صباح فخري... أن تكون الموسيقى نخبويّة وشعبيّة

الفنّان الراحل صباح فخري (1933 - 2021)

 

كنّا ندرك أنْ لا خلود للجسد، وأنّ الفنّان صباح فخري على حافّة الغياب الحتميّ من منصّة الحياة، كنّا ندرك ذلك ونحن نصل إلى حافّة الثمالة أو أكثر قليلًا، كلّما استمعنا إلى إرثه الحيّ المتدفّق.

لم ترصد المكتبة العربيّة ولا تعابيرها البحثيّة المتنوّعة والمتعدّدة، إلّا القليل عن مسيرة الفنّان صباح فخري. لم نخض في هذا الكَيف من بصماته على المادّة الموسيقيّة العربيّة، وعلى أشكال الطرب العربيّ وأنماطه. وهنا، ونحن بصدد رثاء على عجل لرحيل هذا العملاق، ملك القدود الحلبيّة، فإنّنا نلتفت لسهولة لامبالاتنا في تسليط الضوء على العلاقات الحسّيّة والفنّيّة والثقافيّة، الّتي تولّدها ظواهر استثنائيّة مثل فخري على الجماهير العربيّة.

 

مادّة بشريّة لاصقة

شكّلت حلب الساحة الأساسيّة لصباح فخري؛ فكانت بيته ومكان انطلاقته. اعْتُبِرَت المدينة المتميّزة بالحياة الموسيقيّة النشطة مدرسة فخري على طول مسيرته الفنّيّة، ملتزمًا بالغناء والأداء فيها. التطوّر الموسيقيّ والصوتيّ المذهل لفخري، واحترافه الطرب العربيّ، من قصائد التراث والفلكلور إلى القصائد الكلاسيكيّة، جعلا حنجرته تتسلّل إلى العالم العربيّ، كجغرافيا ثقافيّة قادرة على أن تكون عمقًا طبيعيًّا وبيئة بيتيّة لابن مدينة حلب.

كانت عروض فخري للمغتربين العرب في بقاع الأرض فرصة للتواصل مع ثقافتهم العربيّة، وتأكيد الانتماء إلى البلدان الأمّ.

تحوّلت أغاني فخري بكلاسيكيّتها لهويّة تمثّل «السمّيعة» العرب من المحيط إلى الخليج؛ فقد انضمّ فخري إلى الصفّ الأوّل من الرموز الفنّيّة الهويّاتيّة للإنسان العربيّ، إلى جانب أمّ كلثوم، وعبد الوهّاب، ووديع الصافي، وفيروز، وآخرين. كانت عروض فخري للمغتربين العرب في بقاع الأرض فرصة للتواصل مع ثقافتهم العربيّة، وتأكيد الانتماء إلى البلدان الأمّ.

 

طيف من الموروث

لم يحصر صباح فخري خاماته الصوتيّة الكبيرة في أداء صنف محدّد من الجمل الشعريّة، ولم يحدّد مداه الموسيقيّ المتميّز في الطرب بانتقاء لون واحد؛ فقد اختار موادّ عديدة من الفلكلور العربيّ المنسوب إلى منطقة الرافدين والشام وأرض النيل؛ فانتقى موادّ من سيّد درويش، وسار مع العراقيّ الكبير ناظم الغزالي في تأدية الفلكلور الموسيقيّ الغنائيّ العربيّ، وقدّمه نسخة عروبيّة تلائم جميع مستمعيها العرب لحنًا وصوتًا. إلى جانب ذلك، لحّن فخري وغنّى قصائد وموشّحات من التراث العربيّ القديم، ولشعراء كبار كأبي فراس الحمدانيّ، والشاعر الفيلسوف الأندلسيّ لسان الدين بن الخطيب، والشاعر الأيّوبيّ بهاء الدين زهير.

رغم اختلاف مصادر أغاني فخري، من حيث الكلام والحقبات الزمنيّة المتباعدة، ومن حيث فصاحة بعضها وعامّيّة بعضها الآخر، إلّا أنّه نجح في تقديمها على طبق واحد للمستمع العربيّ عمومًا، دون حصر ما يقدّمه بشرائح اجتماعيّة وطبقيّة محدّدة. ونجح فخري في جعل هذا الطيف المتعدّد، من حيث مصادره، مادّة طربيّة تُقَدَّم على المسرح في الوقت ذاته وللجمهور نفسه، فحضرت في عروضه الموشّحات، والابتهالات الصوفيّة، والموادّ الفلكلوريّة.

 

خمرة الحبّ: مادّة للفرح وللطرب

غالبًا ما تذهب الأبحاث في الموسيقى نحو اكتشاف الموادّ والعناصر المؤثّرة في صناعتها، وتبحث في تأثيرها وبصماتها في عالم الموسيقى وتطوّره. في حالة صباح فخري، ثمّة مكان للتركيز على مكانته في خلق الفرح والزهو النفسيّ لدى الجماهير العربيّة؛ هذا يعني أنّنا يمكن تقديم موادّ فخري الصوتيّة والموسيقيّة نموذجًا في أنثروبولوجيا الموسيقى بأوساط الناس، وبقدرتها الهائلة على أن تتحوّل إلى «خمرة» تخلق تفاعلًا بين الناس وبين الناس والموسيقى، وبين المستمعين والموسيقيّين عند أداء أغاني فخري.

هذا النوع من الكتابة الأنثربولوجيّة عن «الخمرة» الموسيقيّة في أغاني فخري، سيكون شاهدًا على وجود حالة إنسانيّة فريدة عاشها معظمنا في حفلاته وأفراحه في المناسبات العامّة والخاصّة؛ أي أن تشكّل موادّه جزءًا مهمًّا من نوستالجيا الفرح، والحبّ، والعلاقات الإنسانيّة. وهي ليست مادّة للماضي فحسب، بل هي فاعلة في حاضرنا ومستقبلنا، وهي فرصة للبحث والمتابعة في تأمّل قدرة التراث الموسيقيّ، على أن يكون عنصرًا مهمًّا ملهمًا في خلق السعادة، بل رسم تعابير حركيّة وحسّيّة للسعادة أيضًا لدى الفرد والجماعة. وهذه النماذج، كنموذج فخري، نجحت في خلق موسيقى نخبويّة بمستواها، وشعبيّة بانتشارها، في ذات الوقت، يتمايل ويرقص معها الناس من جميع الطبقات والتوجّهات.

 

المَزار

احتلّ صباح فخري مكانًا مرموقًا بين الموسيقيّين العرب، صاحبَ مدرسة للطرب. على الرغم من تنوّع كلماته وألحانه، إلّا أنّه بقي محافظًا وتقليديًّا من حيث إخلاصه للمكان، فكان مكان نشأته وتطوّره جزءًا من هويّته الموسيقيّة لغاية وفاته. مع هذه الهويّة، مارس أستذته وتعليمه للكثير من طلّاب الموسيقى والأساتذة ممّن زاروا مدينته؛ حلب. وكان فخري «مزارًا»، ليس للموسيقيّين فحسب بل للعديد من الشخصيّات العامّة، من سياسيّين وفنّانين وغيرهم.

مقطوعات موسيقيّة لأغانيه أصبحت جزءًا أساسيًّا من المناهج الموسيقيّة العربيّة، ومن مسيرة الأساتذة والطلّاب العرب.

إلى جانب هذا الدور، يمكننا أن نسجّل لفخري دوره الكبير في تحوّل ألحانه إلى موادّ تعليميّة، في جميع المعاهد الموسيقيّة العربيّة خارج سوريا. مقطوعات موسيقيّة لأغانيه أصبحت جزءًا أساسيًّا من المناهج الموسيقيّة العربيّة، ومن مسيرة الأساتذة والطلّاب العرب.

مَنْ يترك هذا الإرث في قلوب الأساتذة، والطلّاب، وعامّة الناس، فهو باقٍ فينا لا يموت.

 


فايد بدارنة

 

 

 باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يبحث في مرحلة الدكتوراه المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة.