الـ «عيب» في بودكاست

«بودكاست عيب»

 

في رواية نوال السعداوي «موت الرجل الوحيد على الأرض» (1979)، الّتي تسرد قصص نساء مسحوقات من تحالف السلطات الذكوريّة والدينيّة، في إحدى قرى أرياف مصر، وهي ثيمة مكرّرة في أدب السعداوي الّتي تروي - من ضمن قصص أخرى - قصّة طفل ينشأ في بيئة سلطويّة مشدّدة، غارقة بالعقاب لما هو ’عيب‘، حتّى "بدأ الطفل ينطق الحروف، كانت أوّل كلمة قالها: إيب [عيب]".

هكذا، وإن لم تكن كلمة ’إيب‘ كما هو الحال في رواية السعداوي أوّل ما ننطق، تزرع المنظومة الاجتماعيّة فينا مفهوم ’العيب‘ منذ انطلاقنا للحياة، ونبقى نصارعه طوال حياتنا، حتّى إذا ’تحرّرنا‘ من الكثير من مفاهيمه، تبقى ترسّباته متغلغلة فينا عاطفيًّا، ونترجمها نفسيًّا بمشاعر الذنب والحزن والعار وغيرها.

رواية السعداوي غيض من فيض من الأعمال الفنّيّة أو الأدبيّة الّتي حاولت تفكيك مفهوم ’العيب‘، ومن بينها بودكاست «عيب»، من إنتاج شركة «صوت» - الّتي يمكن تصنيفها ضمن ’الإعلام البديل‘.

 

"مساحة للبوح عمّا قد يكون ثقيلًا"

نشرت «صوت»، في الشهر الماضي، الحلقة الأخيرة من الموسم العاشر، الّذي جاء في وصفه: "تمنحنا الرسائل مساحة للبوح عمّا قد يكون ثقيلًا، وتساعدنا على قول ما هو صادق وحقيقيّ. ننصت وإيّاكم لهذا البوح بكلّ تجلّياته"، فاستمعنا خلاله إلى رسائل حبيب إلى حبيبته؛ شخص إلى قطّته؛ ابنة إلى أمّها؛ أسير إلى زوجته، وغيرها، فكان البوح الصادق والمرهف ثيمة الموسم، بعد الكثير من الثيمات وعشرات الحلقات والساعات والمواضيع، على مدار عشرة مواسم.

استمعنا إلى رسائل حبيب إلى حبيبته؛ شخص إلى قطّته؛ ابنة إلى أمّها؛ أسير إلى زوجته، وغيرها، فكان البوح الصادق والمرهف ثيمة الموسم العاشر...

على مدار عشرة مواسم، نوّعت «صوت» في شراكاتها لإنتاج «عيب»، سواء مع مؤسّسات إعلاميّة مثل موقع «جيم»، المختصّ في قضايا الجسد والجنسانيّة والجندر والجنس في الموسم الثالث، أو مع مؤسّسات دوليّة مثل «صندوق الأمم المتّحدة للسكّان». تحقّق هذه الشراكات غرضين: الأوّل هو تنوّع الأفكار والخبرات بين الشركاء، والوصول إلى جمهور أكبر لكليهما، والثاني كونها مصدرًا للتمويل، وهو جزء أساسيّ ممّا تعتمد عليه «صوت» في إنتاجاتها.

إلّا أنّه لا بدّ من الوعي إلى أثر هذه الشراكات في استقبال الجمهور للمنتَج، تحديدًا في قضايا ’حسّاسة‘ ومرفوضة من شرائح واسعة من المجتمع، ألا وهي قضايا الجنسانيّة والجندر؛ فهي عادة ما تواجه بالتشكيك أو الطعن في المصداقيّة والأصالة، وبالتالي وجود أسماء جهات مرتبطة لدى الناس بما هو ’غربيّ‘ أو خارجيّ أو دخيل، قد يزيد من علامات السؤال حولها، ويصعّب من انفتاحهم لاستقبال هذا النوع من المحتوى. 

 

حقول العيب

وقد تفاوتت المواسم العشرة من حيث الجودة، والاقتراب من الموضوع الّذي من المفترض أن يعالجه البودكاست: "العديد من القضايا الّتي غالبًا ما تُوصَم بالعيب، قصص معيشة، فرضتها القواعد المجتمعيّة والأدوار الجندريّة".

منذ الحلقات الأولى، تناول البودكاست مواضيع جريئة مثل الإجهاض والمثليّة وتغيير الدين، وصولًا إلى ذروة تميّزه في موسميه الثالث والرابع، حين توضّحت هويّته شيئًا فشيئًا، وبدأ بتشكيل قاعدة جمهور مستمعين، كما كان فريدًا من نوعه بعد، والأهمّ من ذلك وجود موضوع محدّد وثيمة ثابتة للموسم؛ فتشعر - مستمعًا - مع نهاية الموسم بأنّك خرجت بشيء ما جديد فعلًا حول موضوع معيّن.

على سبيل المثال، تناول الموسم الثالث الّذي أعدّته وقدّمته عبير قبطي موضوع الأمومة، وهو من المواضيع النسويّة الغائبة والمهمّشة نسبيًّا في العربيّة، في نظري، وقد جاء صدًى لتجربة عبير الشخصيّة، الّتي ولدت ابنها قبل إنتاج البودكاست بفترة ليست طويلة، وأفضى هذا بحلقات مميّزة وممتعة، مثل: «قالب الأمومة السعيدة» و«ختان الذكور/ الطهور».

أمّا أفضل مواسم «عيب» في نظري، فهو الموسم الرابع عن الحبّ، من إعداد الكاتبة والمؤدّية فرح برقاوي وتقديمها. لكن، لم يكن هذا الموسم من «عيب» رومانسيًّا بقدر ما هو مربك ومستفزّ. بحلقات أطول من معدّل بقيّة المواسم، وخيارات موسيقيّة ذكيّة جدًّا، شكّلت جزءًا لا يتجزّأ من محتوى كلّ حلقة، واقتباسات نظريّة وأدبيّة عن الحبّ، وأخيرًا بأن ينهل من تجربة المنتجة الشخصيّة، سواء حبيبة أو شاهدة؛ قدّم لنا الموسم الرابع الحلقات الأكثر قربًا وعمقًا على مدار حلقات «عيب»، الّتي تخطّت المئة حتّى الآن.

تناول الموسم الثالث الّذي أعدّته وقدّمته عبير قبطي موضوع الأمومة، وهو من المواضيع النسويّة الغائبة والمهمّشة نسبيًّا في العربيّة...

حافظ «عيب» لاحقًا، من موسمه الرابع حتّى العاشر، على فرادته وعمقه بدرجات متفاوتة، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ عاملين اثنين حالا دون عمق وحميميّة أكبر في بعض المواسم: الأوّل هو اختيار ثيمات فضفاضة تتيح للمنتجين مرونة في اختيار مواضيع الحلقات، لكنّها لا تقول شيئًا، وتفقدنا الخيط الناظم بين الحلقة والأخرى. بل الأنكى هو اختيار مواضيع "لا عيب فيها"، ما يبعد تمامًا عن جوهر البودكاست وهدفه، مثل ’فضاءات الحركة‘، أو حتّى مثل الحديث عن بعض الأمراض الّتي تحظى بتعاطف ودعم مجتمعيّ كبير، على النقيض من وصمها بالعيب، مثل الحلقة الأولى من الموسم الخامس.

أمّا العامل الثاني فهو تعدّد المنتجين لنفس الموسم؛ فوجود منتج واحد لجميع الحلقات ينعكس على وجود رؤية ثابتة وتراكميّة للحلقات، ويتيح لنا التعرّف عليه وعلى أفكاره عن قرب، وهنا نجد الفرق بين المواسم كالثالث والرابع مقابل السادس والتاسع، حيث كان ثمّة تشوّشًا في الرؤية.

 

بودكاستات الجنس والجندر

انطلق «عيب» قبل ثماني سنوات، في ظلّ تصاعد ملحوظ للمحتوى العربيّ الافتراضيّ المعنيّ بقضايا الجنسانيّة والجندر، ويبدو اليوم أنّه بات لدينا مشهد إعلام ’بديل‘ أو ’تقدّميّ‘ يتضمّن هذا المحتوى، مع العلم بأنّه على الرغم من هذا التصاعد، ما زال قليلًا وهامشيًّا نسبيًّا.

عند الحديث عن خطوة لإنتاج بودكاست يتناول قضايا من العيب الحديث عنها مجتمعيًّا، فإنّه يمكن اعتبارها خطوة جريئة، إذ ليس من السهل أو المألوف إنتاج بودكاست أو ملفّ أو محتوًى صحافيّ أو معرفيّ في المنطقة العربية، عن قضايا كهذه، دون تحدّيات.

يزداد مع الوقت الاهتمام المؤسّساتيّ والصحافيّ بمحتوًى كالّذي يطرحه «عيب» منذ سنوات، ويتنوّع بين مؤسّسات إعلاميّة قديمة وجديدة؛ يمينيّة ويساريّة؛ عامّة ومختصّة، وقد شكّل البودكاست على مدار السنوات السابقة أبرز الأدوات والوسائط لطرح قضايا الجنسانيّة والجندر.

يمكن أن نقسّم البودكاست المنتَج عربيًّا حول قضايا الجنسانيّة والجندر نوعين: الأوّل شركات بودكاست تنتج برامج ومواضيع عدّة من بينها قضايا الجندر والجنسانيّة، وذلك مثل «عيب» من إنتاج «صوت»، أو «جسدي» من إنتاج «كيرنينج كالتشرز»، وهو من أشدّ منافسي الأوّل جودةً بتقديري. أمّا الفئة الثانية فهو البودكاست الّذي تنتجه مؤسّسات أو مجموعات نسويّة وكويريّة تعمل في قضايا الجنسانيّة والجندر أصلًا، وتختار أن يكون البودكاست من أدواتها للمناصرة أو لإنتاج المعرفة، وذلك مثل «فاصلة» لجمعيّة «مشروع الألف» في لبنان، أو «قعدة» من إنتاج مساحة «أمان» في الأردنّ. 

 

حولك في جلسة

يمكن أن نعدّ قائمة طويلة من البودكاستات العربيّة (أو الّتي تستخدم العربيّة لغةً)، الّتي تتناول قضايا الجنسانيّة والجندر، إضافة إلى المذكورَين في الفقرة السابقة، ويعود ذلك إلى ما يتيحه البودكاست وسيطًا من مزيج من المزايا، أهمّها قربه من العازفين عن الإعلام التقليديّ المهيمن بكلّ ما فيه من شروط وفروض، الّذين يلجؤون لموارد معرفة وتسلية ’بديلة‘ وجديدة خارجة عن المألوف، وأهمّ هذه الفئات قد يكون نسويّات أو أشخاص كوير باحثين عن مساحات نقاش أرحب وأقلّ ذكوريّة، أو أجيال صغيرة (الجيل زِد) منكشفة على الإعلام المعولم، ورافضة لمحتوًى وأفكار عفى عليها الزمن؛ فتجد كلّ من الفئات السابقة في البودكاست ضالّتها وملاذها. 

يُرجّح كفّة البودكاست في إنتاج محتوًى حول الجنسانيّة والجندر، تكلفته المنخفضة نسبيًّا؛ فيمكن إنتاجه بمعدّات قليلة، ودون الحاجة إلى أجهزة تعديل وتحرير معقّدة ومكلفة...

إضافة إلى ما سبق، يُرجّح كفّة البودكاست في إنتاج محتوًى حول الجنسانيّة والجندر، تكلفته المنخفضة نسبيًّا؛ فيمكن إنتاجه بمعدّات قليلة، ودون الحاجة إلى أجهزة/ أنظمة تعديل وتحرير معقّدة ومكلفة، فيوجد الآن الكثير من التطبيقات والآليّات الّتي تتيح لأيّ شخص - أو مجموعة - البدء بالعمل على البودكاست الخاصّ به. واستكمالًا للنقطة السابقة، تتيح هذه الميّزة إنتاج المحتوى المسموع خارج مؤسّسات الإنتاج الكبرى، سواء الربحيّة أو الحكوميّة، وبالتالي توفّر فرصة لطرح قضايا لا تحظى بالالتفات، بل تُوصَم أيضًا بالعيب.

من الجدير التنبيه إلى أنّه يمكن للمستهلك العاديّ أن يميّز بين الشركات أو الجهات، الّتي تستخدم أجهزة تسجيل أكثر تقدّمًا وتكلفة، مثل «صوت»، عن تلك الّتي تستخدم أدوات أقلّ كلفة، والّتي على الرغم من تأثيرها في جودة الصوت وراحة الأذن أثناء الاستماع، إلّا أنّها قد تخلق تجربة أخرى للمستمع تعطي شعورًا بالحميميّة، وكأنّ المتحدّثين في البودكاست حولك في جلسة، وذلك مثل بودكاست «فاصلة» الّذي سبق أن ذكرناه.

عودة إلى خريطة المحتوى المسموع حول قضايا الجنسانيّة والجندر؛ تخلق الميّزات السابقة ’سوقًا‘ مزدحمًا من هذه الإنتاجات، خاصّة لوسيط ما زال في طور الانتشار نسبيًّا (على الأقلّ في بلاد الشام). إلّا أنّه على الرغم من هذا الازدحام في الإنتاج في هذا المضمار، يأتي «عيب» في طليعة هذه الإنتاجات، من حيث الاستمراريّة والجودة؛ تطبيقًا لشعار الشركة المنتجة «صوت» المركزيّ: "إنتاج محتوًى صوتيّ عالي الجودة باللغة العربيّة". 

 


 

عمر الخطيب

 

 

 

طالب في برنامج ماجستير الدراسات الإسرائيليّة في «جامعة بير زيت»، مهتمّ في السياسات الجندريّة والجنسيّة وتقاطعاتها الاستعماريّة في فلسطين.