة

يُستخدم هذا الأسلوب – أيضًا - في أغنية "ريتالين"؛ حين تصف الأغنية صراع المتكلّم مع الفوضى الداخليّة في ذهنه، والّتي يصبح فيها قرص الريتالين الدواء المنقذ في لحظات "البرد والرعاش".

يشتاق المتكلّم إلى الريتالين في هذه اللحظات، ويقول إنّه لا شيء يمكنه إنقاذه، حتّى لو "ناجى عليًّا" وحتّى لو "نادى يسوعًا، والأسناد تغزّ يديه". في السياق "الميتا" للأغنية، تصبح الأيدي أعضاء الجسم المسؤولة عن الكتابة والإنتاج؛ ومن ثَمّ فالأسناد هي الّتي تخترق الأيدي، وتمنعها من الكتابة، كما الفوضى الذهنيّة تمنع المتكلّم من القدرة على التركيز والتفكير؛ يصبح الصراع أيضًا صراع الكاتب مع اللغة والكتابة، فيقول:

هي لي وحدها

تواسيني في زاويتي

قاتلتي مداويتي

قلمي وراويتي

 

 

الجملة الأخيرة في هذا التسلسل تُظهر - أكثر وضوحًا - البُعد "الميتا"، حيث يمكن اعتبار الأغنية كما لو أنّها تتحدّث عن حبوب الريتالين، الّتي تنقذ الفرد من صراعه الداخليّ مع الضوضاء والفوضى، ويمكن أيضًا اعتبار قرص الريتالين مجازًا للغة والكتابة، وتصبح عمليّة الكتابة الدواء الّذي يشفي ويقتل، في ذات الوقت.

تكشف هذه الفكرة عن العلاقة المركّبة للكاتب مع أعماله؛ إذ تصبح عمليّة الكتابة مصدرًا للعذاب والشفاء معًا، مثل قرص الريتالين الّذي ينقذ الإنسان من آلام وعوائق الـADHD والـADD، ولكنّه أيضًا يسبّب بعض الأعراض الجانبيّة، مثل فقدان الشهيّة، والأرق، والقلق، والصداع، وما شابه ذلك.

 

To Rap or Die

وأخيرًا، تصل أغنية "على بالي" إلى ذروة معالجتها لمسألة الكتابة؛ فتصبح مسألة حياة أو موت. في الأساس، تتحدّث الأغنية عن العلاقة المعقّدة للكاتب مع إنشاء عمل فنّيّ؛ فيقول في البداية:

نصحى من النوم نباطح دنيا باللحن

نطلع فاضيين برجع معبّي الصحن

 

منذ البداية، منذ لحظة الاستيقاظ، ثمّة صراع مع الموسيقى، مع الكلمات، مع الموادّ الّتي يُصنع منها الفنّ، ويصبح الطعام مجازًا للإلهام الفنّيّ، الّذي نأخذه من العالم الخارجيّ فنملأ صحننا؛ لنستطيع "طهي" مادّة جديدة؛ ينتج عن هذا الصراع سيرورة إنتاج تلاحق الفنّان في ذهنه - باله - فيقول:

على بالي طول الوقت

هارب هارب طول الوقت

زيح عني وعلّي الصوت

على بالي طول الوقت

 

 

ثمّة علاقة استحواذيّة وملحّة مع عمليّة الإنتاج؛ فالمتكلّم يهرب من كلّ شيء ليسمع الصوت، فينتج صوت جديد. الموسيقى والفنّ يتحوّلان إلى الملجأ الوحيد، ومن خلال كتابة موسيقى "الراب"، يهرب المتحدّث من الرتابة والـ "Silence" إلى عالم الأصوات والـ "Sirens"، والذروة تصل عندما يقول:

واللّي بعرفش معنى هذه الحياة

مسّكو قلم دلّه ع طريق البداية

وإذا بدّك تعرف إيش هي الغاية

جهّز حالك، To Rap or Die

القلم يصبح أداة البداية، بداية الإنتاج والكتابة، والهدف هو العيش والبقاء على قيد الحياة؛ فيصبح الفنّ العنصر الغذائيّ الأساسيّ للإنسان، وفي عالم الفنّان، أو بهذه الحالة مغنّي "الراب"، تفقد الحياة معنًى، ويصبح الموت أفضل من العيش من غير إمكانيّة إنتاج وإبداع. 

نهايةً، وكما ذكرت سابقًا، يرسم الألبوم كيف يمكن أن يكون لتعدّد المضامين في نصّ واحد، بُعد أعمق وأكثر إثارة؛ ما يجعل منّا – نحن المستمعين للأغاني - أشبه ببحّارة يبحرون في بحر عميق وواسع من المعاني والصور؛ إذ إنّ كلّ موجة أصوات تقذفنا إلى مياه زرقاء صافية، تعكس أضواء العالم والكون.

أظنّ أنّ الحالة الّتي شهدناها مؤخّرًا من انفعال جمهور الموسيقى البديلة لهذا الألبوم الجديد، تحسم تساؤل المتكلّم في أغنية "أمّ الموجات"، لكن - وفي نهاية المطاف - يتوجّب علينا طرح تساؤلنا نحن متلقّي هذا الفنّ: أستكون القوارب القادمة أكثر إثارة وجمالًا، تأخذنا إلى عالم أفضل من الأصوات، أم أنّ ثقوبها وخشبها البالي ستُلقي بها في بحر من صمت مميت؟

 

 

شادن هيب

 

 

من مواليد الناصرة عام 1993. حاصلة على البكالوريوس في الأدب الإنچليزيّ وتاريخ الفنّ والسينما من "جامعة تل - أبيب"، تدرس الماجستير في الأدب الإنچليزيّ في الجامعة نفسها.