تحوّلات الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة

راقص دبكة في مدينة غزّة | AFP

 

نُشِر مقال في «مجلّة الكرمل» بعنوان «رموز فلسطينيّة ليست مضطرّة للبحث عن هويّة»[1]. العنوان في حدّ ذاته يثير تساؤلًا عميقًا حول المحاولات الحثيثة لاستنطاق كلّ ما هو فلسطينيّ، وتأطيره كسرديّة هويّاتيّة. من هنا، جاءت رحلة الرمزيّات الفلسطينيّة، وسيرها العكسيّ نحو ما هو مسلوب بفعل النكبة في عام 1948، وما قبلها من انتهاكات وجرائم، عبر العمل على إحيائه والإنصات إليه وتتبّع تلقّيه. تنوّع هذا السير العكسيّ في التقاط العديد من الظواهر الحياتيّة المعيشة في القرية الفلسطينيّة المطهّرة عرقيًّا، مثل الثوب الفلسطينيّ، والأغنية الشعبيّة المتمثّلة بمواسم الحصاد مثل موسم حصاد الزيتون، إضافة إلى أغاني حفلات الزفاف مصحوبة بإيقاعيّة الدبكة الشعبيّة للرجال، والدحرجة للنساء[2].

 

«ظريف الطول» وتحوّلاتها

إذن؛ فإنّ السير العكسيّ نحو القرية المدمَّرة، حمل تتبّعًا لتلقّي هذه الأغاني الشعبيّة في بداياتها، فنًّا تعبيريًّا مرافقًا لطبيعة عمل الفلّاح الفلسطينيّ في الزراعة مثلًا، وملتقطة لممارساته اليوميّة، ومفرداته العامّيّة أيضًا؛ فسهل تناقلها شفاهيًّا بين الأجيال المختلفة، بل احتواء التغييرات في سياق السرديّة الفلسطينيّة، عبر تطويع مفرداتها لحمل الخطاب الثوريّ في بداياته إبّان الإضراب الشامل في عام 1936 على سبيل المثال لا الحصر؛ فنجد ذلك في تحويل أغنية «جفرا ويالربع» من كونها أغنية حبّ في الريف الفلسطينيّ إلى أغنية ثوريّة[3].

ثمّ إنّه يمكن تتبّع تلقّي أغنية «ظريف الطول» - وتُنْطَق بالعامّيّة الفلسطينيّة «زريف الطول» -  الّتي طُوِّعت في ما بعد لتكون أغنية وطنيّة، تُسائِل الشابّ الفلسطينيّ حول غيابه واختياره الهجرة والبعد عن الوطن، كما مدحت في مقام آخر الثائر الفلسطينيّ[4]، بيد أنّها كانت في البداية أغنية شعبيّة لمدح جمال الشابّ جسديًّا؛ فتُؤَدّى في الأعراس، وتُرْقَص الدبكة على ألحانها.

 

 

إنّ أغنية «زرعنا الميرميّة على باب الدار» - وهي أغنية تراثيّة حُوِّلت لاحقًا إلى أغنية ثوريّة -تُعْتبَر مثالًا حول نضج عمليّة الإبداع الفرديّ والجماعيّ في سياق تعبيريّة الثقافة الفلسطينيّة، وكيف يمكن أن يتّحد المبدع مع الواقع المعيش ليُكسب الأغنية الشعبيّة طابع الواقعيّة والرمزيّة.  هنا، تمكّنت الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة، على الرغم من حملها الجانب الواقعيّ المأساويّ من مزج هذه المأساة بالإبداع، وتحويلها إلى صور غنائيّة يتأمّلها الفلسطينيّ ويتفاعل معها؛ لقرب مفرداتها وإيقاعاتها منه، ممّا يتوافق مع نظريّة يونغ Jung الخاصّـة بالإبداع بالإسقاط Projection Theory، الّتي تهتمّ بتحويل الفنّان للمشاهد الغريبة إلى موضوعات خارجيّة يمكن للآخرين أن يتأمّلوها؛ وبهذا تضيف إلى مقدرة الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة على حمل المعنى وتعزيزه، على حدّ سواء.

ومن الجدير بالذكر أنّ أغنية «زرعنا الميرميّة» أغنية نسائيّة شعبيّة، جاءت كلماتها كما يلي:

"زرعنا الميرميّة على باب الدار

زرعنا الميرميّة في الحاكورة

زرعنا الميرميّة في البساتين"[5]

 

تُعْتبَر من الأهازيج النسائيّة الفلسطينيّة القديمة، وقد حُوِّرت بعد النكبة فصارت كما يلي:

"زرعنا الميرميّة على باب الدار

يمّة أعطيني الفدائي ولو ببلاش

خشّ الأرض المحتلّة بإيدو رشّاش

خشّ الأرض المحتلّة عفلسطين

يمّة أعطيني الفدائي أبو الحطّة

زرعنا الميرميّة في البساتين

فلسطين تنادي على الحرّين"[6]

 

وتُغَنّى في الأعراس الفلسطينيّة على شكل أهازيج متعدّدة الصور؛ فتُسْتبدَل "يمّة أعطيني الفدائي ولو ببلاش بـ "يمّة أعطيني الفدائي ولو بقرشين" في بعض التأديات.

 

الأغنية الشعبيّة وشفاهيتها

أمّا أغاني النساء فتعتمد لحنًا فلكلوريًّا قديمًا، وتُحافظ في الغالب على وحدة الموضوع، وعلى سلامة النصّ، مع تغيير طفيف في الأسماء المستخدمة في النصّ من طقس لآخر[7]، فهي متجذّرة القدم، ثابتة الشكل والمحتوى، وبذلك تمنح مؤدّيها حرّيّة التصرّف فيها ما دام محافظًا على الإيقاع والمحتوى الرئيسيّ. ولشفاهيّتها فهي تخلق نوعًا من اللغة والتلقّي للأغنية وصورها المختلفة، أي نسخها المختلفة وفقًا للمقام؛ أي أنّ المفردات ترتبط باللاوعي لدى الناس، وبإحساسهم بها وهي منطوقة، وصوتها الموسيقيّ مع لحن الأغنية نفسها[8].

 كما وجدنا في تحوّلات أغنية «زرعنا الميرميّة على باب الدار»؛ وهذا يُحمّلها أحداثًا متعمّقة بالقوّة، قادرة على فرض نفسها في سياقها، ويمنحها القدرة على مقاومة سياق مغاير مهيمن، عبر توظيف مفرداتها والقوّة الكامنة في الكلمة المنطوقة الشائعة العامّيّة، القريبة من لغة الأرض والفلّاح؛ وبالتالي تحميلها بهذه القوّة المتعلّقة بكيفيّة جعل اللغة أسلوب وجود وممارسة؛ فهو من شأنه أن يرفع من احتماليّة قدرة النصّ الشفاهيّ الشعبيّ المُغنّى على مقاومة ملامح السلطة، والقمع المتفشّي الّذي يمارسه الاستعمار الصهيونيّ. ولكونها سهلة التذكّر لاحتوائها إيقاعًا؛ فيذهب أونج إلى أنّها تحمل طروس الهويّة، بقوله: "أنت ما يمكنك تذكّره"[9]. وبهذا يُدخل عمليّة التذكّر والشفاهيّة والتفكير إلى وعي الإنسان الفلسطينيّ ولاوعيه؛ وبالتالي هي عمليّة مقاومة داخل نفس المتلقّي، والمؤدّي إلى أيّة محاولة طمس لهذه الهويّة.

 

 

وعلى ذاك، فلشفاهيّة الأغنية الشعبيّة وإيقاعها الموسيقيّ دور مهمّ في ترديدها حالةً تعبيريّة ثقافيّة، خاصّة في الأغنية النسائيّة الشعبيّة، وهي تساعد أيضًا على الإبداع حسب المقام، فنجد نسخًا عدّة من «يا ظريف الطول» على نفس الوزن الشعريّ. ولأنّها قصائد شعبيّة تكون مشاعًا يمكن التصرّف فيه مع قيود معيّنة؛ فالمغيِّر يروم التصرّف لا التشويه؛ فلا يبتعد عن الصيغة الأصليّة كثيرًا، بل يتعمّد إحياء للأغنية في صيغتها الشائعة، الّتي ليست بالضرورة الصيغة الأصليّة. ونجد هذا الإحياء في تعدّد نسخ «ظريف الطول».

ففي «انتفاضة الحجارة»، كانت «ظريف الطول» كالآتي:

"يا ظريف الطول يا طفل الحجر

يا مثل السبع من الغابة لو زأر

يا ظريف الطول شقّينا الدروب

على طرد الغاصب توحّدت القلوب"[10]

 

على حين أنّها سابقًا كانت من أهازيج الأفراح وأغاني النساء؛ فكانت صيغتها سابقًا: 

"يا ظريف الطول

وللفرح بنغنّي للعرسان

وللفرح بنغنّي يا لالا"[11]

 

ونجد النموذج الأكثر شهرة لـ «يا ظريف الطول»، الّذي غنّته آية خلف من حيفا المحتلّة، في «ميدلي الحرّيّة» في أزقّة القدس الخلفيّة، كالآتي:

"يا ظريف الطول وين رايح تروح ...

بقلب بلادنا تعبّقت الجروح

يا ظريف الطول وقّف تاقولّك ...

رايح عالغربة فلسطين أحسنلك

خايف يا ظريف تروح وتتملّك

تعاشر الغير وتنساني أنا"[12]

 

وفي رواية شفاهيّة أخرى: "رايح عالغربة وبلادك أحسنلك"[13]. وهنا، لم يكن المعنى هروب ظريف الطول أو هجرته الاختياريّة كما يتيح المعنى السطحيّ، بل يُقْصَد به المناداة، والشوق إلى ظريف الطول، والقلق حول مصيره إبّان المواجهات في فترة النكبة، كما يتّضح من القصّة المسجّلة لظريف الطول في التراث الفلسطينيّ في أثناء النكبة، الّتي انتقلت من كونها ذكرًا لجمال الشابّ وطوله الفارع إلى تمجيد فعله البطوليّ في أثناء النكبة؛ إذ ذهب واشترى سلاحًا للدفاع عن القرية - من هجمات العصابات الصهيونيّة - من ماله الخاصّ، ومن ثَمّ اختفى[14]. وبعدها أصبحت «ظريف الطول» تعبّر عن كلّ ثائر ومقاوم فلسطينيّ، وبالتالي حملت الأغنية الشعبيّة أبعادًا وطنيّة ورمزيّة تعدّت البُعد الفلكلوريّ، ويمكن اعتبارها فنًّا سيكولوجيًّا حسب يونج، الّذي تطرّق إلى نظريّته شاكر عبد الحميد في كتابه «علم نفس الإبداع»؛ إلى فكرة الفنّ السيكولوجيّ، وكيفيّة توظيف الواقع والتجربة المعيشة في النصّ الأدبيّ[15]. وفي هذا السياق يمكن التفكير بالأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة الحاملة بُعدًا وطنيًّا ثوريًّا، بكونها فنًّا سيكولوجيًّا إبداعيًّا نابعًا من عمق التجربة الإنسانيّة الواقعيّة، المعيش فيها يوميًّا تحت وطأة الاحتلال.

 

تنظيم الأغنية الشعبيّة

ثمّ إنّ الأغنية الشعبيّة اتّخذت شكلًا تنظيميًّا عبر إنشاء الفرق الغنائيّة الشعبيّة - خاصّة بعد النكسة - مثل «فرقة العاشقين» و«فرقة ولّعت»، وصولًا إلى أدائيّة الفنّانين المنفردين أمثال ريم بنّا، ودلال أبو آمنة، وآية خلف، وكوكيم، وغيرهم. ما يميّز مشروع كوكيم في الأغنية الشعبيّة هو غناؤها باللهجة الفلّاحيّة الفلسطينيّة - الّتي كانت هي العامّيّة المنتشرة في أغلب قرى الأراضي المحتلّة في عام 1948، ثمّ إنّه ربطها في الواقع المعيش الفلسطينيّ اليوم؛ فتأتي أغنيته «عالق على حاجز قلنديا» تصويرًا لمعاناة الفلسطينيّين في التنقّل في مناطق الضفّة الغربيّة في فلسطين المحتلّة، وفي ذلك تُعْتبَر حالة تعبيريّة عن القيود الّتي يفرضها الاحتلال الإسرائيليّ على الفلسطينيّين. وفيها يقول:

"علقان ع حاجز قلنديا

ماشي زي البسّة العميا

الحدود مفروضة عاللّي بمشوا وحرّة عاللّي بيطير

بس يومًا ما رح اتّصل، واقولّك إنّي جاي عليك

بدون حدود ولا اسمنت."[16]

 

 

وهو يذهب للغناء في أغنية «زفّة التحرير» بقوله: "بدّي تتحرّر البلاد من البحر حتّى النهر"[17]. وهنا إشارة واضحة إلى تعبيريّة الأغنية الشعبيّة، وتجاوزها إطار الشعبيّة نوعًا موسيقيًّا، وصولًا إلى دمجها بحالتها الشعبيّة المعيشة - المختلفة عن إحياء الأغنية الشعبيّة قبيل النكبة - مع ’البوب‘ الفلّاحيّ الّذي يحاول إبداعه كوكيم كحالة تعبيريّة جديدة من الأغنية الشعبيّة، إن جاز اعتبارها حالة مستمرّة من التعبير عن الواقع المعيش والحياة اليوميّة، لا فقط محاولة لإحياء القرية المدمَّرة بفعل السير العكسيّ نحو كلّ ما هو تراثيّ، بل ابتكار ما هو جديد ويحمل أدائيّة عالية ومتوازية مع شعبيّة الأغنية الفلسطينيّة وطقوسها.

 


إحالات

[1] حسام الخطيب، النقد الثقافيّ الأدبيّ في الوطن الفلسطينيّ والشتات، (بيروت، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1996)، ص 12.

[2] الدحرجة هي رقصة فلسطينيّة شبيهة بالدبكة، غير أنّها لا تحتوي على كلّ حركات الدبكة من القفز واللويح؛ إذ كانت النسوة يرقصن في دائرة ويصفّقن، دون حاجة إلى القفز لدواعٍ جندريّة في ذلك الوقت.

[3] مدوّنة عرّفني أكثر، قصّة الأغنية الفلسطينيّة جفرا ويالربع، نُشِر في 15 يوليو 2020، آخر دخول 29 أبريل 2022، متوفّر في: https://bit.ly/3OH80Uf

[4] خليل العلي، من هو ظريف الطول الّذي تحوّلت قصّته إلى أغنية؟ (العربي الجديد، نُشِر في 26 نوفمبر 2016، آخر دخول 29 أبريل 2022)، متوفّر في: https://bit.ly/3OHxdOh

[5] هدى حمودة، الأغاني الشعبيّة الفلسطينيّة، (بيروت، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2012) ص 20.

[6] دلال أبو آمنة، زرعنا الميرميّة على باب الدار، (يوتيوب، مشوار ستي، دلال أبو آمنة، نشر بتاريخ: 19 أبريل 2022)، آخر دخول 29 أبريل 2022. متوفّر في: https://bit.ly/3ME5Tyx

[7] جرجس خوري، الفلكلور والغناء الشعبيّ الفلسطينيّ: دراسة في التاريخ، المصطلح، الفنّ، والظواهر الخاصّة، (حيفا، مجمع اللغة العربيّة، 2013)، ص 103.

[8] Walter Ong, Interfaces of the Word (Ithaca: Cornell University Press, 1977), P270.

[9] والتر أونج، ترجمة حسن البنّا عزّ الدين، الشفاهيّة والكتابة، (الكويت، عالم المعرفة، 1994)، ص 92.

[10] ضرار أبو شعيرة، دليل الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة، فكر ومقاومة، (دبي، دار الشجرة للنشر والتوزيع، 2004)، ص 67.

[11] مرجع سابق، دليل الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة، فكر ومقاومة، ص 182.

[12] مرجع سابق، من هو ظريف الطول الّذي تحوّلت قصّته إلى أغنية؟

[13] آية خلف، ميدلي الحرّيّة، (يوتيوب، نُشِر بتاريخ 16 سبتمبر 2021، آخر دخول بتاريخ: 29 أبريل 2022)، الدقيقة 1:45، متوفّر في: https://bit.ly/3vOsdi9

[14] مرجع سابق، من هو ظريف الطول الّذي تحوّلت قصّته إلى أغنية.

[15] يمكن النظر إلى كتاب «علم نفس الإبداع» عند شاكر عبد الحميد ومسائله لتنظير يونج لتنظير يونج حول الفنّ السيكولوجيّ والواقعيّة. شاكر عبد الحميد، علم نفس الإبداع، (القاهرة، دار غريب للنشر والتوزيع، 1995)، ص 60.

[16] أنغامي، كلمات أغنية علقان على حاجز قلنديا، كوكيم، آخر دخول 17\02\2023، متوفّر في: https://bit.ly/3IxpFwl

[17] كوكيم، زفّة التحرير، (يوتيوب، نُشِر بتاريخ 5 يونيو 2022، آخر دخول بتاريخ: 18\02\2023)، الدقيقة 3:15، متوفّر في: https://bit.ly/3xukzuK

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017).