تريز سليمان: "موج عالي" تفريغ لحمولة ثقيلة

تريز سليمان | حمّودة بدارنة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لا يمكن الحديث عن هويّة موسيقيّة متوقّعة أو واضحة الحدود، عند متابعة تجربة الفنّانة تريز سليمان. ذلك لا يعني أنّها لا تشبه نفسها في كلّ مشروع تقدّمه لنا؛ هذا الشبه الّذي يتبيّن في الانحياز إلى الصوت المعاصر والمركّب والذكيّ، إلى الجمال البشريّ الّذي صار مادّة نادرة، وإلى البحث عن الجديد. عدا ذلك تبدو جوانب هذه التجربة الموسيقيّة كأنّها منفلتة وغير قابلة للفحص؛ لذلك، عند توجيه أسئلة عن الموسيقى والنصّ والغناء لفنّانة "فطريّة" وعالية الحساسية مثل تريز، ستصير منابع أعمالها الموسيقيّة ومصبّاتها معجونة بين الشخصيّ والعامّ، حيث لا يمكن فصلهما، أو للدقّة يصيران شيئًا واحدًا؛ فما غضبها تجاه الظلم الحاصل في العالم سوى غضب شخصيّ. في ألبومها الجديد "موج عالي" سنستمع إلى كلمات تنفجر وتصدح وتطبطب أكثر ممّا تقول، وإلى موسيقى أشبه بهمهمات وأصوات طبيعيّة موجودة في أجسادنا قبل أن نُولَد، كأنّها موادّ طبيعيّة خُلِقْنا منها ولم نعُد نسمعها، إلّا في موسيقى كهذه.

كان لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مع تريز هذا اللقاء، لنتحدّث عن تجربة العمل على ألبوم "موج عالي".

 

فُسْحَة: ما الّذي حاولتِ أن تحقّقيه في هذا الألبوم، على صعيد النصّ والموسيقى؟ هل بالإمكان تخيّل النتيجة قبل حصولها؟ هل كانت قريبة من مخيّلتك عنها؟

تريز: قبل أن يتبلور المشروع موسيقيًّا ونصّيًّا، أنظر إليه على أنّه حالة تفريغ. يبدو أنّني كنت بحاجة إلى أن أُفرّغ حمولتي؛ تلك الطبقات المتراكمة عليها أن تخرج إمّا بكلمة وإمّا بصوت وإمّا بأيّ شيء. كان التفكير في الجانر، والآلات، والنصّ، والهويّة الموسيقيّة، كان أمرًا ثانويًّا أمام ذاك الشعور الكبير بالحاجة إلى تفريغ هذه الحمولة الثقيلة.

 

فُسْحَة: وما هذه الحمولة؟

تريز: أصفها بعنوان الألبوم "موج عالي". هي أفكار ومشاعر مختلطة، تمسّ الشخصيّ والعامّ على حدّ سواء. كان هاجسي متوقّفًا عند البحث عن الصوت الّذي يعبّر عن هذه المساحة الحسّيّة والفكريّة. لا يمكنني التحدّث عن الشخصيّ بمعزل عن العامّ، والعكس. إيجاد الخيط يتجسّد باللغة الموسيقيّة والنصّيّة الّتي ستجمعهما معًا، وعلى نحو طبيعيّ بلا تفكير زائد، على نحو ليس مُهَنْدَسًا أو "مُفزلَكًا". عند العمل على الألبوم الأوّل "زهر اللوز"، كانت بداية الحرب في سوريا، كان عندي غضب وحزن وأسئلة كبيرة، لكنّي كنت متفائلة. كان ثمّة شيء داخلي يُشعرني بالأمل الّذي يلوّح لنا بالانتصار على الشرّ. أمّا في الألبوم الثاني "مينا"، فقد عملت عليه من منطلقات شبه فطريّة، نقّبت في الماضي عن قيم فقدناها وعن معانٍ صارت طيّة، كأنّي بحثت عن ذاك الشيء، الّذي يجعل منّي إنسانة سعيدة بنفس القدر الّذي جعل فيه من جدّتي إنسانة سعيدة كذلك. بالإمكان تسميته بحثًا عن أوجه الشبه والاختلاف بين إجاباتي وإجاباتها عن أسئلة السعادة والجمال.

 

فُسْحَة: وهل تعتبرين "موج عالي" امتدادًا لكلّ هذا؟

تريز: لا شكّ؛ فقد بان لي تمسّكي بالأمل الّذي غنّيته في "زهر اللوز"، والأسئلة الجديدة الّتي نبعت بعد ألبوم "مينا"، والّتي تصبّ في الفضول حيال شغفي وقدرتي على تمرير هذه الأسئلة لابني مينا؛ فالواقع ليس أمرًا واقعًا! الواقع لم يصلنا هكذا ونحن سارحون؛ هل سأحافظ على هذه الشرارة، هذه الشعلة، الرافضة لهذا الواقع؟

 

فُسْحَة: مَنْ يستمع إلى الألبوم يستشفّ قسوة ما، وفي الوقت نفسه يشعر بأنّ هذه القسوة مُضمَّخة بحسّ رهيف وإنسانيّ...  

تريز: لم أفكّر حين كتبت، كان مجرّد إصغاء للمشاعر المجرّدة من العقلانيّة والتفكير والتذاكي وتجنيد القدرات، كانت بوحًا صادقًا بصوت عالٍ، يخرج من مواضع ربّما لا يعرفها أحد، وإن كشف ذلك عن إنسانيّة يمكن استشعارها في الكلمات والموسيقى، فذلك قد يعني أنّ هذه المواضع هي كذلك، مواضع تبغي الحديث في الإنسانيّة.  

 

فُسْحَة: كيف تنظرين إلى الموسيقى الّتي خرج بها الألبوم، ولا سيّما أنّها لا تنتمي إلى أسلوب ناجز؟

تريز: أعتقد أنّ المزيّة الّتي تتمتّع بها موسيقى الألبوم، تأتي من معرفة ريمون حدّاد القديمة بي؛ فقد كان قادرًا على لملمة هويّتي الموسيقيّة المفتّتة وصقلها. ظروف العمل على الألبوم جعلته يعمل هو أيضًا دون أن يفكّر كثيرًا. أصغينا إلى فطرتنا الأولى، وإلى المساحات الّتي نعرفها جيّدًا ونثق بها. احتوى الألبوم على أغنية ذات طابع صوفيّ، وأخرى راب، وثالثة بوب. لو كنّا فكّرنا من قبل في نسق أو هويّة، ما كنّا وضعنا هذه الأغاني في نفس الألبوم. كان ثمّة بوصلة فطريّة مختمرة وجاهزة، ما لم يعُد معها الأسلوب الموسيقيّ مهمًّا. قد نعتبر هذا المزيج الناتج هويّة الألبوم.

بالإمكان القول إنّ العمود الفقريّ في المشروع يكمن في عمل ريمون، لكنّ التجربة مع الموسيقيَّين هيلغي بورباكن عازف الإيقاعات، وآيفند آرست عازف الجيتارات، اللذين لم ألتق بهما سوى خمسة أيّام، كانت تجربة عظيمة، علّمتني أنّ السرّ في هذه الصناعة أن يكون المرء دائمًا جاهزًا لتعلّم ما هو جديد، حتّى في اللحظات الّتي يعتقد فيها أنّه يعرف.

 

فُسْحَة: ما المنابع الشخصيّة والعامّة الّتي ولّدت النصوص؟

تريز: إنّ تجربة الانفصال عن الجنين عند الولادة فجّرت عندي أفكارًا جديدة. الألم الّذي تمرّ به الأمّ ألم هذا الانفصال. ربّما لا نرى في هذه المسألة إلّا بعدًا شخصيًّا، لكنّها جعلتني أنظر إلى الحياة بمنظار آخر، أكثر الأمور بديهيّة تصبح غير مفهومة. قول كلمة "مبارك" للأمّ، هذه الكلمة المبرمجة، القالب، مَنْ قال إنّها بحاجة إليها؟ ربّما تحتاج إلى كلمات أو لغة أخرى. الغضب الّذي أتحدّث عنه خرج حيال جميع القضايا المتكلّسة، الّتي لا نسأل سؤالًا واحدًا تجاهها، حيال الأشياء الّتي نجترّها ولا نعيد التفكير فيها. إنّ هذا ينطبق على جميع نواحي الحياة العامّة. ردود أفعالنا ناجزة، أجوبتنا ناجزة. انظري إلى الكوارث الّتي تحدث حولنا. متى غضبتِ، غضبتِ فعلًا آخر مرّة؟ متى غضبتِ ولم يتلاشَ غضبك فحرّكك؟ نحن لسنا عاجزين؛ نحن لا نريد أن نتحرّك. متى كنتِ مستعدّة للتضحية بشيء من أجل التغيير؟

 

فُسْحَة: هل يمكنك أن تذكري جملة في الألبوم تجسّد هذا؟

تريز: تلخّص أغنية "جنرال الأمل" ما أتحدّث عنه، حاولت فيها وفي أغنية أخرى أن أشذّب الغضب؛ لأنّه لن يفضي إلى أيّ مكان بنّاء، فعدّلت فيهما دون غيرهما. بالإمكان اعتبار هذه الأغنية العمود الفقريّ للألبوم، الّذي ألهم التصميم والإخراج. سألت نفسي: مِمّ أو ممّن أنا غاضبة؟ وحاولت الإجابة عن السؤال. هي ثلاثة أضلع: رأس المال والدين والسلطة. هذه هي العناصر الّتي تمسك بحياتنا وتعبث بها، تعبث بمستقبلنا وحاضرنا. تخيّلت إن انقلبت الأدوار يومًا، وأعطيت حرّيّة معاقبة هؤلاء الّذين يحكمونني، فماذا سأفعل؟ هل سأقوم باستخدام نفس قاموسهم وأدواتهم؟ هذا بالضبط ما أحاربه. كتبت نصّ هذه الأغنية مع الشاعر ياسر خنجر. عمليّة الكتابة تمّت بواسطة أسئلة يوجّهها كلٌّ منّا إلى الآخر؛ هل كنت ستفعل كذا أو كذا؟ توصّلنا إلى نتيجة أنّ أفضل عقاب ممكن، أن نجبرهم على فعل الأشياء الّتي حرمونا منها. تخيّلي أن تجبري أحدًا على سماع الموسيقى والغناء واللقاء بأمّه... وأمور من هذا القبيل.

 

فُسْحَة: أهذه هي المرّة الأولى الّتي تعملين فيها مع منتِج؟ ماذا تقولين عن هذه التجربة؟

تريز: أعترف بأنّي كنت حسّاسة تجاه هاتين الكلمتين: منتِج، ومدير أعمال! كان لديّ شعور بأنّ ذلك يشكّل اختراقًا لمساحتي، وأنّه إذا كان ذلك من أجل المال، فأنا في كلّ الأحوال لا أجني المال من الموسيقى. ثانيًا، أسيعمل المنتِج معي لأنّه مؤمن بتجربتي، أم لأنّه سيبيع المنتَج؟ هل سيتعامل معي بصفتي مادّة خامَ ويصمّمني؟ وهذه أسئلة فعلًا جوهريّة. الإجابة عن هذه الأسئلة هي التجربة، ولكلّ تجربة سياقها وشروطها. منحني المنتِج سقفًا زمنيًّا قصيرًا جدًّا. لم أتوقّع في حياتي أن أعمل ضمن هذا الشرط. قال لي إنّني إن كنت أنتظر الوقت الّذي سأكون فيه جاهزة تمامًا للعمل فهذا لن يحصل. هذا الوقت الضيّق أجبرني على الثقة بما أعرف. المنتِج إيريك هيلستيد كاتب أيضًا؛ وهذا ما شكّل بالنسبة إليّ سببًا أقوى للعمل معه. تنبّهت أيضًا إلى حساسيّته تجاه النصّ؛ فأدركت أنّي في أيدٍ أمينة.

 

فُسْحَة: هل تفكّرين في موضعة نفسك في خريطة الموسيقى العربيّة المعاصرة؟

تريز: لا. أفكّر في تجربتي؛ أين كانت؟ وإلى أين ستسير؟ أي أنّني أقارن نفسي بنفسي. لكنّي لا شكّ في أنّي أحاول ما استطعت أن أتابع ما يُنتج موسيقيًّا. أنا بصفتي مستمعة، أتلقّى أنماطًا موسيقيّة مختلفة جدًّا، وأستمتع في ذلك. على سبيل المثال، ثمّة موسيقًى إلكترونيّة في ألبوم "موج عالي"، ولأنّي أحبّ هذه الموسيقى، فمن الطبيعيّ أن تستميلني وأن أختارها، وهذا التوجّه يحدّد الهويّة الصوتيّة الّتي أشتغل فيها، يحدّد تطوّرها وخطواتها المستقبليّة، فإن أعجبتني الموسيقى الإلكترونيّة، مثلًا، فسأجرّبها في أغنية أو اثنتين، ثمّ أذهب في اتّجاهها، أتفحّص التقاطعات الّتي تُحدثها مع ذوقي وميولي الفنّيّة؛ مقصدي أنّني لا أرمي نفسي رميًا، ما يثيرني أجرّبه أوّلًا.

 

فُسْحَة: كيف تنظرين إلى الموسيقى العربيّة "البديلة"؟

تريز: أرى أنّ الموسيقى المعاصرة تشبه حياتنا كثيرًا، غير صبورة؛ لم يعُد سائدًا أن يجلس المرء ليستمع إلى لازمة في أغنية لأمّ كلثوم تُعاد ستّ مرّات. أعتقد أنّ الوجه الإيجابيّ في الموسيقى المعاصرة جرأتها في الكلمة، لكنّها لا تثيرني كثيرًا من حيث اللحن، ثمّة شيء ما فيها كأنّه يقول: "لا تلمس موضع الألم، بل أخرجني منه". شيء ما يتطلّب الرقص وغضّ النظر عن الألم. حتّى لو وُجِد الحديث عن الواقع السيّئ الّذي نعيشه، يصبح الكلام أقلّ شأنًا أمام الموسيقى الراقصة؛ هذا يدفعني إلى أن أسأل نفسي: هل أحتاج إلى ذلك أنا أيضًا؟ فأنا أقضي وقتًا في سماع الموسيقى الّتي تقول لك - على الرغم من كلّ شيء - نستطيع الرقص، ووقتًا في سماع الموسيقى الّتي تدفعني إلى التفكير ومواجهة الواقع. يبدو أنّني بحاجة إلى المساحتين.

 

فُسْحَة: وعلى أيّ نحو تفكّرين في الجمهور؟ هل تتغيّر ملامحه مع كلّ ألبوم؟

تريز: لا أعلم إن كان جمهور الألبوم الأوّل هو نفسه الّذي استمع إلى الألبوم الثاني. ربّما ثمّة أشخاص استمرّوا بمتابعة التجربة، وآخرون لم يفعلوا. أعتقد أنّه من الطبيعيّ أن يتغيّر شكل التجربة ويظلّ ديناميكيًّا، أن يمتدّ ويتفرّع. ثمّ إنّني أؤمن بأنّي ما دمت صادقة وحقيقيّة مع ما أنتجه، مع ما أغنّيه، فسيكون انشغالي بالجمهور أمرًا ثانويًّا. وعلى الرغم من الاختلاف الّذي قد يُلْمَس بين ألبوم وآخر، أنا على قناعة بأنّ الصدق في المشروع والعمل عليه سيُبقي على الجمهور إلى مشاريع أخرى. هذا ما يحدث معي بصفة مستمعة؛ أشعر بأنّ ثمّة علاقات تتكوّن بيني والموسيقيّ الّذي أنحاز إلى تجربته، وإن لم يخن نفسه ومشروعه، وكان حقيقيًّا في ما يقدّمه، فإنّه لن يخونني، أي يخسرني بصفتي مستمعة.

 

فُسْحَة: تعالَي نتخيّل أنّك ستغنّين الألبوم في عاصمة عربيّة، أيّها ستكون؟

تريز: ستكون الشام. هذا كان حلمي طوال الوقت؛ منذ أن بدأت الغناء، حتّى هذه اللحظة، أفكّر في الشام. سأذهب إلى هناك يومًا ما. لا أعرف متى لكنّي أعرف أنّه سيحصل. جدّتي تريز الّتي سُمِّيتُ تيمّنًا باسمها سوريّة. أريد الذهاب إلى هناك لأعرفها، أو لأعود إلى مكاني.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.