هيلين بوليك... إمّا الغناء وإمّا الموت

الفنّان إبراهيم غوكتشيك مودّعًا رفيقته وزميلته، الفنّانة الراحلة هيلين بوليك

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

بعد خوضها 288 يومًا من الإضراب عن الطعام، احتجاجًا على الملاحقات السياسيّة لفرقتها الموسيقيّة، توفّيت المغنّية التركيّة الكرديّة هيلين بوليك، المغنّية البارزة في فرقة "جروب يوروم - Grup Yorum" اليساريّة.

إنّ المتابع لأخبار المغنّية هيلين بوليك، في عامها الأخير، سيدرك أنّنا أمام شخصيّة مناضلة وصلبة ومثقّفة، انتمت إلى مجموعة موسيقيّة يحمل أعضاؤها فكرًا اجتماعيًّا ثوريًّا. مَنْ يطّلع على أغانيها وأغاني فرقتها يدرك أنّنا أمام فنّانة ملتزمة، خاضت معارك مع رفاقها الفنّانين والفنّانات، من أجل إعلاء مواقف إنسانيّة وحقوقيّة، ومن أجل تعميق الحياة الديمقراطيّة في تركيا، نحو مجتمع أكثر مساواة وأقلّ طبقيّة. رغم ملاحقات واعتقالات متلاحقة، لم تترك هيلين بوليك دربها، وواصلت نضالها الفنّيّ والسياسيّ لمناهضة قمع الحرّيّات في بلدها تركيا.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

عقود من الملاحقة

فرقة "جروب يوروم - Grup Yorum"، والمقابل العربيّ لـ "Yorum" هو "الرأي"، فرقة تؤدّي أغاني الاحتجاج السياسيّ منذ بداية الثمانينات، وقد أدّى اعتماد الفرقة أسلوب الدمج بين أغاني التراث وموسيقى الروك إلى ازدياد شعبيّتها؛ إلّا أنّ هذا التمدّد الشعبيّ للفرقة، وانتشار ألبوماتها في الشارع التركيّ، أدّى إلى ملاحقتها من قِبَل أجهزة المخابرات التركيّة، وإلى مصادرة ألبوماتها، واعتقال أعضائها، وإغلاق مقرّها في إسطنبول مرّات عدّة.

 

 

لم تكن ملاحقة الفرقة محصورة بنظام تركيّ معيّن؛ فقد ضُيِّق عليها من قِبَل المؤسّسة العلمانيّة العسكريّة الحاكمة الّتي سبقت نظام أردوغان. في حقبة أردوغان، استمرّ النهج المخابراتيّ السابق بملاحقة الفرقة، وممّا عزّز هذه الملاحقة الأمنيّة وتكثيف الاعتقالات، تواطؤ الموقف الدوليّ الغربيّ مع السلطات التركيّة، بعد أن صنّفت هذه الدول منظّمة "حزب التحرير الثوريّ الشعبيّ" الماركسيّة المعارضة للنظام تنظيمًا إرهابيًّا، واتّهمت الفرقة بأنّها تنشط داخل صفوف هذا التنظيم. هذا التصنيف سهّل عمليّة الاستفراد بأعضاء الفرقة؛ فتصاعدت الحملة الأمنيّة لإنهاكها، وإسكات صوتها الثقافيّ السياسيّ في الشارع التركيّ، إلّا أنّه أخفق في تكميم أفواه الأغنية السياسيّة، وفي استسلام الأعضاء.

 

معركة الأمعاء الخاوية

في الوقت الّذي تصاعد القمع ضدّ الفرقة، وفي أجواء تجييش للشارع التركيّ المناصر لأردوغان، لدعم العدوان العسكريّ التركيّ ضدّ الأكراد في الشمال السوريّ، دخل عضوا فرقة "جروب يوروم" في إضراب عن الطعام؛ قرّرت هيلين بوليك ورفيقها في الفرقة عازف الجيتار إبراهيم غوكتشيك، خوض إضراب مفتوح عن الطعام، احتجاجًا على اعتقالهما واعتقال أعضاء آخرين في الفرقة.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، وبعد مرور 200 يوم على إعلانهما الإضراب عن الطعام داخل المعتقل، وتحت ضغوطات المعارضة، قرّرت السلطات التركيّة إطلاق سراح بوليك، غير أنّها قرّرت مواصلة إضرابها الاحتجاجيّ مع استمرار الملاحقة ضدّ باقي رفاقها. في الثالث من نيسان (أبريل)، استسلم جسد هيلين بوليك دون أن تستسلم روحها للقمع السلطويّ التركيّ، في حين يستمرّ العازف إبراهيم غوكتشيك بإضرابه عن الطعام متجاوزًا 290 يومًا، داخلًا حالة احتضار، رافضًا الاستسلام، مطالبًا بإلغاء كلّ الخطوات التعسّفيّة ضدّ فنّاني الفرقة.

 

هيلين بوليك، في مقدّمة الصورة

 

الناشطة الحقوقيّة التركيّة البارزة شبنام كرور، الخبيرة في تشخيص حالات التعذيب، المعروفة فلسطينيًّا بدعمها مؤسّسات حقوق الإنسان الفلسطينيّة، كانت قد حذّرت السلطات التركيّة من خطورة حالة المضربين عن الطعام، في ما أكّد حقوقيّون آخرون أنّ اللجوء إلى معركة الأمعاء الخاوية، يكون في ظلّ تعامل الأمن التركيّ مع المعتقلين بصفتهم أعداء للدولة التركيّة.

 

موسيقى الرفض والاحتجاج

منذ تأسيسها، أسهمت فرقة "جروب يوروم" في المشهد الثقافيّ التركيّ؛ في رصيدها إصدارات أدبيّة وشعريّة، وإنتاج أفلام ثقافيّة وثائقيّة، ودور فاعل في حراكات منظّمات حقوق الإنسان في تركيا. وللفرقة وزن نوعيّ في تكثيف العروض الموسيقيّة السياسيّة - الاجتماعيّة في المدن التركيّة، وخاصّة في إسطنبول، مركز نشاطها. إنّ متابعة الفيديوهات المنشورة على صفحاتهم الإلكترونيّة وقناة اليوتيوب، تُظهر مشاركة جماهيريّة واسعة لعروضها، وترديد الآلاف أغانيها.

من حيث الأسلوب الموسيقيّ والمضامين والأغاني والعروض، يمكن ملاحظة تأثّر الفرقة بموسيقى الاحتجاج السياسيّ، والموسيقى الثوريّة للحراكات الاجتماعيّة واليساريّة، في دول أمريكا اللاتينيّة وإسبانيا؛ تلك الموسيقى الّتي عكست الصراعات الإثنيّة والطبقيّة والسياسيّة، الّتي برزت خلال الحرب الأهليّة في المكسيك، ولاحقًا في دول كالأرجنتين وتشيلي وبوليفيا ونيكاراغوا. هذا النمط من الغناء الّذي يحشد الغناء الفولكلوريّ، موظّفًا إيّاه في موسيقى الروك، أدّى إلى ولادة نوع موسيقيّ خاصّ بالحراكات الاجتماعيّة في هذه الدول، بلغ أثرها أماكن أخرى في العالم. طرحت هذه الموسيقى مقولة مركزيّة للالتزام الموسيقيّ نحو القضايا الاجتماعيّة، ومناهضة الإمبرياليّة والاستعمار والأنظمة القمعيّة، ونحو التغيير السياسيّ الثوريّ؛ فقد أسهمت أغاني "جروب يوروم"، وفرق فنّيّة أخرى في تركيّا، في صعود نوع وخطاب موسيقيّ تركيّ خاصّ عُرف باسم "Ozgun"، مستعينًا بموسيقى الأرياف، كما في أمريكا اللاتينيّة، يُناهض السياسات التركيّة في الداخل والخارج، وضدّ الوجود العسكريّ الأمريكيّ على الأرض التركيّة، وكذلك خطاب مناصر لقضيّة التحرّر الكرديّ. وهنا نشير إلى أنّ الفرقة ضمّت أعضاء أكرادًا، وأدّت ألوانًا متعدّدة من الموسيقى والغناء الكرديّ.

 

 

بعامّة، في السياقَين الموسيقيّ والسياسيّ، تُقدّم موسيقى الاحتجاج السياسيّ في تركيا خطابًا يتيح للمستمع لمس فضاءات صراع واستقطاب، هي نتاج المكانة الجغرافيّة الخصوصيّة لتركيا، لتوسّطها بين الشرق والغرب، وتمكّننا أيضًا من استيعاب فضاء الهويّة السياسيّة والإثنيّة للمجتمع التركيّ، وتقدّم مساحة لفهم الصراعات الهويّاتيّة للدولة التركيّة: بين الشرق والغرب، وبين الدين والعلمانيّة، وبين الإمبرياليّة والقوى المناهضة لها.

 

يبقى صدى الصوت

حديثنا عن الرحيل التراجيديّ والموجع للفنّانة هيلين بوليك، حديث عن التزام الفنّان بقضايا إنسانيّة حقوقيّة سياسيّة وفكريّة. تُقدّم بوليك نموذجًا عظيمًا، وثمنًا شخصيًّا مأساويًّا لفنّانة قرّرت أن تمضي للنهاية، في حمل رسالتها الموسيقيّة والسياسيّة ضدّ القمع، ومن أجل تحقيق العدالة.

تُبقي لنا بوليك صوتها، وإنتاجًا موسيقيًّا غزيرًا مع فرقتها، من تسجيلات لحفلات شارك فيها عشرات الآلاف إلى إنتاجات موسيقيّة، قاربت 25 أسطوانة، وكان بعضها قد سجّل لفترات أعلى نسب انتشار ومبيعات في تركيا.

في النهاية، يبقى الأمل في أن تشكّل وفاة هيلين بوليك، فرصة لتعميق اطّلاعنا وتفاعلنا مع موسيقى الشعوب، ومع الحراكات الفنّيّة السياسيّة الاحتجاجيّة لدى الكثير من شعوب العالم.

 

 

فايد بدارنة

 

باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.