«شبّ جديد»... تجاوز الموت

شبّ جديد

 

كيف تُصْنَع وتتبدّل الأذواق؟

يمثّل الفنّ كما تفيد المدوّنة التاريخيّة المرتبطة به، ظاهرة اجتماعيّة لا تتعلّق ببساطة المجتمع أو بتعقيده، إنّما بقدرة شخص ما، في سياق زمنيّ ومكانيّ، على إتقان فعل شيءٍ ما يصلح لأن يطلق عليه مفهوم «الفنّ»، مقارنة بالآخرين الّذين يؤدّون ذات الفعل/ المنتج بأقلّ إبداع وجماليّة[1]. ولقد تطرّقت مختلف مدارس علم الاجتماع إلى دراسة الفنّ ظاهرة اجتماعيّة، ومن بينهم روّاد «مدرسة فرانكفورت» الّذين يرون في الفنّ أداة للتحرّر والقدرة على تغيير الوضع الاجتماعيّ القائم شكلًا ومضمونًا؛ إذ يُعَدّ الفنّ في سيرورته مجالًا مستقلًّا عن المجال الاجتماعيّ القائم، موجّهين إلى المدرسة الماركسيّة نقدًا؛ لأنّها تجد في الفنّ انعكاسًا للموقع الطبقيّ للمنتج، والعمل الفنّيّ الجيّد هو ما تروّجه الطبقة البرجوازيّة وحدها في نظرها[2].

يطرح الحديث عن الفنّ تساؤلًا كلاسيكيًّا: كيف يُصْنَع الذوق؟ وكيف تتبدّل الأذواق؟ إذ يضعنا بيير بورديو إزاء هذه المعضلة في كتابه «قواعد الفنّ»؛ من خلال بناء المقارنة البحتة بين الجيّد والسيّئ، الأفضل والأرذل، الخيارات المطروحة وتوجّهات المستهلكين، وما بين المعلن والضمنيّ؛ فالعمل الفنّيّ انعكاس لما هو ضمنيّ أساسًا في المجال الاجتماعيّ القائم - بالعودة إلى وعي الفنّان المنتج بالضرورة - وهو يمثّل، أي العمل الفنّيّ، عمليّة المَوْضَعَة له عند شريحة المتلقّين، بينما اكتشاف الذوق عند المتلقّي يكمن في العمليّة الانتقائيّة ما بين الخيارات المتعدّدة، الّتي تشكّل استبطان الموضعة للمنتج الفنّيّ، بما هو قائم ومنظّم وغير مكتشف للإنسان الّذي لم يدرك ذوقه دون التعرّض للخيارات المطروحة، بمعنًى آخر: إنّ العمل الفنّيّ بعلاقته لاحقًا كموضوع مع المتلقّي يشكّل ديناميّة الانتقال من الموضوعة إلى تبدّل الذوق وفهم التوجّه المرضيّ والمفهوم[3].

 

 

عند تناول هذه العمليّة المعقّدة والمتشابكة في الحقل الفنّيّ والمجال الاجتماعيّ القائم، لا بدّ من الإشارة إلى مفهوم الإشهار والدعاية المرتبط بمجتمع المشاهير، الناتج عن الوسيط الجديد الّذي يربط الأفراد والجماعات بمجتمع المشاهير (الملصق، السينما، الأغنية، الفيديو كليب، إلخ...)، وما يميّز العمليّة الإشهاريّة برمّتها: التفريد بالمتلقّي المنعزل مع ذاته، والإعلاء من الفردانيّة عبر هذا الخطاب، والتجنيس للجموع أمام خطاب استهلاكيّ يدعو إلى معايير محدّدة، يمارس من خلالها الأفراد والجماعات نمط الحياة الجديد والمتفرّد باعتقادهم[4]. إنّ هذه الأزمة في الوعي وتسويغاته تتأتّى عبر ضخّ المعايير والنماذج المثلى من خلال أدوات الإشهار الّتي تهدف بالضرورة إلى مراكمة رأسمال رمزيّ ومادّيّ لصالح البرجوازيّة المالكة.

 

قساوة التفاصيل اليوميّة

من خلال هذا الطرح، نجد الفنّ أداة للتحرّر والثورة، وتسويغ الوعي وتشكيله، عبر أدوات الإشهار والتجنيس، وتنعكس هذه الجدليّة في إصدارات شركة التسجيلات المستقلّة «BLTNM»، الّتي على ما يبدو تستوحي اسمها ساخرة من شركة «Platinum Records»، التابعة لمجموعة قنوات «MBC»؛ إذ تسوّق الأخيرة معايير السعادة المرتبطة بالرفاهية، والتراتبيّة، والاستهلاك المتفاخر والحزن المترتّب على وجود إشكاليّة بهذه المعايير، من خلال إعادة إنتاج المفاهيم الاجتماعيّة السائدة بسياق أكثر حداثة[5]. بينما تطرح «BLTNM» الفلسطينيّة إعادة تعريف لمعنى البقاء والموت؛ عبر صياغة معايير جديدة تفكّك مركّبات الأزمة اليوميّة للإنسان المستعمَر، وعن كيفيّة مواجهتها، ما يضعنا أمام تساؤل المقالة الرئيسيّ: ما دلالة الموت في خطاب قناة «BLTNM»؟

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الراب حقل فنّيّ يُعْرَف تاريخيًّا بنمطه المختلف والمتميّز بالعفويّة والتلاعب بالكلمات؛ هدفًا منه إلى خلق حالة ثوريّة على النظام السياسيّ والاجتماعيّ القائم، فهو موسيقى المهمّشين والمكتوين بنار الغيتوهات من اللاجئين والمهاجرين وسود البشرة في أمريكا[6]، وعلى الرغم من خصوصيّة القضايا الاستعماريّة للشعوب ومستعمِريها والمضطهَدَة ومضطهِديها، إلّا أنّ أدوات الاستعمار والاستلاب والتهميش متشابهة عبر التاريخ البشريّ؛ إذ تعتمد على ممارسة الإقصاء والإزاحة، ومراكمة البؤس على شريحة من السكّان؛ بهدف الإعلاء من شأن شريحة أخرى، وتمكينهم من الفضاء الاجتماعيّ وموارده المادّيّة، ما يضعنا أمام تجربة قناة «BLTNM» الّتي تواجه أدوات الهيكل الاستعماريّ بهذا النوع من الفنّ، عبر تخطّي الموت بصفته مفهومًا مربكًا، من خلال عرضها لقساوة التفاصيل اليوميّة والمعيشيّة للإنسان الفلسطينيّ.

 

 

عجبك ولّا ما عجبك

نلمس في أعمال «شبّ جديد» مواجهةً للموت المعيش يوميًّا عند الفلسطينيّ، الّتي استدعت إعادة تعريف معايير الحياة والسعادة ومعنى الوجود، كما نجدها في أغنية «منطقة»: "بَحِبّ الحرب بالفطرة، رضعنا الحرب رضاعة، بقولّك عنّا سنين بالبهدلة خبرة، واسأل مين ما بدّك". تقدّم هذه الأغنية نقدًا لاذعًا لمعايير الحياة كما تُرَوَّج في قنوات الإشهار، انطلاقًا من خصوصيّة السياق الفنّيّ لهذا العمل الّذي يواجه رزمة من ممارسات الحجز والعزل، بالإضافة إلى تسويغ الوعي المنطلق من ثنائيّة الدولة المستعمِرة، والدولة الوهميّة، اللتين يفصلهما جدار بائس يصطدم المتنقّل به يوميًّا كما في أغنية «كارلو»: "بين ابن القدس وابن الرام في جدار في جدار في جدار"، الّتي تؤكّد للمتلقّي أنّ هذا النوع من الموسيقى، ورغم قساوته الثوريّة، ينحاز إلى الحياة كما لو أنّ كلّ الطرق تؤدّي إليها[7].

"بكفّي صبرنا كثير نجيب الموت نقلّو الحقنا روح لك أنت اسحبها... على بابي واقف جيب جيش قبالي واقف"، يتحدّث «شبّ جديد» في أغنية «مش أفلام» عن كيفيّة الصمود أمام ترسانة المستعمِر الّتي تحدّد علاقتنا به بالفناء، فيصبح العمل الغنائيّ في هذا السياق جسمًا مجابهًا لهذه الممارسات، عبر البقاء والانتشار في الحيّز ولو كان الموت حليفًا بالنهاية. في هذا الإطار يطرح كلٌّ من وولف وفيراشيني تحليلهما للحالة الاستعماريّة في فلسطين، الّتي تنطلق من ممارسة التطهير العرقيّ والإزاحة والاستغلال، حيث يحاول الاستعمار السيطرة على الأرض عبر هذه الممارسات، في إطار تأكيد روايته الأيديولوجيّة المتسامية بالإصلاح والتطوير، على عكس السكّان الأصليّين الرحّل[8]، إذ يعبّر «شبّ جديد» عن ممارسة الإزاحة الّتي يتعرّض لها المقدسيّ بشكل مستمرّ في أغنية «عجبك ولّا ما عجبك»: "عجبك ولّا ما عجبك أنا حعمل ببي بهالبلد احبسني أحسنلك... مش خالص منّي غير بالكفن عجبك ولّا ما عجبك"؛ إذ نجد في هذه المواجهة سياسة المستعمِر في عمليّة الحجز والإبادة، من خلال الإشارة إليه في "احبسني أحسنلك"، بينما «شبّ جديد» في موقع الإنسان المستمرّ في الأزمة بحثًا عن التحرّر من هذه القيود ورأس ماله الجسد – جسده - في إشارته "مش خالص منّي غير بالكفن"، الّتي تعبّر عن استمراره بالأداء التحرّريّ والثوريّ؛ رفضًا لممارسة الإزاحة، ولو كان الموت أسلوبًا للحياة.

وفي الشقّ الآخر من سياسة الاستعمار، يطرح لنا فيرانشي حالة التحوّل في المخطّط الصهيونيّ الناتجة عن فشل الإزاحة والإبادة بشكل كامل في فلسطين المحتلّة عام 1967، إلى عمليّة الاستغلال للمستعمَر الفلسطينيّ[9]، وفي هذا السياق يقول «شبّ جديد» في أغنية "طبّ هل هادا عنده شغل على الخمسة فاق طوابير على الدور نتسفّط مين يتفتّش بالأوّل ندفش"، وفي أغنية «كحل وعتمة»: "وأنا نازل عقلنديا ودّعتني، وأنا نازل ع المعبر ودّعتني، إذا بحطّ إدي في جيابي فالقطار رح يشكّ في طعنة نصّ ساعة الطعني تفتيش ع الواقف حسّس عبطني سكاكين مش لاقي بسّ راح عبطني"، الّتي تعرض لنا آليّة تحويل المواطن الفلسطينيّ، من مالك في موطنه إلى عامل لا سيادة له يتنقّل عبر الحواجز؛ للبحث عن مصدر دخل مكلّل بمختلف أشكال الخوف والقلق واحتمالات النجاة الضئيلة؛ نتيجة الظروف السياسيّة وظروف العمل السيّئة.

 

 

من هنا، وبعد مراجعة بعض الأعمال الفنّيّة من إصدارات «BLTNM»، نجد السياقات الّتي أدّت إلى ضرورة إعادة صياغة لمعنى الحياة والموت، الّتي تنطلق من القلق المستمرّ في الوجود، والمرهونة بممارسات الاستعمار بحقّ الفلسطينيّ، بداية من خلق الجدار حالةً تفصل بين دولة الاستعمار والدولة الوهميّة من الشقّ الآخر للجدار، وتحويل المواطن الفلسطينيّ من المالك للأرض إلى عامل لا بديل له من الاستمرار في الذهاب إلى الحاجز يوميًّا، وقبل بزوغ ضوء الصباح. وعلى الرغم من كلّ هذه المجازفات في الاستمرار، إلّا أنّ الحياة مهدّدة بالانتهاء بضغطة زناد من البندقيّة لمبرّرات ساذجة كالاشتباه في حالة طعن، وبعد قطع شوط طويل من الهرولة إلى العمل، يواجه الفلسطينيّ منشأة بلا إجراءات سلامة، ومخاطر جمّة لا يمكن حصرها. مع كلّ هذا لا يضمن الفلسطينيّ استثمار أمواله، في ظلّ سياسة الإزاحة المستمرّة الّتي تصادر الأرض، وتهدم المنزل، وتفرض غرامات وضرائب باهظة؛ وهو ما يضع الفلسطينيّ في خانة الفناء، وهذا ما يجعل من أغاني «شبّ جديد» تعيد إنتاج معنًى جديد لمعايير الحياة والموت؛ عبر تجاوز الموت مفهومًا مربكًا، إلى تحديد حالة الإرباك الّتي يعيشها الفلسطينيّ أساسًا، نحو حياة يمكنها أن تكون أفضل، ولو كان الموت طريقًا لها، ويصبح هذا الفنّ راويًا للأزمة ومواجهًا لها، على غرار أدوات الإشهار الّتي تنزع الإنسان من واقعه وقدرته على الحراك الفعليّ، وتضعه في أزمة أخرى تنطلق من جدليّة الحياة السعيدة، كما تروّجها، والسعي وراء تحقيقها ليصبح الفرد بذلك ناجيًا.

 


إحالات

[1] محمّد جبالة، "ظاهرة الفنّ من منظور سسيولوجي"، مجلّة آفاق للعلوم، العدد 16 (2019)، ص 3.

[2] المرجع السابق، ص 12.

[3] بيير بورديو، "في علم اجتماع الفنّ"، مركز مسارات للدراسات الفلسفيّة والإنسانيّة، العدد 1 (2013)، ص 4.

[4] سعيد بنكراد، "الخطاب الإشهاريّ والدعاية السياسيّة"، مجلّة علامات، العدد 7 (1997)، ص 5.

[5] أمينة بكار، "آليّات الحجاج في الخطاب الإشهاريّ التلفزيونيّ دراسة تحليليّة لعيّنة من الومضات الإشهاريّة في القنوات العربيّة قناة MBC أنموذجًا"، مجلّة العلوم الاجتماعيّة، العدد 24 (2017)، ص 10.

[6] أحمد الحارثي، "الراب والثورة جدل الفنّ والسياسة"، مجلّة نوافذ، العدد 51،52 (2012)، ص 4.

[7] هيا صالح، "الراب وفنّ الجرافيتي تكامل فنّيّ انحيازًا للحياة"، وزارة الثقافة الأردنيّة، العدد 323 (2015)، ص 8.

[8] أشرف عثمان وعاصم خليل، "الاستعمار الاستيطانيّ في السياق الفلسطينيّ براديغم أم مفهوم؟"، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، المجلّد 9، العدد 35 (2021) ص 9.

[9] أشرف عثمان وعاصم خليل، "الاستعمار الاستيطانيّ في السياق الفلسطينيّ براديغم أم مفهوم؟"، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، المجلّد 9، العدد 35 (2021) ص 10.

 


 

إيهاب بزاري

 

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في جامعة بيرزيت. يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.