وَحَوي والفانوس... من الفراعنة إلى رمضان المسلمين

Getty Images

 

الأغنية الرمضانيّة

يعيش المسلمون شهر رمضان بإيقاعيّة معيّنة ما بين سحور وإفطار وتراويح، وغيرها من مظاهر العبادة، غير أنّ هذه الإيقاعيّة لا تقتصر على العبادة وروحانيّتها، بل تمتدّ إلى الحالات التعبيريّة المكثّفة خلال الشهر، مثل الأغاني الرمضانيّة، الّتي يُبْدَع في كتابتها وغنائها سنويًّا، بوصفها نوعًا من الاحتفال بقدوم رمضان.

من تلك الحالات التعبيريّة الغنائيّة «وحوي يا وحوي»، الّتي بثّتها «الإذاعة الأهليّة» في مصر في عام 1937، لشاعر زجليّ يُكْنى بـ ’كلثوم‘. وعليه، حملت الأغنية الرمضانيّة حالة جديدة – خاصّة مع اقتصار التغنّي برمضان شعرًا - من التعبير عن الشهر وطقوسه. لكن أيّ طقوس؟ وكيف حملت أغنية «وحوي يا وحوي» تجلّيات إيقاعيّة رمضان حدثًا سنويًّا ديناميكيًّا؟

تُعْتبَر أغنية «وحوي يا وحوي» من أهمّ الأغاني الرمضانيّة الّتي بقيت حتّى يومنا هذا، ثمّ إنّها تُعْتبَر أُولاها في الزمن المعاصر. من الجدير بالذكر أنّ الأغنية مصريّة من كتابة الشاعر الزجليّ محمّد حلمي المانسترلي، ومن ألحان أحمد عبد القادر وغنائه؛ إذ قُدِّمت لأوّل مرّة في عام 1937. ومن ثَمّ أعاد فتحي قورة وأحمد صبري صياغة كلماتها وألحانها، لتغنّيها اللبنانيّة هيام يونس، وهي طفلة، ضمن أحداث فيلم «قلبي على ولدي» للمخرج هنري بركات، في عام 1953. وفي عام 2009 صدرت النسخة الأخيرة منها بكلمات نبيل خلف، وألحان وليد سعد، وغناء محمّد منير[1].

لكن ما علاقة «وحوي يا وحوي» بشهر رمضان؟ وكيف أصبحت من أشهر الأغنيات الّتي ما زالت تُغَنّى إلى الآن، خاصّة في الشارع المصريّ؟

 

وَحَوي الفراعنة والفاطميّين

يعود ذلك بداية إلى ارتباط مفردة ’وحوي‘ باللغات المصريّة القديمة، إبّان حكم الفراعنة لمصر. ويتراوح فيها التفسير في ثلاث روايات أساسيّة، بيد أنّها تتشارك في مفردتَي ’وحوي‘ و’إيّاحا‘.

تذهب إحدى الروايات بأنّ  مطلع هذه الأغنية يعود للفترة الفرعونيّة، وتحديدًا في زمن السيّدة إيّاح حتب، الّتي تمكّنت مع ابنها الثاني أحمس من هزيمة الهكسوس، بعد وفاة والده وأخيه الأكبر. وبعد الانتصار الكبير الّذي حقّقه الملك أحمس، خرج المصريّون في استقبال والدته الملكة إيّاح، حاملين المشاعل والمصابيح يتغنّون بـ ’وحوي يا وحوي إيّاحا‘، ومعناها "مرحبًا يا قمر"؛ تقديرًا لتضحيات الملكة إيّاح[2]، وقد تحوّلت هذه المصابيح لاحقًا لتصبح فوانيس.

 

 

بينما تناقش الرواية الثانية أنّ المصريّين القدماء كانوا يخرجون بداية كلّ شهر للترحيب بالقمر، وكانوا يغنّون: "وحوي يا وحوي إيّاحا"، بمعنى: "اظهر لي أيّها القمر"، أو في ترجمة أخرى: "مرحبًا يا قمر"[3]. حيث ’وحوي‘ تعني اظهر لي، و’إيّاح‘ تعني القمر[4]. ويُقال أيضًا إنّ عبارة "وحوي يا وحوي إيّاحا" تنتمي إلى اللغة القبطيّة، وتعني: "اقتربوا اقتربوا لرؤية الهلال"[5].

عطفًا على ما تقدّم، فإنّ مفردتَي ’وحوي‘ و’إيّاحا‘ ترتبطان بشكل أساسيّ بالقمر وهو في طور الهلال؛ أي في بداية الشهر القمريّ، وهذا ما يجعله يتلاقى مع رمضان لدى المسلمين. وقد ورد حديث صحيح عن الرسول محمّد بن عبد الله (ص)، فعن عبد الله بن عمر الرسول ذكر رمضان، فقال: لا تصوموا حتّى تروا الهلال، ولا تُفطروا حتّى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". رواه البخاريّ (1906)، ومسلم (1080)[6].

إنّ ارتباط مفردتَي ’وحوي‘ و’إيّاحا‘ برمضان، هو ارتباط أساسه القمر؛ إذ إنّ المسلمين يصومون حين رؤية هلال رمضان، ويفطرون عند رؤية هلال شوّال. وبالتالي؛ فإنّ ’وحوي‘ و’إيّاحا‘ مقتصران حالةً تعبيريّة شعبيّة - أغنية متداولة بمفردات فرعونيّة حتّى وقتنا الحاليّ - على رمضان والطقوس المقدّمة لرؤية الهلال. فكما كان المصريّون القدماء يمشون حاملين المشاعل على ضفاف نهر النيل للترحيب بالهلال، يحمل الأطفال في الشوارع الفوانيس، الّتي ارتبطت برمضان لاحقًا على فترات مختلفة.

كان في صدر الإسلام إطفاء الفانوس يعني بدء وقت الصيام[7]، بينما في الفترة الفاطميّة في مصر، ارتبطت فكرة الفوانيس برمضان بشكل كبير، حين كان الأطفال يركضون حاملين الفوانيس في الأزقّة والطرقات يطالبون بالحلوى، خاصّة بعد الموائد الرمضانيّة الّتي كان الفاطميّون يجهّزونها بشكل دائم في رمضان، حتّى اصطُلِح عليه عبارة ’رمضان كريم‘.

 

طبقات الكلمات

من اللافت أنّ إيقاعيّة أغنية «وحوي يا وحوي» كانت عبر أثير «الإذاعة الأهليّة» في القاهرة، في عام 1937، ومن كلماتها:

"وحوي يا وحوي إيّاحا

روّحت يا شعبان إيّاحا

وحوينا الدار جيت يا رمضان

وحوي يا وحوي إيّاحا"[8].

 

وكما تقدّم؛ فقد تعرّضت الأغنية لتغييرات كثيرة في مفرداتها وترتيب كلماتها، واتّصالها المباشر برمضان والثقافة الشعبيّة المصريّة. إلّا أنّها اتّسمت باستمراريّة استخدام عبارة "وحوي يا وحوي"، وربطها بالفانوس مباشرة. وقد اختلفت في موضعة هذه الأجزاء إيقاعيّةً نسقيّة في الأغنية الرمضانيّة؛ فنجد أنّ النسخة الأولى من الأغنية - أغنية المانسترلي - ابتدأت بـ "وحوي يا وحوي"، ومن ثَمّ اختُتِمت بالفوانيس، بقوله:

"هاتي فانوسك ياختي يا إحسان… يالله الغفّار

آه يا ننّوسك، في ليالي رمضان… يالله الغفّار

ماما تبوسك وباباكي كمان

وحوي يا وحوي"[9].

 

وفي ارتباط اسم الأخت بالإحسان، دلالة على اتّسام رمضان بخلق الإحسان، ويليه ذكر الله باسم ‘الغفّار‘، باعتبار الحمولات الدينيّة والروحانيّة المصاحبة لرمضان بوصفه شهر المغفرة. ومن ثَمّ فإنّ هناك إِشارة إلى جلب الفانوس؛ الّذي يؤكّد وجود الفانوس طقسًا أساسيًّا لدى الأسر المصريّة. ثمّ إنّه يعمّق إيقاعيّة المشي بالفانوس في المدينة أو الحيّ، وما يحمله هذا من دخل بصريّ للأشخاص الآخرين في الجوار، وما يضيفه لممارسة هذه الظاهرة واستمراريّتها. فاستمراريّة المشي على ضفاف النيل بالمشاعل قديمًا عند الفراعنة، ولاحقًا ركض الأطفال في الأزقّة في فترة الدولة الفاطميّة، ما زال مستمرًّا بإيقاعيّته الطقوسيّة حتّى الآن، بل تضاعف أكثر؛ لتصبح النسخة الجديدة من «وحوي يا وحوي» من كتابات نبيل خلف، تحمل الإشارة إلى ارتباط الفوانيس برمضان في بدايتها.

"وحوي يا وحوي

وحوي يا وحوي مرحب رمضان

رمضان جنّة جت من الرحمن

شمعة بتكبر... أيّوحا

في فانوس أخضر... أيّوحا

رمضان نور... أيّوحا

وهلاله يبان دائمًا فرحان"[10].

 

ومن الملاحظ وجود مفردة ’فانوس‘ وارتباطه باللون الأخضر، وفي ذلك تلاقٍ مع الفترة الفاطميّة في مصر. خاصّة أنّ الفوانيس أصبحت تُطَعَّم بآيات من القرآن، مثل «سورة الفلق» على سبيل المثال لا الحصر. ولوحظ أيضًا استخدام الزجاج الملوّن في مختلف جهات الفانوس؛ وذلك لعرض ألوان مختلفة عبر الإنارة، أثناء السير في الطرقات في رمضان؛ إذ إنّ اللون الأخضر كان يرمز بشكل أساسيّ إلى الإسلام، كما أنّ إضافة الشمعة إلى الفانوس، فيها تشبيه للفانوس بالمشاعل القديمة، خاصّة مع كون مفردة ’الفانوس‘ تعني مشكاة مستقلّة، جوانبها من الزجاج، يوضع فيها المصباح ليقيه الهواء أو الكسر[11].

 

 

تداخل اللغات والثقافات

تأتي مفردة ’أيّوحا‘، وهي صيغة ممتدّة – أي متغيّرة بطبيعة الزمن واستعمالات المفردة - من كلمة ’إيّاحا‘، الّتي تعني القمر كما سبقت إشارته. ومن الجدير الانتباه إلى صياغة "وحوي يا وحوي مرحب رمضان"، ’وحوي‘ تعني "أهلًا ومرحبًا" باللغة المصريّة القديمة. ومن ثَمّ نلاحظ إتْباعها بـ "مرحب رمضان" بالعامّيّة المصريّة العربيّة. وفي ذلك تأكيد مزدوج للترحيب برمضان باستخدام صياغتين مختلفتين لغة، ومتتاليتين في نفس الجملة.

في ذلك تلقٍّ وتلاقٍ للمفردة المصريّة القديمة والقبطيّة، مع حمولاتها المعرفيّة الاجتماعيّة لحمولتها اللاحقة، وارتباطها بالسياق المصريّ بلغته العامّيّة، والاختلاف الدينيّ الحاليّ بالديانات الإسلاميّة والمسيحيّة وغيرها. وذلك عبر حالة من إحياء مفردة قديمة تعني ’القمر‘، وربطها بممارسات رمضان في الإسلام؛ إذ لم تكن «وحوي يا وحوي» تُغَنّى فقط أثناء الشهر، وإنّما في الأيّام السابقة لرؤية هلاله.

وبذلك، حافظت أغنية «وحوي يا وحوي» على ديناميكيّة حضورها وإيقاعيّتها في البيئة المصريّة، وتنقّلاتها بين اللغات القديمة ’الميّتة‘ مثل المصريّة القديمة والقبطيّة، وصولًا إلى اللغة العربيّة بمستواها العامّيّ والفصيح الكلاسيكيّ.

 


إحالات

[1] د. عبد الله المدني، قصّة أغنية «وحوي يا وحوي» الرمضانيّة، العربيّة، نُشِر بتاريخ: 22 أبريل 2022، آخر دخول: 05 أبريل 2023، متوفّر في: https://bit.ly/3Kd5mEb

[2] مرجع سابق، أغاني رمضان: «وحوي يا وحوي»... الأغنية الأقدم بنكهة فرعونيّة!

[3] مرجع سابق، أغاني رمضان.

[4] حكاية أغنية «وحوي يا وحوي» - مصر، يوتيوب، الجزيرة الوثائقيّة، الدقيقة 6:47، نُشِر بتاريخ: 07 سبتمبر 2021، آخر دخول: 07 أبريل 2023، متوفّر في https://bit.ly/3zFcR1U

[5] مرجع سابق، أغاني رمضان: «وحوي يا وحوي» ... الأغنية الأقدم بنكهة فرعونيّة!

[6] صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، الإسلام سؤال وجواب، نُشِر بتاريخ: 12 يناير 2009، آخر دخول 05 أبريل 2023، متوفّر في: https://bit.ly/3zG2zhP

[7] مصطفى عبد الرحمن، رمضانيّات: أدب وفنّ ونوادر، (القاهرة، دار المعارف، ط2، 1986)، ص 108.

[8] ربا السعودي، كلمات أغنية «وحوي يا وحوي» أحمد عبد القادر، البسيط، نُشِر بتاريخ: 17 مارس 2023، آخر دخول: 06 أبريل 2023، متوفّر في: https://bit.ly/3Khm2dX

[9] مرجع سابق، كلمات أغنية «وحوي يا وحوي» أحمد عبد القادر.

[10] أغنية «وحوي يا وحوي» مكتوبة، استكشاف، آخر دخول: 06 أبريل 2023. متوفّر في: https://bit.ly/43abJkj

[11] فانوس، معجم المعاني الجامع، آخر دخول: 6 أبريل 2023، متوفّر في: https://bit.ly/2TISOIA.

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وكاتبة فلسطينيّة تعيش في قطاع غزّة، صدر لها عن دار الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (2020)، «أعدّ خطاي» عن «دار فضاءات» (2017).