سؤال الموسيقى... إتمام النقص

 

هل يمكننا أن نكتب عن الموسيقى، كما لو كنّا نعرفها؟ هل للنصّ الفلسفيّ أن يفسّر علاقتنا بالموسيقى؟ ثمّ أين تذهب الموسيقى بعد أن ننتهي من سماعها؟

في كتابه "مولد التراجيديا"، يقول نيتشه تلك العبارة المشهورة إلى حدٍّ مبتذل: "لولا الموسيقى لكانت الحياة غلطة". لكنّها الغلطة المقصودة، وهو لا يشير إلى الأحكام المنطقيّة الجافّة الّتي تُحدّد الخطأ - الصواب، ولا إلى التمييز القيميّ (الإكسيولوجيّ) بين ما تقبله ثقافة أو ترفضه أخرى، بل هي غلطة الحياة في الحين الّذي نتخيّلها بلا موسيقى، حيث تغيب عنّا الحقائق المتأتّية من خلال الأذن وسمعها، هذه الحاسّة الزمانيّة، المُثقَلة بالقصص والحكايات والأساطير، والمُلهِمة لتجارب الأنبياء والفلاسفة.

وَعِينا - من خلال الإصغاء - الفرق بين ما هو صوت للأشياء وآخر مختلف ينماز بالتناغم، وهو صوت العمل الموسيقيّ، واحتواء هذا العمل على التناغم، واللحن، والإيقاع، واللون الصوتيّ

إنّ الأذن أقرب إلى أن تكون حاسّة للخيال، حينما تُبدع العمل الموسيقيّ وحين تتلقّاه؛ "ذاك أنّ - الصوت - الّذي يُشكّل مادّة العمل الموسيقيّ وتستخدمه الموسيقى، لتبني عليه تركيباتها المعقّدة، وأعني بها الأصوات الموسيقيّة المفردة والأنغام، لا يُستمدّ من الطبيعيّة مباشرة، وإنّما هو مادّة لا بدّ لها من وسائل مصنوعة، هي الآلات الموسيقيّة الّتي تصقل الأصوات وتنظّم ذباباتها، أو الغناء المدرّب الّذي يختلف كلّ الاختلاف عن أصوات الكلام أو الصياح المعتاد"[1]؛ إذ وَعِينا - من خلال الإصغاء - الفرق بين ما هو صوت للأشياء وآخر مختلف ينماز بالتناغم، وهو صوت العمل الموسيقيّ، واحتواء هذا العمل على التناغم، واللحن، والإيقاع، واللون الصوتيّ... وغيرها من عناصر تجعل الوجدان أمام تجربة فنّيّة مغايرة، هي تجربة العمل الموسيقيّ الّذي يمتاز بالفرادة.

 

السرّ

إنّ الموسيقى ذلك النوع من الفنّ المختلف عن أشكال الفنون الأخرى؛ فهي بطبيعتها أكثر الفنون استقلالًا، وليست فنًّا تصويريًّا أو تشكيليًّا لموضوعات يمكن الإشارة إليها، ولا فنًّا تُستمدّ عناصره من الواقع الخارجيّ مباشرة، ولا يمكن أن تُفهَم عن طريق ترجمتها إلى وسيلة أخرى من وسائل التعبير، بل هي تجربة فنّيّة تتقاطع فيها تلك المفاهيم المتناقضة؛ إذ إنّ قيامها على المزج بين الحسّ والخيال، والضرورة والحرّيّة، والداخل والخارج، وغيرها من مفاهيم تتوحّد في العمل الموسيقيّ، من دون أن تُظهره أو تجعلنا نكتشف سرّ هذا الفنّ.

مهما بلغت درجة معرفتنا – النظريّة والعمليّة - بفنّ الموسيقى، فإنّها لا تجعلنا نقف أمام عزف فريد ومختلف، ما لم ينطوِ أداء العازف على شيء من الموهبة الطبيعيّة

الموسيقى تلك التجربة الفنّيّة الّتي تُعادل معنى السرّ، سواء أعَلى مستوى تأليفها كان أم على مستوى التلقّي؛ لذا فإنّنا لا نستطيع أن نفسّرها بواسطة الفهم (كعمليّة ذهنيّة)، ولا المفهوم (مثل الخير والمنفعة)، كما كان يفترض أفلاطون في موقفه من الفنّ بعامّة، ومن فنّ الموسيقى بخاصّة؛ لهذا فإنّ الموسيقى غالبًا ما تبقى غير قابلة للتأطير المعرفيّ والتحديد المفاهيميّ، فهي مفتوحة على الوجدان الإنسانيّ، أكثر منه مسألة تعلّقها بالذهن البشريّ.

 

آليّة العمل

لكن ماذا عن آليّة عمل الموسيقى؟ تقنيّة صناعتها؟ هل يمكّننا الفهم التقنيّ لآليّة عمل الموسيقى من فهم الموسيقى؟ هل بإمكان مفاهيم مثل التناغم واللحن واللون الصوتيّ، أن تكشف لنا هذا السرّ الّذي تنطوي عليه الموسيقى؟ أو هل تمكّننا المعرفة النظريّة والمراس العلميّ من أن نُبدع في فنّ الموسيقى؟ أن تجعل شخصًا ممّن يجيدون التأليف والعزف يصبح بتهوفن أو موزارت أو شوبان أو ديبوسي، أو غيرهم من أسماء الأعلام الموسيقيّين الكبار؟

يقول أرسطو: "كذلك هو الحال مع الموسيقى، الّتي كلّما استمعنا لها رأيناها تستحضر ذلك الغائب المجهول، تُتمِّم نقصًا ما في داخلنا، أو نقصًا ما في الخارج والوجود".

الواقع أنّه مهما بلغت درجة معرفتنا – النظريّة والعمليّة - بفنّ الموسيقى، فإنّها لا تجعلنا نقف أمام عزف فريد ومختلف، ما لم ينطوِ أداء العازف على شيء من الموهبة الطبيعيّة؛ فالواقع "أنّه وفيما يتعلّق بإبداع العمل الموسيقيّ، فإنّ ثمّة فرقًا بين القطعة الموسيقيّة وعزفها. قراءة المدوّنة الموسيقيّة تعني سماعها ذهنيًّا، أمّا عزفها فيعني - إلى جانب ذلك - أداءها، وهذا يتطلّب مقدرة عالية قد لا يتمتّع بها جميع الموسيقيّين، وإتقانها قد يُضعف حماسة الآخرين ممّن لا يُحسنون العزف"[2].

 

المخيلة السمعيّة

إنّ أهمّ شيء لفهم قطعة موسيقيّة يكمن في المُخيّلة السمعيّة المتطوّرة عن وعي، وهذه يمكن أن يتمتّع بها أيّ إنسان ذي حسّ موسيقيّ  - أو لنقل مولَع بالموسيقى -، آخذين في الاعتبار أنّ إتقانها ليس سهلًا، ولا يكون بقراءة الكتب؛ فالقدرة على قراءة قطعة موسيقيّة تأتي من الممارسة الطويلة، والتجربة الموسيقيّة الفعليّة. إنّ قراءة النوتة - الموسيقيّة – ليست أيضًا مثل قراءة الرواية أو القصّة؛ فأكثر من نصف "اللغز" المتعلّق بقراءة القطعة الموسيقيّة، يكمن ببساطة في التمتّع بمُخيّلة سمعيّة متطوّرة وذاكرة موسيقيّة، مع تذكّر مختلف المركّبات الصوتيّة وما إلى ذلك، والاستماع إليها ذهنيًّا"[3]، حيث تخيُّل الصوت أو - بتعبير آخر - تصوُّر الصوت ورؤيته قبل سماعه.

إنّ قراءة النوتة - الموسيقيّة – ليست أيضًا مثل قراءة الرواية أو القصّة؛ فأكثر من نصف "اللغز" المتعلّق بقراءة القطعة الموسيقيّة، يكمن ببساطة في التمتّع بمُخيّلة سمعيّة متطوّرة وذاكرة موسيقيّة

إنّ شخصًا يُجيد تأليف نوتة موسيقيّة، لا بدّ من أن يتخيّل بناء الصوت وتركيباته المعقّدة كي يُبدع عملًا موسيقيًّا، وفي الأداء نلمس تلك المهارة، أي مهارة العزف، حين ترسم يد العازف ملامح الخيال الموسيقيّ، وتجسّده عبر الصوت، أو بتعبير آخر: إنّ الموسيقى غالبًا ما تجعلنا نرى تلك الوحدة في "الحسّ – اليد – الخيال"، نلمس الخيال كعمل يدويّ، مادّته تلك الثنائيّة المتعلّقة بلعبة "الصوت – الصمت". أمّا الصورة الّتي يُظهرها العمل الموسيقيّ - وإن كانت في أغلب الأحيان لا تحاكي أيًّا من الموجودات الطبيعيّة - فإنّها غالبًا ما تُتمِّم نقصًا ما في حياتنا، نقصًا في الأصوات الطبيعيّة أو في معرفتنا ووجداننا. إنّ الإنسان يُكمل ما تركته الطبيعيّة ناقصًا؛ يقول أرسطو: "كذلك هو الحال مع الموسيقى، الّتي كلّما استمعنا لها رأيناها تستحضر ذلك الغائب المجهول، تُتمِّم نقصًا ما في داخلنا، أو نقصًا ما في الخارج والوجود".

..........

[1] فؤاد زكريّا، التعبير الموسيقيّ (القاهرة: مكتبة مصر، 2002)، ص 13.

[2] علي الشوك، أسرار الموسيقى (دمشق: دار المدى، 2000)، ص 15.

[3] المرجع نفسه، ص 16.

 

 

كاتب ورسّام فلسطينيّ. حاصل على الماجستير في الفلسفة المعاصرة من "معهد الدوحة للدراسات العليا".