حسين نازك... منبع موسيقى همّشته الكتابة

حسين نازك (1942 - 2023)

 

الأثر

إذا كان لفلسطين مساهمات موسيقيّة في تشكّل الموسيقى العربيّة وتطوّرها، في القرنين العشرين والحادي والعشرين، فإنّه يمكننا الإشارة إلى الموسيقار حسين نازك (1942 - 2023)، أحد أهمّ الروافد الفلسطينيّة في الإنتاج الموسيقيّ الفلسطينيّ والعربيّ.

الكتابة عن شخصيّة موسيقيّة مثل نازك، تعني الحديث عن منبع موسيقيّ متدفّق وغزير، يقابله صورة مؤسفة لإقصاء وتهميش من قِبَل الكتابة النقديّة الثقافيّة لدوره ولمسيرته. تصعب الإشارة بدقّة إلى أسباب هذا التهميش، ولا نريد أن نتسرّع في تقديم التحليلات والاستنتاجات، حول قصور حركة النقد والبحث في الموسيقى العربيّة تجاه نازك في أدبيّاتها، وإن كانت هذه الأدبيّات - عمومًا - قليلة، إلّا أنّها لم تتعامل معه بوصفه حالة متميّزة استثنائيّة في الحقل الموسيقيّ العربيّ العامّ، والمشهد الفلسطينيّ بخاصّة.

إن كنّا نبحث عن معايير، ومساحات، وتيّارات إنتاجيّة موسيقيّة، من شأنها أن تساهم في تصنيف هذا الملحّن أو ذاك، من حيث مكانته وأهمّيّته، فإنّنا هنا، في مسيرة حسين نازك ومشهديّته، نمتلك مقوّمات كافية وشفّافة للتعريف به موسيقارًا كبيرًا، وضع بصمته على موسيقى الالتزام السياسيّ، والاجتماعيّ، والفولكلوريّ. إضافة إلى وضع بصماته على الموسيقى التربويّة التعليميّة، في العديد من المواقف والمراحل، وترك أثرًا كبيرًا في إنتاجات السينما والتلفزيون والمسرح.

 

 

فلسطينيًّا، منح المشهد الثقافيّ خلال مسيرة الثورة الفلسطينيّة، الّتي كانت تتعامل مع الإنتاج الثقافيّ والموسيقيّ، بشكل عامّ، بوصفه إنتاجًا مهمًّا حيويًّا ومعنويًّا للمجتمع الفلسطينيّ السياسيّ، مَنَحَ نازك احترامًا وتقديرًا نوعيًّا، سواء كان ذلك من خلال الثقة بأفكاره ومشاريعه الموسيقيّة وتبنّيها، أو من خلال إشادة القيادة السياسيّة للثورة بدور الملحّن وألحانه، من خلال المهرجانات والتغطية الإعلاميّة في إصدارات الثورة وإذاعاتها. تراجع هذا الاهتمام - إلى حدّ كبير - مع التدهور العامّ الّذي شهدته الساحة السياسيّة بعد «اتّفاقيّات أوسلو» والانقسام الفلسطينيّ، الّذي نتج عنه ضحالة وركاكة في المشهد الثقافيّ الرسميّ.

 

طفولة القدس

كانت بدايات ظهور موهبة نازك الموسيقيّة بوقوعه تحت تأثير الأجواء الموسيقيّة في بيت أهله، وفي مدينته القدس، والتعرّف إلى الفنّان الفلسطينيّ يحيى السعودي. بعد ذلك انتقل إلى مصر، وتابع ممارسة هوايته في العزف وامتهان الموسيقى تدريجيًّا. في العديد من المقابلات مع نازك، يشير إلى دور الموسيقار الفلسطينيّ المقدسيّ؛ يوسف خاشو، في صقل ثقافته وتصوّراته الموسيقيّة.

وتحدّث نازك عن مشهد الزخم الموسيقيّ العربيّ في فلسطين ما قبل النكبة، بوصفه ملهمًا لروحه، وعن رغبته في الإبقاء على المشهد الفلسطينيّ متّقدًا موسيقيًّا، رغم النكبة الّتي حلّت به.

من مصر توجّه للإقامة في الأردنّ، حيث كانت بداية انخراطه في صفوف الثورة، وتحديدًا موسيقى الثورة الفلسطينيّة هناك، وتشكّل ثنائيّ الأغنية، وهما: نازك ملحّنًا وأبو الصادق صلاح الحسينيّ شاعرًا. ومن بعدها الانتقال إلى دمشق، واستمرار العمل الموسيقيّ الفدائيّ؛ من خلال التعاون مع إذاعتَي دمشق وفلسطين الّتي بُثَّت من دمشق.

 

«بأمّ عيني»... ثمّ

في عام 1981 أنتجت «دائرة الإعلام» في «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» مسلسل «بأمّ عيني» الّذي عَمِلَ على توثيق حالات الاعتقال للفلسطينيّين من خلال سيرة المحامية الحقوقيّة فليتسيا لانچر. تعود فكرة المسلسل لعبد الله حوراني، وكُلِّف نازك بوضع موسيقى المسلسل، واستعان بكلمات شعراء المقاومة لتكثيف وقع المسلسل وتأثيره.

من خلال المسلسل، يمكن الاستماع لأغانٍ معروفة لشعراء المقاومة، مثل قصائد «راية العودة»، و«قتلي محض باطل» لسميح القاسم، «وعاد في كفن»، و«نشيد الرجال»، و«استجواب» للشاعر محمود درويش، و«فلتسمع كلّ الدنيا» لتوفيق زيّاد، وعدد آخر من الأغاني.

الأدوار الرئيسيّة في المسلسل كانت للفنّانة الكبيرة منى واصف، والممثّل السوريّ الكبير هاني الروماني، وأعدّه الكاتب السوريّ الكبير ممدوح عدوان. تكتسب ألحان المسلسل وأغانيه أهمّيّتها لكونها كانت نواة تأسيس «فرقة أغاني العاشقين»، وانطلاقتها بعد العرض والأداء لأغاني المسلسل على المسرح أمام الجمهور، ونجاح تجربة هذه العروض.

 

 

في مسلسل «عزّ الدين القسّام» (1981)، وهو أيضًا من تمثيل منى واصف، وأسعد فضّة، ويوسف حنّا، ومن إخراج المخرج السوريّ الكبير هيثم حقّي، وكتابة أحمد دحبور، أدخل نازك، بسلاسة وبذكاء وانسجام، أغاني «العاشقين» الّتي لحّنها في المرحلة اللاحقة لمسلسل «بأمّ عيني»، من مجموعة أغاني «الثلاثاء الحمرا»، وجُمِعَت هذه الأغاني في ألبومَي الفرقة اللاحقين «الثلاثاء الحمرا» و«ظريف الطول». في هذا المسلسل، أدّى مغنّي «العاشقين» الرئيسيّ، حسين منذر، دور شاعر ثورة 1936 نوح إبراهيم. شكّل هذا المسلسل، مع مسلسل «بأمّ عيني»، ولادة الدراما الفلسطينيّة، ورسّخ من خلالها نازك دور الموسيقى المركزيّ في الأعمال الدراميّة والفنّيّة الفلسطينيّة؛ خالقًا بذلك ذهنيّة عربيّة فلسطينيّة، ترى في الموسيقى رافدًا من روافد العمل الوطنيّ والثوريّ.

 

«فرقة أغاني العاشقين»

لا تغيب عن ماضي الفلسطينيّ وحاضره أعمال «فرقة أغاني العاشقين»، وأذكر منها: «الثلاثاء الحمرا» («من سجن عكّا»)، «يا ظريف الطول»، «جفرا وهي يالربع»، «غنّى الحادي»، «المعنّى»، «لمّا الزمن انقلب»، «بيروت» (اشهد يا عالم) الّتي تحوّلت إلى أهزوجة فلسطينيّة عارمة ما زالت تُرَدَّد في كلّ الميادين، وكان قد كتب كلماتها الشاعر الراحل أحمد دحبور ضمن مجموعة ألبوم «شريط كاسيت»، صدر لـ «العاشقين» بعنوان «الكلام المباح»، وكذلك أغنية «هبّت النار» من كلمات أحمد دحبور كالعديد من أغاني «العاشقين». معظم أغاني «العاشقين» لحّنها نازك، ورافقها إلى أن بدأت الفرقة بالتفكّك أسوة بالواقع الفلسطينيّ السياسيّ الفصائليّ.

من أهمّ الألحان الّتي قدّمها نازك لـ «العاشقين» تلحين قصيدة «سرحان والماسورة» للشاعر توفيق زيّاد. من خلال الأداء الموسيقيّ عزفًا وجوقة؛ يمكن لمس الفعل المسرحيّ التمثيليّ الموسيقيّ داخل الأغنية، وتطوّر الموسيقى مع تطوّر الأحداث للسيرة الذاتيّة، والأحداث الدراميّة للشخصيّة، بما يشبه العروض السيمفونيّة الأوبراليّة، وحالة الانفراج الّتي تُتَرْجَم بفعل البطولة والشهادة والرثاء، من خلال أغاني الفرح والأعراس.

هذا الإنتاج الهائل والمتواضع بإمكانيّاته في ذات الوقت، مع التنوّع بالألحان وعكسه لحقبة تاريخيّة، والملاءَمة بين المضامين واللحن، خلق مشهدًا موسيقيًّا يعكس خطابًا ثوريًّا ووطنيًّا.

كان المدّ القوميّ العربيّ من العوامل الّتي دفعت نازك إلى تأسيس «فرقة أغاني العاشقين» والتلحين لها، إضافة إلى وجود بيئة موسيقيّة ثوريّة بدأت مع الشيخ إمام ومارسيل خليفة وناس الغيوان في المغرب، و«أجراس العودة» البحرينيّة.

 

خارج «العاشقين»

عمل نازك على تلحين العديد من الأعمال الموسيقيّة وتوزيعها خارج «فرقة أغاني العاشقين»؛ فمثلًا ساهم في توزيع موسيقى نشيد «فدائي» وتنفيذها وقيادتها، للملحّن علي إسماعيل. قدّم أيضًا مجموعة نوعيّة، يمكن تصنيفها، في رأيي، بالموسيقى التوثيقيّة، وهي مجموعة «أغاني المدن»، من ألحانه وكلمات ناهض منير الريّس.

كما وضع نازك ألحان فرق محلّيّة في مخيّم اليرموك، مثل فرقة «أشبال التحرير»، تناول معظمها أشعار الشاعر أبي سلمى. وقدّم وأنتج ألحانًا مرافقة لإلقاء قصائد من شعر توفيق زيّاد وصوته، مثل «ادفنوا موتاكم وانهضوا» و«سجن الدامون» وقصائد أخرى. كما ساهم في تلحين عدد من أغاني «مجموعة الكورال»، وهي جوقة موسيقيّة غنّت أغاني الانطلاقة في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي الحقبة الموسيقيّة الّتي سبقت ولادة «العاشقين».

إضافة إلى ألحان لأغانٍ من التراث الفلسطينيّ، مستوحًى من قرًى وبلدات في مناطق فلسطينيّة مثل أغنية «نحنا جينا عزومة» من تراث طولكرم وقلقيلية، وأغنية «هزّ الرمح» المشهورة، وهي من كلمات نوح إبراهيم، وألحان أغنية «الزفّة» من كلمات أحمد دحبور. وأيضًا التلحين لمسرحيّات المسرح الفلسطينيّ، الّذي نشط في دمشق منذ بداية السبعينات. كما وضع نازك الموسيقى لفيلم «يوم الأرض» (1978) التاريخيّ لغالب شعث.

 

 

فضاء العروبة

كما التزم نحو قضيّته الفلسطينيّة، التزم نازك بقضاياه العروبيّة، وعمل موسيقيًّا بخدمتها، وهنا كذلك نتحدّث عن أعمال عديدة يصعب تقديم جميعها، وهي تتطلّب بحثًا جدّيًّا ومعمَّقًا. لكن نذكر منها أوبريت «القدس من ذهب» (2010)، من مغناة «واسطة العقد»، ضمن «احتفاليّة دمشق عاصمة الثقافة العربيّة»، وهي عمل موسيقيّ تمثيليّ وراقص. إضافة إلى التوزيع وقيادة العمل الموسيقيّ «الفدائيّ»، من ألحان الأخوين فليفل، والتوزيع الموسيقيّ لمسرحيّة «ضيعة تشرين» (1974).

أيضًا يُذْكَر له قيادة «فرقة زنوبيا» القوميّة السوريّة، من حيث التأسيس والتلحين والتوزيع، والّتي تُعْتبَر من أهمّ محطّاته الموسيقيّة، وأثّرت في المشهد الموسيقيّ السوريّ.

لا نبالغ إذا قلنا إنّ نازكًا كان له تأثير كبير في المسرح السوريّ على المستوى الموسيقيّ. في مسرحيّة «أوديب ملكًا» الّتي مثّلت فيها منى واصف، قالت الأخيرة إنّ بطل المسرحيّة الحقيقيّ هو موسيقاها، قاصدة عبقريّة نازك في تأليف الموسيقى الإغريقيّة ومحاكاتها في واقع عربيّ. كما وضع نازك الموسيقى لعشرات المسلسلات التلفزيونيّة، مثل مسلسل «حمّام القيشاني» (1994)، وقدّم موسيقى لمهرجانات ومناسبات مثل الدورات والبطولة الرياضيّة، مثل دورات «ألعاب بحر المتوسّط» في سوريا، ووضع موسيقى للعديد من الأفلام، ومنها أفلام فازت بجوائز، مثل فيلم «وطن الأسلاك الشائكة» (1980) و«مرفأ لعروس البحيرة» (1980).

قدّم نازك الموسيقى لمسلسلات الأطفال وبرامجهم، وعمل مع الأطفال لإنتاج موسيقى الأطفال، وكان له الفضل في اكتشاف موهبة أصالة نصري. ومن أهمّ الأعمال الموسيقيّة للأطفال ما قدّمه لبرنامج «افتح يا سمسم» (1979 - 2019)، الّذي أنتجته «دائرة الإنتاج» في «مجلس التعاون لدول الخليج»، وقد يكون المسلسل من أكبر الإنتاجات العربيّة للأطفال رواجًا وأهمّها.  

 

حفظ التراث

أسّس نازك «مشروع إحياء التراث الفولكلوريّ» الّذي يعدّ من أهمّ مشاريع التجميع والتوثيق لمعظم الأغاني الفلسطينيّة الوطنيّة في كلّ أماكن وجودها، حيث جُمِع العديد من الأغاني والألحان في الشتات والداخل.

ما يميّز المشروع قاعديّة المبادرة بعيدًا عن التمويل الأجنبيّ والمشروط، أو دون انتظار التمويل، إذ تفرّغ الموسيقار بإمكانيّاته الفرديّة المتواضعة ليضعها في خدمة قضاياه من مكان إقامته البسيط في مخيّم اليرموك.

من خلال مبادرته، وبالرغم من تدهور صحّته في السنوات الأخيرة، صنّف الكثير من الأغاني تحت سقف «مشروع إحياء التراث الفولكلوريّ» من على منصّة «يوتيوب»، وتضمّنت أغاني «العاشقين»، «كورال الثورة»، أغاني أبو عرب، «صابرين»، أغاني سيمون شاهين، «فرقة الفنون الشعبيّة الفلسطينيّة»، «فرقة سريّة رام الله»، أغاني ريم بنّا، وفرق أخرى عديدة ساعدت في إخراج الأغاني من المجهول.

 

دينامو موسيقيّ

استمرّ نازك في العمل الموسيقيّ حتّى في أعوامه الأخيرة، فلحّن مثلًا «القدس معراج العرب» من كلمات أحمد دحبور، قُدِّمت في «دار الأوبرا» في دمشق، مع مجموعة من الأغاني المعروفة لـ «العاشقين» وأعمال أخرى، رغم حالة الإعياء الّتي ألمّت به.

الكتابة عن نازك ليست مجرّد سرد وتعداد لألحان هنا وهناك، بل هي محاولة للإشارة إلى أنّ الموسيقار خلق حالة لحنيّة تاريخيّة في الموسيقى العربيّة، تستحقّ الالتفات المطوّل. من وراء تعداد بعض أعماله، نقدّم مقولة عن مشروع موسيقيّ نجح في خلق حالة موسيقيّة متميّزة، وضعت بصماتها على نتاج ضخم من الأعمال الموسيقيّة، ونجحت رؤيته الموسيقيّة ومؤلّفاته في رواج الأغاني والأعمال، وترديدها من قِبَل الملايين، في ظلّ مقدرته على توظيف الآلات الموسيقيّة، والمزج بينها، وإتقان توظيفها مع الكلمات والأصوات؛ وهذا يعني تمازجًا وانسجامًا بمركّبات الأغنية، مجسّدًا ما تطمح إليه الموسيقى عالميًّا لتحقيق ’الهارمون‘ (Harmony).

يُظْهِر تعدادنا لأنشطة نازك وعطاءاته الموسيقيّة دينامو موسيقيّ عَمِلَ دون توقّف، مولّد طاقة لفضاءات موسيقيّة متنوّعة متعدّدة.

 

 

لا يمكن للكتابة النقديّة عن أعمال نازك إلّا أن تعترف بمقدرته النوعيّة على تقديم أعمال متشعّبة في التلفزيون، والسينما، والمسرح، والفرق الموسيقيّة، ثمّ الحفاظ على التوازن بين ما هو نخبويّ وشعبيّ، وكأنّه كان حريصًا جدًّا على أن تبقى الموسيقى للناس جميعًا، وألّا ينعزل عن قضاياهم، والانخراط موسيقيًّا مع هموم الناس.

نَهْج نازك ومسيرته يتركان لنا مقولة مهمّة عن ضرورة انخراط الفنّان مع هموم شعبه، وأنّ هذا المذهب في تماهي الموسيقار المثقّف مع قضاياه الوطنيّة عليه أن يستمرّ، وألّا يتحوّل إلى تراث بائد يقع في مستنقع الرأسماليّة الّذي يعمل على توسيع النخبويّة والطبقيّة وتأجيجهما، وتفريغ الشارع الشعبيّ من مثقّفيه ومبدعيه.

 


 

فايد بدارنة

 

 

 

باحث وكاتب، حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثروبولجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من «الجامعة العبريّة» في القدس. يحضّر لرسالة الدكتوراة في المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في «الجامعة العبريّة».