اعتزال فنّان شابّ... لِمَ احتجنا إلى كلّ هذا الضجيج؟

أدهم النابلسي

 

أثار خبر اعتزال الفنّان الأردنيّ أدهم نابلسي الغناء مؤخّرًا سجالًا كبيرًا في الوسط الفنّيّ، وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ. كان نابلسي قد أعلن في شريط فيديو قصير قراره اعتزال الغناء في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، وسرعان ما انتشر الخبر، ووجد صدًى كبيرًا، وتباينت ردود الفعل تجاهه بين الترحيب والإشادة من ناحية، والانتقاد والهجوم من ناحية أخرى، وفتح خبر اعتزاله بابًا للجدل حول موقف الفنّ من حيث التحليل والتحريم، ومعنى الحرّيّة الشخصيّة، ومنظومة الفكر الدينيّ.

 

فخّ الثنائيّات الحدّيّة

يمكن القول إنّ السجالات العامّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، في السنوات الأخيرة، كثيرًا ما تقع في فخّ الثنائيّات الحدّيّة، خاصّة بعدما فتحت الحراكات الثوريّة العربيّة المتلاحقة منذ نهاية العام 2010 المجال السياسيّ العامّ، وأحدثت تغييرات كبيرة، وتراكمت نواتج كثيرة لها، سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، وترسّخت على إثرها حالة شائعة من النزوع للاستقطاب الفكريّ والأيديولوجيّ، نتيجًة لما ساد في العقد الأخير من استقطاب سياسيّ عامّ. فغالبًا ما ينحصر السجال حول أيّ قضيّة أو شأن عامّ، خاصّة في فضاءات الإعلام الرقميّ الجديدة، بين التأييد المطلق أو المعارضة المطلقة، ما يحجب إمكانيّة تكوين مواقف مركّبة تجاه قضايا مهمّة في واقع أضحى شديد التعقيد في كثير من جوانبه.

لا تفي ثنائيّات «إمّا مع وإمّا ضدّ»، ولا اختزال نقاش ما في الموافقة أو الاعتراض في كثير من الأحيان بغرض النقاش الصحّيّ، المُنْتِج، إنّما تتطلّب الكثير من القضايا تفنيدًا وتفكيكًا لجوانبها المتشابكة...

لا تفي ثنائيّات «إمّا مع وإمّا ضدّ»، ولا اختزال نقاش ما في الموافقة أو الاعتراض في كثير من الأحيان بغرض النقاش الصحّيّ، المُنْتِج، إنّما تتطلّب الكثير من القضايا تفنيدًا وتفكيكًا لجوانبها المتشابكة في ضوء الواقع والظروف المعنيّة.

يُغْلِق الجدل بطريقة الثنائيّات الحدّيّة أيضًا الباب أمام المحاججة، وتبادل الأفكار وتطويرها، ومراجعة أطياف من المعاني والاحتمالات، وأشكلة الواقع، واستقراء تفاصيله، وتحليل ارتباط بعضها ببعض، والبناء والمراكمة على ما ينتج عن مثل هذه النقاشات من وجهات نظر متعدّدة، ومن فهم أشمل للقضايا محلّ النقاش.

 

تشابه الجوهر

بصورة استقطابيّة معتادة، انحصر الجدل حول اعتزال أدهم نابلسي بصفة عامّة في اتّجاهين: أحدهما ترحيبيّ، وداعم بقوّة، والآخر منتقد، وهجوميّ، بقسوة أحيانًا. ثمّة، بالتأكيد، أصوات وازنة تفاعلت مع الموضوع وفق حجمه الطبيعيّ، دون أن تُحَمِّل صاحب قرار الاعتزال أكثر ممّا أراد لموقفه أن يكون، ودون إسقاط لموقفه لحساب تيّار أو جماعة أو مذهب فكريّ أو دينيّ. لكنّ الحديث هنا عن أبرز ردود الفعل تجاه خبر اعتزال الفنّان الشابّ.

بالطبع، ليس ثمّة مشكلة إطلاقًا في تفاعل الجمهور مع خبر اعتزال نابلسي، ولا في التعليق عليه، ترحيبًا أو رفضًا، ولا في تفنيد منطقه، دون شخصنة أو تجريح أو مزايدة أو تأويل مغالٍ أو حجر على حرّيّته الشخصيّة، في ما يتعلّق بفكره ومهنته، إنّما تكمن المشكلة كلّها في المغالاة في لهجة الاحتفاء أو الانتقاد وحجمه، وفي ما ترتكز عليه هذه المغالاة من معانٍ ودلالات.

تبدو المشكلة الرئيسيّة ها هنا أنّ كلّ فريق يرغب في أن يماهي أو يقارن بين بواعث قرار اعتزال نابلسي من ناحية، ومرجعيّة تيّاره الدينيّة أو الفكريّة من ناحية أخرى. وقد يبدو الموقفان، المحتفي بشدّة والمنتقد بشدّة، نقيضين، لكنّهما في الحقيقة متشابهان في جوهرهما، وإن دفع كلّ منهما في اتّجاه معاكس.

 

معنى التجربة الإيمانيّة

حظي خبر اعتزال نابلسي بترحيب حماسيّ كبير وواسع من شرائح مجتمعيّة يمكن وصفها بـ ’المحافظة‘، وبدعم وتشجيع للفنّان المعتزل على قراره، ودفاع ضدّ ما وُجِّه إليه من انتقادات وهجوم. ويمكن القول إنّ غالبيّة هذه المواقف المحتفية ترتكز على أسباب وعاطفة دينيّة، ترى في اعتزال نابلسي ’توبةً‘ ورجوعًا إلى الطريق القويم. من حقّ الجميع، بالتأكيد، اتّخاذ ما يرونه مناسبًا من منظور معيّن للتديّن، لكنّ هذا الاحتفاء المبالغ فيه والدفاع المستميت عن نابلسي يستند، في ما يبدو، على رؤية للتديّن مفهومًا شكلانيًّا وقطيعيًّا، وهي رؤية تحتفي بالمجموع وبالكثرة، ولا تأبه كثيرًا لجوهر التديّن، وكنه صيرورته، ولا تلقي بالًا لفرادة التجربة الإيمانيّة، وعدم ثباتها وجمودها، وعدم واحديّة معانيها وصورها بالضرورة.

الاحتفاء المبالغ فيه والدفاع المستميت عن نابلسي يستند، في ما يبدو، على رؤية للتديّن مفهومًا شكلانيًّا وقطيعيًّا، وهي رؤية تحتفي بالمجموع وبالكثرة...

تتجلّى إشكاليّة هذه النظرة في عدم انفتاحها على التنوّع والتعدّد، واختلاف الرؤى والتجارب الشخصيّة، في فهم التديّن وعيشه، وفي كونها غير قائمة على اعتبار الإيمان تجربة روحيّة ومعرفيّة وحياتيّة مستمرّة ودائمة التغيّر والتطوّر والنضج والاكتمال، وأنّ للوعي والتجربة الذاتيّين دورًا جوهريًّا فيها، وأنّه ثمّة حاجة إلى التحاور المتواصل مع مكوّناتها، وثمّة أهمّيّة لمراجعتها وتقييمها باستمرار، وأنّ روافدها لا تنحصر في اكتساب المعرفة الدينيّة فحسب، وأنّه لا يمكن اختزالها في مجموعة أوامر ونواهٍ ومحفوظات.

يقترن هذا النمط من التفكير الدينيّ القطيعيّ أيضًا بخوف دائم من الأفكار المختلفة عن السائد، ومن فكرة ’الفتنة‘، ومن فكرة الانسحاب المتسلسل من المجموع، لذا؛ تبدو أسس هذه الرؤية هشّة ومتهافتة إذ تتأصّل فيها خشية دائمة من أيّ احتمال لخلخلة بنيتها الّتي ترتكز على ثبات الأفكار وهيمنتها ودعمها وتقويضها من الأكثريّة، وهو ما يمكن أن يفسّر الهجوم الدائم ممّن يعتنقن ويعتنقون هذا النمط من التديّن، على أيّ منهج أو رؤية أو فكرة تخالف السائد.

 

حرّيّة الاختيار

من ناحية أخرى، تعرّض نابلسي إلى هجوم عنيف من بعض الفنّانات والفنّانين، بدعوى تحريمه للفنّ، وبدعوى سعيه إلى الشهرة، ورغبته في تصدّر الـ ’ترند‘، وبافتراض أنّه كان لا بدّ من أن يعتزل في صمت، وألّا يعلن قراره لجمهوره.

في الحقيقة، لم تكن طريقة نابلسي في إعلان اعتزاله الغناء عنفيّة قطّ، ولم تكن إقصائيّة، ولا تعميميّة. لم يُحَرِّم نابلسي على غيره ما لم يَعُد يرتضيه لنفسه انطلاقًا من موقفه ورؤيته الآنيّة، ولم يتكلّم إلّا عن نفسه وعمّا يراه ويقنع به هو، ولم يُطْلِق أحكامًا تعميميّة على غيره أو على الفنّ. كان الفنّان الشابّ مهذّبًا وهادئًا، وبدا صادقًا في رغبته في مشاركة جمهوره ما يؤمن به وما قرّره. قال نابلسي إنّ ما كان يفعله ’لا يُرْضي الله‘، لكنّه لم يتوسّع في التعليق على الأمر، ولم يُنَظِّر له أو يُعَمِّم بشأنه، ولم يُحَرِّم شيئًا بصريح القول أو يستند إلى فتاوى دينيّة. لم يقطع نابلسي ولم يجزم بشيء، ولم يتحدّث عن الفنّ في عمومه، بل عمّا كان يقدّمه هو، وكيف بات ينظر إليه. بدا الأمر متعلّقًا به تمامًا، وبما يؤمن به ويرتضيه لنفسه، دون إسقاط أو تعميم على غيره.

رغم ذلك، لم يسلم المغنّي المعتزل من السخرية والانتقاد والهجوم الحادّ. صحيح أنّه تلقّى دعمًا وتشجيعًا ودعوات بالتوفيق من بعض الفنّانات والفنّانين، لكنّ قرار اعتزاله أعاد للواجهة جدلًا قديمًا حول «حلال الفنّ وحرامه» (وهو ما لا يسع هذا المقام لتتبّع تاريخيّته وأسبابه).

من اللافت أنّ الهجوم على المغنّي الشابّ بدأ فور إعلانه الاعتزال، وحتّى قبل أن يُتاح له أن يعيش وفقًا لقناعاته، وأن يختبرها، وأن يمارس حرّيّته في التفكير وفي الفعل وفي المراجعة، إن عنّت له الفكرة مستقبلًا، ودون أن يتسنّى له ولجمهوره تبيان في أيّ طريق سيمضي، وإلى أيّ وجهة سيولّي وجهه وصوته وفكره. وإن كان ثمّة إشكاليّة في إسباغ موقفه بصبغة دينيّة ترى في قراره الفرديّ انتصارًا لمنظور معيّن للتديّن، فثمّة إشكاليّة مماثلة في المزايدة على نابلسي، وتأويل بواعث قراره بشكل مغالٍ وبصورة تتنافى مع ما أعلنه هو، وفي إنكار استحقاقه لحرّيّة اتّخاذ القرار ولحرّيّة إعلانه، وفي تفصيل الحرّيّة على مقياس الأهواء والمرجعيّات الفكريّة.

 

الالتقاء في منطقة وُسْطى

ولم يقف الأمر عند الهجوم والاستنكار من الوسط الفنّيّ، إنّما ظهرت ردود فعل ’متطرّفة‘ ومثيرة للتأمّل على مواقع التواصل الاجتماعيّ، منها تدشين مجموعة باسم «الحملة العالميّة للاستماع لأغاني أدهم النابلسي لتحميله ذنوب لإرساله لجهنّم» على فيسبوك، ولا يُعْرَف إن كان هدف المجموعة ساخرًا أو جادًّا، لكنّ ما تحمله في اسمها وفي الغرض من إنشائها في كلّ الأحوال من حجر مبطّن على قرار نابلسي ووجهة نظره، ومن رغبة في المكايدة والمضايقة، يشي بخلل كبير في التعاطي مع خبر عاديّ.

وربّما تعيّن علينا ابتداع طرق أخرى وتجريبها للنقاش والمجادلة، والتفكير في شروط اجتماع ثقافيّ وفكريّ مغاير في فضاءات الإعلام الرقميّ وسبل ذلك...

إنّ منطق حملة كهذه لا يجابِه أو يقابل منطق الدعم المبالغ فيه لنابلسي، كما قد يُظَنّ؛ إنّما هو منطق مثيل مقلوب فحسب. في المقابل، نشأت حملات ومجموعات مضادّة لدعم نابلسي ’في توبته‘. وهكذا تحوّل قرار شخصيّ لاعتزال مغنٍّ شابّ إلى ساحة نزاع بين فريقين، يريد كلّ منهما أن يُثْبِت، أو ينفي، شيئًا أو موقفًا أو مرجعيّة ما من خلاله، حتّى إن تحقّق ذلك بشطط في القول أو الفعل في أيّما اتّجاه.

ربّما تقول صور التفاعل مع خبر اعتزال نابلسي الكثير عنّا، وعن طرائق سجالنا العامّ ومحاججاتنا على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وعن نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخر. وربّما تعيّن علينا ابتداع طرق أخرى وتجريبها للنقاش والمجادلة، والتفكير في شروط اجتماع ثقافيّ وفكريّ مغاير في فضاءات الإعلام الرقميّ وسبل ذلك؛ شروط وسبل يكون أساسها السعي الحقيقيّ إلى التواصل والتفاهم وتشارك وجهات النظر وتقبّل الاختلاف، أو الالتقاء في منطقة وسطى، على الأقلّ.

 


 

أميرة عكارة

 

 

 

باحثة، مهتمّة بسؤال اللغة وعلومها، وبدراسات التحليل النقديّ للخطاب، وبقضايا ودراسات الجندر والجنسانيّة. تكتب في عدّة مجلّات ومواقع عربيّة.