صوت رمضان من القاهرة

فضل داوود | Getty Images

 

 

توالت على مصر قرون عدّة تحت حكم الخلافات الإسلاميّة، ولعلّ من أشهر هذه – الفتوحات - دخول الدولة الفاطميّة، وما تبعه من تغيّر جذريّ في الهويّة المصريّة الشعبيّة الحديثة، خاصّة الدينيّة منها. غير أنّ بعض المؤرّخين كان لهم رأي مخالف، مثل المؤرّخ جمال بدوي الّذي يخبرنا في كتابه «الفاطميّة... دولة التفاريح والتباريح» (2008): "لم تكن دولة الفاطميّين دولة تفاريح، لكنّها جعلت من التفاريح ستارًا يخفي حقيقة أمرها، ويغطّي مراميها وأهدافها البعيدة".

دخل جيش المعزّ لدين الله الفاطميّ مصر قبل رمضان بأسبوعين تقريبًا في عام 969، وقد تبنّى الصقلّيّ أثناء حكمه عددًا من الإصلاحات في الشأن الدينيّ، منها اعتبار رمضان ثلاثين يومًا دون الرجوع إلى رؤية الهلال، وهو ما أدّى إلى أوّل صدام مع المصريّين. ربّما من هنا نتبيّن نظريّة جمال بدوي في اتّباع الفاطميّين لسياسة ’التفاريح‘، الّتي خرجت بالمناسبات الدينيّة من داخل المساجد؛ ليكون الاحتفال بها في الشوارع والميادين، ومنها مراسم إقامة الموالد للمشايخ والأولياء ولآل البيت المحمّديّ، ويُنْسَب إليهم معظم الطقوس الدينيّة، مثل زينة رمضان ومدفع الإفطار، وهي عادات حرص المصريّون على إحيائها حتّى عصرنا الحالي.

 

دولة التلاوة والابتهالات

الابتهالات الدينيّة واحدة من أشهر طقوس العبادة في رمضان وأقدمها أيضًا، علاوة على أنّها فنّ مصريّ أصيل، حتّى أنّ بعض المؤرّخين وجد أنّ فلسفة الابتهال وثقافته تراثًا شعبيًّا ممتدّة عبر العصور، لكنّها تصطبغ بصبغة كلّ دين يظهر في مصر. يقول الأصفهانيّ في كتابه الشهير: "هي حلقة الوصل بين القراءات القرآنيّة وبين الغناء العربيّ"، من هنا تأتي خصوصيّة مدرسة التلاوة والابتهالات المصريّة، وشيوعها الشعبيّ في جميع ربوع الوطن العربيّ.

لمدرسة تلاوة القرآن المصريّة، مكانة موسيقيّة متفرّدة، لا تُخطئها الأذن العاديّة، وليس الخبيرة فقط؛ فهي مدرسة مازجت بين الغناء والتجويد...

ولمدرسة تلاوة القرآن المصريّة، مكانة موسيقيّة متفرّدة، لا تُخطئها الأذن العاديّة، وليس الخبيرة فقط؛ فهي مدرسة مازجت بين الغناء والتجويد؛ لذلك نرى بعض الجماعات المتشدّدة تُشكّك في شرعيّتها، بل تعتبرها بدعة لأنّ القرآن لا يُغَنّى. على الرغم من ذلك، أثبتت مدرسة المصريّين في التلاوة أصالة لا تزال أهمّيّتها واضحة للعيان بلا شكّ، فالمرونة الّتي اتّبعتها في التغنّي  - خاصّة أنّ للقرآن سبع قراءات - مكّنتها من التسلّل برهافة إلى روح المستمع، بل أكثر من ذلك، فقد كسرت هذه المرونة تحريمًا – كان في غير محلّه - كثيرًا ما وقف حائلًا بين الغناء وقراءة القرآن، حتّى أنّ تعاونات تاريخيّة حدثت بين الفريقين، في التعامل الأمثل مع المقام الموسيقيّ، والاختلافات الدقيقة في الانتقال أو اللحم بين الطبقات، ويذكر لنا التاريخ أمثلة عديدة على ذلك مثل أمّ كلثوم، وسلامة حجازي، وعبد الوهّاب، والنقشبندي، ونصر الدين طوبار، وعلي إسماعيل، وغيرهم.

 

ما يطلبه المستمعون

سجّلت الأغنية المصريّة قديمًا احتفاء خاصًّا بشهر رمضان، من خلال مجموعة من الأغنيات المذاعة في الخمسينات والستّينات من القرن الماضي، ساهمت في تشكيل ذائقة أجيال متعاقبة، ولا يزال هذا التأثير يسري في الوجدان العربيّ، ليس على المستوى المحلّيّ فقط؛ فقد ظلّت مصر لسنوات طويلة صاحبة الماركة الأشهر في الدراما الرمضانيّة والأغنية أيضًا، فضلًا على السينما في عصرها الذهبيّ، ولا شكّ في أنّ سجلًّا طويلًا من الأعمال الفنّيّة يُعَدّ من أشهر معالم مدينة القاهرة، الّتي لا تقتصر على المباني التاريخيّة فقط.

من أشهر الأغنيات الرمضانيّة «رمضان جانا» للمطرب الشعبيّ محمّد عبد المطّلب، وكلمات حسين طنطاوي، وألحان الموسيقار محمود الشريف. وفيها يتّبع المؤلّف الترحيب المعتاد، الّذي يبدأ بـ "أهلًا رمضان ... قولوا معانا"، وهو بذلك يدعو الجميع إلى الترحيب، ومن قبل هذا هو ينادي في بداية الأغنية بـ "رمضان جانا"، وكأنّه المنادي في القاهرة القديمة، حين كان يدور بين الحواري والشوارع؛ معلنًا أنباء الحاكم للرعيّة وأوامره. بعد ذلك تعود الأغنية إلى مخاطبة الشهر نفسه بالتعبير عن الشوق إلى لقائه: "بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك... وفي السنة مرّة تزورنا وبنستنّاك".

 

 

في أغنية عبد العزيز محمود «مرحب شهر الصوم»، يتعامل المؤلّف مع رمضان مثل مولود جديد، مستدعيًا طقس السبوع الشعبيّ، من خلال "مرحب بقدومك يا رمضان... ونعيش ونصومك يا رمضان". أمّا محمّد فوزي في أغنيته «هاتوا الفوانيس» فاستقباله مختلف قليلًا؛ فالشهر هنا ليس ضيفًا فقط: "هانزفّ عريس يا ولاد... هيكون فرحه تلاتين ليله"، وهي ليالي الشهر الثلاثين، وفي الوقت نفسه استدعاء للتراث القديم في الاحتفالات الّتي كانت تدوم أيّامًا وليالي. ولا ننسى أيضًا أغنية شهيرة لملك العود بعنوان «هلّت ليالي»، الكلمات لبيرم التونسي، والغناء والألحان لفريد الأطرش: "هلّت ليالي حلوة وهنيّة، ليالي رايحة وليالي جايّة".

على جانب آخر، ظهر عدد من الأغنيات الشهيرة الّتي ارتبطت بشهر رمضان، وكانت تحمل معاني مختلفة، مثل «حالّو يا حالّو» للفنّانة اللبنانيّة صباح، كلمات محمّد حلاوة، وتلحين محمّد الموجي. في نفس عام إذاعة الأغنية، تحديدًا في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) 1958، أُعْلِنت الوحدة الوطنيّة بين مصر وسوريا (الجمهوريّة العربيّة المتّحدة)؛ ولذلك نجد الأغنية تحتفي بكلمات مثل "لياليك الحلوة ع الجمهوريّة هلّلو... وأرضنا الحبيبة مفيهاش إيد غريبة... والمجد للعروبة طول السنين يا حالّو". وستمثّل الأعوام القليلة القادمة سنوات ازدهار للحقبة الناصريّة وحلم العروبة، سواء في مصر أو في البلدان العربيّة.

 

رمضان بين المطرب والجماعة

«وحوي يا وحوي» واحدة من أقدم الأغنيات الرمضانيّة، قدّمها المطرب أحمد عبد القادر منتصف الثلاثينات، بصوته الريفيّ العذب، المنتمي أيضًا إلى سكّان الحارة القاهريّة، الكلمات لحلمي المانسترلي، والألحان لأحمد الشريف. لعب الشريف في اللحن من مقام الهُزام المُسمّى مقام «راحة الأرواح»، وهو المقام الأكثر شيوعًا في عائلة مقام السيكا، يُعْتبَر ضمن أهمّ مقامات الموسيقى الشرقيّة، ونظرًا إلى بساطة جملته الموسيقيّة المعتمدة على مذهب يتكرّر ويقابله ردّ من الكورال؛ فقد كان استخدامه ذكيًّا ورهيفًا في الوقت نفسه، من حيث ملاءمته لدراما الأغنية الّتي نجد فيها مستوى المخاطبة ثنائيًّا؛ ربّما هو صدّ ردّ - أو خد وهات، بلغة كرة القدم - بين المطرب المحتفي بشهر رمضان وبين الجماعة، سواء كانوا عيال الحارة: "جيت بجمالك صقفوا يا عيال"، أو أخته الصغيرة: "هاتي فانوسك ياختي يا إحسان"، الّتي يُدلّلها بحبّ أخويّ: "آه، يا ننّوسك، في ليالي رمضان".

بعد ما يقارب العقدين، تُسْتكمَل الصورة السابقة للحيّ الشعبيّ بقطع أكثر غوصًا داخل الحارة، من خلال إعادة تدوير الأغنية بنفس الاسم، ولكن كلمات فتحي قورة، وألحان أحمد صبري، أمّا الغناء فللفنّانة اللبنانيّة هيام يونس، الّتي كانت طفلة آنذاك. قُدِّمت الأغنية في فيلم «قلبي على ولدي» (1953) لهنري بركات، يظهر في كلمات الأغنية بوضوح الطابع المرح المميّز لقورة: "بابا جابلي فانوس أحمر وأخضر... من السنة للسنة عمّال يكبر"، بجانب الحضور الرشيق للطفلة هيام وهي تنتقل في الحارة بصحبة الأطفال، وفي انتقالهم يمرّون بالصائم والمفطر، ومختلف البائعين، وعدد متنوّع من النماذج الأخرى. 

بمنطق طفوليّ مشابه، لا تفوتنا أغنيتان للثلاثيّ المرح: «أهو جه يا ولاد»، و«افرحوا يا بنات»، للموسيقار علي إسماعيل، وما تحمله كلمات الأغنيتين من مفردات طيّبة المذاق على ألسنة الأطفال: "يا حلاوة التين الله الله... والقمر الدين الله الله". وفي الوقت نفسه حرصت الأغنيتان على مخاطبة الأطفال من الجنسين: "افرحوا يا بنات يا للا وهيّصوا... أهو جه يا ولاد". معظم هذه الأغنيات لم يخرج عن البساطة في التلحين، بالاكتفاء بمذهب وكوبليه فقط يتكرّر واحدًا بعد الآخر. وسنلاحظ سمة مهمّة تتكرّر في معظم أغنيات رمضان، وهي حالة البندول بين المطرب والكورال، وهي نفس الحالة الموسيقيّة مع المسحّراتي، الّذي يمثّل نداؤه جانب الراوي، في ما تردّ آلة الطبلة عليه بتلك النقرات المعروفة.  

 

 

في النصف الثاني من رمضان، يبدأ التلفزيون بإذاعة أغنية «بركة رمضان»، تأليف محمّد الشهاوي، وتلحين حسين فوزي، أمّا الغناء فللصوت الشعبيّ المميّز محمّد رشدي: "يا بركة رمضان خلّيكي في الدار... يا بركة رمضان إملي دارنا عمار". بهذا الحرص الشديد على ألّا تفارق خيرات رمضان البيت البسيط للأسرة المصريّة، يساعد على ذلك صوت رشدي المعبّر عن تراب الحارة وشعبيّتها الأصيلة. وقبل أن يكتمل القمر بأسبوع تقريبًا، تطرق كلمات أغنية «تمّ البدري بدري» آذان الجميع، تلحين عبد العظيم محمّد، وغناء شريفة فاضل، الّتي لا تقلّ دفئًا شعبيًّا عن رشدي: "تمّ البدر بدري والأيّام بتجري... والله لسّة بدري يا شهر الصيام".  

يودّع المسلمون رمضان على أمل بلقاء جديد: "والله لسّة بدري والله يا شهر الصيام". وبعد ثلاثين يومًا تطلّ علينا أهمّ ليلة لتكلّل شهرًا من المجاهدة والامتثال، هي ليلة عيد الفطر المبارك، الّتي يستقبلها الجميع بكلمات أمّ كلثوم الخالدة، والمثيرة للبهجة: "يا ليلة العيد آنستينا وجدّدتي الأمل فينا".

 


 

وائل سعيد

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».