جَفْرا وْهي يالرَّبِع... من الأغنية إلى القصيدة

من فيلم «الفتح» (1970)

 

تعكس الأغنية الشعبيّة سياقاتها الاجتماعيّة والثقافيّة؛ فالغناء يعبّر عن الجماعة بهمومها وأفراحها. كما تشكّل الأغنية الشعبيّة حاملًا لتراث الشعوب وتؤرّخ لها، وقد احتوى التناقل الشفاهيّ للأغنية على أبعاد القصّ كما في الحكاية الشعبيّة وكلّ ما كان يُتَناقل بالكلام المنطوق، ما بنى جسورًا مع التدوين في انتقال الثقافات من الشفاهيّة إلى الكتابة؛ فأسّست الشفاهيّة حقلًا ميدانيًّا لتقصّي المكتوب.

ولعلّ من الإرث الغنائيّ الفلسطينيّ ما تولّد بين دفّتَي الكتب في الشعر والحكايات؛ ما أثار حفيظة الكتّاب لتتبّع أثر الارتحال السابق للكتابة، ومحاولة استكشاف رحلة الوصول إلى التدوين، وهو ما جسّده إرث ’الأغنية الجفراويّة‘ الّتي انتقلت إلى الشعر، وتحديدًا شعر عزّ الدين مناصرة (1946-2021)، وقد ازدادت شهرة مع ولوجها عالم الشعر الشعبيّ، بعد أن عُرِفَت «جفرا» في الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة الّتي غنّاها الفلسطينيّون في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعيّة، فشكّلت نموذجًا غنائيًّا تأثّر بالواقع الفلسطينيّ تحت الاستعمار الإسرائيليّ كغيرها من الأغاني المتداولة، من مثل «ظريف الطول»، و«من سجن عكّا طلعت جنازة»، و«طلّت البارودة والسبع ما طلّ»، و«يا يمّة في دقّة على بابنا»، حتّى بتنا نتتبّع أثر الخطاب الغنائيّ في محاورة الواقع، الّذي ارتحل خارج حدود الوطنيّة الفلسطينيّة، وليتعدّى منها الملفوظ نحو المكتوب، ويصبح رمزًا عربيًّا وعالميًّا.

ما يُقرأ في أغنية «جفرا» الّتي أصبحت إرثًا شفاهيًّا وكتابيًّا، يسرد عوالم الحبّ والوطن والمقاومة بين الملفوظ والمكتوب؛ لنتتبّع فيها تحوّلًا لغويًّا بين الشفاهيّ في الغناء، والمكتوب في الشعر.

 

جفرا في الأغنية

شهدت الأغنية الفلسطينيّة استحضار ’جفرا‘ لأوّل مرّة في عام 1939، على لسان المغنّي والشاعر الفلسطينيّ الشعبيّ أحمد عبد العزيز علي الحسن، من قرية كويكات بالقرب من عكّا، وهو الذذي لم يكن معروفًا حتّى تقصّاه الشاعر عزّ الدين المناصرة، بعد أن اشتهرت ’جفرا‘ شعرًا في قصيدته «جفرا الوطن المسبيّ» (1976)، إذ اكتسبت حضورًا واسعًا بعد نشرها في الصحف اللبنانيّة، وترجمتها إلى لغات عدّة؛ ما أخذه لاحقًا للتعرّف على ’جفرا‘ الفلكلوريّة الّتي غنّاها أحمد الحسن، والّتي تروي قصّة حبّه لامرأة، إلّا أنّ بعض السرديّات روت أنّ جفرا هي طليقته الّتي ندم على تطليقها حتّى أصبح يغنّي:

جَفْرا ويا هَالرَّبِعْ

ريتِكْ تُقُبْريني

تِدْعَسي عَلى قَبْري

تِطْلَعْ ميرَمِيَّة.

 

تعني ’جفرا‘ أنثى الغزال، ما ربط تشبيهها في الأغنية والشعر بالمرأة الفائقة الجمال، حتّى أصبحت غاية في الحبّ. اشتهرت بعد ذلك ’جفرا‘ في فترة الأربعينات بمطلعها "جَفْرا وْيا هَالرَّبِع"، حتّى أصبحت نمطًا غنائيًّا في الأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة، ثمّ كان اللجوء في المخيّمات على إثر النكبة الفلسطينيّة في عام 1948، سبب ارتحالها إلى المناطق العربيّة المجاورة لفلسطين، فبدأت تنحى نحو التعبير عن المعاناة الّتي تولّدت مع احتلال الأرض، وتعبّر عن الارتباط بالوطن والدعوة إلى الشهادة:

جَفْرا وْيا هَالرَّبِعْ

بِدّي أَرْضِ بْلادي

وِالْقَعْدِة تِحْلا وَالله  

بينَ أَهْلي وِصْحابي

كِرْمالِ عْيونِ الْوَطَنْ  

تِحْلا لي الشَّهادِة

كِرْمالِ كْرومِ الزَّيتون   

الرّوحِ مَفْدِيَّة.

 

عُرِفَتْ ’جفرا‘ حتّى عام 1982 بشكل محدود، يكاد لا يتجاوز فلسطين والمنطقة العربيّة، لكنّها لاحقًا امتدّت لتصبح رمزًا عربيًّا بعد ولوجها لشعر المناصرة، وهو ما شهد صورتين لها بين الغناء والشعر؛ إحداها ’جفرا التراث‘ الّتي غنّاها أحمد الحسن، و’جفرا الشهيدة‘ الّتي كتبها شعرًا المناصرة؛ جرّاء قصّة حبّه مع فتاة فلسطينيّة استشهدت بنيران غارة إسرائيليّة على بيروت[1]، وهو ما دفع لاحقًا إلى أن ترتبط موضوعات ’جفرا‘ الغنائيّة بالمقاومة والوطن والشهادة؛ لتحمل ’جفرا‘ المرأة الجميلة رمزيّة وطنيّة وقوميّة.

 

جفرا المقاومة

يُعَدّ اقتراب الشعوب من الشفاهيّة من قبيل الحاجة إلى التعبير عن الحياة المعيشة[2]؛ ما جعلها تنعكس في أنماط ثقافيّة واجتماعيّة كالأغنية الشعبيّة، وهو ما مثّل ميل الشعوب إلى الغناء في التعبير عن حياتهم وما فيها من تحدّيات وانكسارات. ارتكاز الشعوب على الغناء يأتي في سياق التعبير عن التعاطي مع الأوضاع الراهنة والتصدّي للقاسي منه؛ والأغنية الجفراويّة ما زالت تشهد إعادة إنتاج بحسب سياقات الواقع الفلسطينيّ، وقد نحت منحى التعبير عن المقاومة للاستعمار، ما أكسبها صفة الموقفيّة في تفعيل التعبير عن الجماعة؛ أي الشعب الفلسطينيّ:

جَفْرا وْهي يا الرَّبِعْ

رَبْعِ الْجِهادِيَّة، مِيِّة وْعِشْرينِْ سَبِعْ

صاروا خَمِسْ مِيَّة

قالَتْ قَدّيشِ الْعَدَد

ويا جَفْرا لا تْعِدّي

هذا جيلِ الثَّورَة اِنْوَلَدْ

ويا ثَوْرِتْنا مِدّي

وْيا طيرِ الطَّايِرْ فوقِ الْجَبَلْ هَدّي

رَبْعي وْسِرّ دَفينْ

وْجِهادُه رَأسْ مالُه

لا دَرّي الإيدِ الْيُمْنى

شو تِعْمَلْ شِمالُه

لمّا الداعي دَعا

دَشَّرْ أَهْلُه وْمالُه.

 

 

اتّسام الأغنية الجفراويّة بالموقفيّة جعلها ذات امتداد واستمراريّة حتّى اليوم في الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ، والفعل المقاوم والتعبير عنه غنائيًّا، وهي تحضر مع مختلف الأحداث على رأس الأغاني الشعبيّة، فتطرّقت مؤخّرًا إلى المقاومة باسم «عرين الأسود»، الّتي صدرت عن «فرقة العاشقين» تحت عنوان «جفرا وهي يالرَّبِع أسود العرين»، حيث التغنّي ببطولة هذه المجموعة المقاوِمة، الّتي تشكّلت خلال الأعوام الأخيرة في مدينة نابلس.

طرحت الأغنية نموذجًا غنائيًّا في سرد أحداث اغتيال قادة المقاومة في «عرين الأسود»، واحتوت على أبعاد مكانيّة في الإحالة إلى مدينة نابلس. وبالإضافة إلى حدث اغتيال قادة المقاومة في مخيّم «العطعوط»، لم تَخْلُ الأغنية من خطّ زمنيّ للأحداث في الإحالة إلى ’يوم النزال‘، الّذي صادف يوم الاغتيال في المخيّم، وهو 24 تشرين الأوّل (أكتوبر) من عام 2022، وشكّلت الأغنية الجفراويّة بهذا السياق نقلة جديدة في قيام الأغنية بسرد الأحداث؛ فأكّدت حضور المقاومة وتضحيتها.

 

 

تُقْرَأ أغنية جفرا في هذا السياق، الّذي يُعْتبَر من أحدث سياقات استحضار جفرا،  باتّساق الأغنية الفلسطينيّة مع الواقع في بناء مزامنة بين خطاب الفعل الشفاهيّ للأغنية، وهو خطاب مقاومة وواقعيّة للحدث، وهو ما ترتّب عليه قيام الأغنية بفعل قصّ الأحداث، بصورة متكاملة تحتوي على الشخوص والمكان والزمن بلغة عامّيّة؛ لإنتاج خطاب يعبّر عن الزمن الفلسطينيّ، وهو ما يورد أهمّيّة استقصاء اللغة في التعبير الشفاهيّ، كما المكتوب حسب اعتبارات ميخائيل باختين للغة الخطاب، وهو ما يشدّد فيه على حواريّة الملفوظ في التعبير عن التجربة المعيشة[3]، وهذا يجعل الأغنية الجفراويّة ظاهرة اجتماعيّة مواكبة في خطابها، ويمكّنها من بناء خطاب لا يقلّ أهمّيّة عن خطاب اللغة الّتي انتقلت إلى مستوى الفصيح مع ولوج الأغنية الجفراويّة للشعر.

 

جفرا في الشعر العربيّ

عُرِفت جفرا  في النصّ المكتوب بشكل وثيق في شعر عزّ الدين المناصرة، الّذي كان له دور كبير في تسطير أسطورة الجفرا في الشعر العربيّ، فارتبطت علاقته بأغاني الجفرا في شكلها الشفاهيّ بطفولته في فترة الخمسينات، في الأعراس القرويّة والمناسبات الاجتماعيّة المختلفة؛ ممّا دفعه إلى ترجمتها في النصّ المكتوب، فأنتجها في شكل شعريّ فصيح بشكلها الأوّل في عام 1976، ثمّ ما لبثت حتّى تردّدت جفرا في أشعاره بكثرة؛ فأكسب تجربته الشعريّة خصوصيّة تجلّت في تصويره لجفرا بمستويات عديدة، بُرِّر خلالها على ارتباطها بالإرث الشفاهيّ، فتجلّت جفرا بمفهوم الأغنية الشعبيّة في شعره الفصيح في قصيدة «نصّ الوحشة» في عام 1995:

سأرتّبُ عاداتي

وِفْقَ تقاليدِ المنفى

لكنْ... سأطعمُ أطفالي بأغاني جفرا وظريفِ الطّول.

 

ثمّ عاودت جفرا الظهور بنفس المعنى في نصّ قصيدة «لا أثق بطائر الوقواق» في عام 1999:

كنتُ طاردتُ هديلَ الأغنية

ثمَّ طاردتُ في هديرِ الشاحنة

لا ظريفَ الطولِ

 داواني

ولا جَفْرا

ولا نَوْحُ الحمام

عشّشَ الوقواقُ في تلكَ الأغاني المزمني.

 

ومن الملاحظ في النصّين الشعريّين السابقين مرافقة أغنية «الجفرا» لأغنية «ظريف الطّول»، وكلاهما من أشهر نصوص الإرث الشفاهيّ في الأغنية الفلسطينيّة، إلّا أنّ ولوجهما لشعر المناصرة يفسّر من خلال ارتباط ذاكرة الشاعر بالتراث الشفاهيّ؛ فانعكس في التأسيس لتاريخ الأغنية الفلسطينيّة كتابة في الشعر، وتحديدًا في شعره. 

وبقيت جفرا مرتبطة بفلسطين في شعر المناصرة، فحمّلها رمزيّة استشرافيّة في قصيدة «زرقاء اليمامة»، الّتي كتبها في عام 1966 قبل هزيمة حزيران:

لكنْ يا جَفْرا الكنعانيّة

قلتِ لنا إنَّ الأشجارَ تسيرُ

على الطرقاتِ

كجيشٍ محتشدٍ تحتَ الأمطارِ

أقرؤُهُ سطرًا سطرًا رغمَ التمويهِ

لكنْ، يا زرقاءَ العينينِ، ويا نجمةَ عتمتِنا الحمراء

كنّا نلهثُ في صحراءِ التيهِ

كيتامى منكسرينَ على مائدةِ الأعمام

... ثمَّ شاهدتُ مجزرةً لطختُ بالرمال

وشاهدتُ ما لا يُقال

كانَ الجيشُ السفّاحُ في الفجرِ

ينحرُ سكّانَ القريةِ في عيدِ النحر

يلقي تفّاحَ الأرحامِ في بقاعِ البئر.

 

أخذت جفرا في شعر المناصرة بُعْد المحبوبة والوطن، حتّى امتزجا بصورة فنّيّة لا يمكن فيها الفصل بينهما، فبعد أن تجلّت كثيرًا في شعره بصورة المحبوبة الجميلة، توشّحت لاحقًا بصورة الوطن، فدلّت على الارتباط بالأرض، وأصبحت مزيجًا من صورة الأرض والوطن والثورة والمرأة[4]، حتّى عكست جفرا في قصائد المناصرة صورة للحنين المتولّد من الذاكرة، في تذكّر جفرا المرأة الفلسطينيّة، وحياتها في الوطن:

 جفرا، أذكرُها تحملُ جرّتَها قربَ النبع

جفرا، أذكرُها تلحقُ بالباصِ القرويِّ

 جفرا، أذكرُها طالبةً في جامعةِ العشّاق.

 

يربط المناصرة في قصائده بين جفرا، المرأة الفلسطينيّة، والوطن والأحداث الّتي كان لها أثر كارثيّ على الفلسطينيّين مثل الحرب الإسرائيليّة على لبنان، وما طال المرأة الفلسطينيّة من انتهاك وتنكيل:

جفرا جاءتْ لزيارةِ بيروتْ

هلْ قتلوا جفرا عندَ الحاجزِ؟ هلْ صلبوها في تابوتْ؟

 

تُعَدّ إسهامات المناصرة في القصيدة الجفراويّة مهمّة في التدليل على التراث الفلسطينيّ، المتمثّل في جفرا الأغنية الشعبيّة في صورة الشعر الفصيح، وبلوغه غايات تجاوزت القوميّة الفلسطينيّة والعربيّة، فقصيدته «جفرا الوطن المسبيّ» كان لها أثر بالغ في ولوجها لمساحات الترجمة العالميّة، وأدائها على المسارح، وتنامى الاهتمام في ما اكتنزه إبداعه الأدبيّ، وهو ما أكسب إرثه الشعريّ بُعْدًا ملحميًّا في التطرّق لمآسي الفلسطينيّين وانكساراتهم في الشتات وواقع الوطن تحت الاستعمار.

 

 

يتخلّل رحلة النصوص المتداولة شفاهيًّا نحو المكتوب تحوُّل في البنية اللغويّة من العامّيّة إلى الفصيحة، وهذا ما يفتح آفاقًا على مرونة النصّ المكتوب، مقابل دوافع الحاجة إلى إنتاج الخطاب الشفاهيّ، فنجده في الأغنية الجفراويّة، وهو ما يفرز خصائص اتّسم بها كلٌّ من النصّ الغنائيّ الشفاهيّ، وما تحوّل إليه لاحقًا من نصّ شعريّ؛ فالدوافع الاجتماعيّة لنشوء الأغنية الجفراويّة الفلسطينيّة، بالتوالد من الأغنية الّتي ردّدها شاعرها الأوّل أحمد الحسن، برزت من الفعل الجماعيّ والاجتماعيّ للمناسبات كالأفراح، لكنّها لاحقًا اكتسبت اتّساعًا شفاهيًّا في استمراريّة فعل الغناء حتّى اليوم، وقد أكسبها المناصرة استمراريّة في النصّ المكتوب؛ ما أخضعها للدراسة والتحليل.

وقد دلّلت جفرا الأغنية الشعبيّة على الدوافع النفسيّة للغناء في إنتاج خطاب غنائيّ مقاوم، ما يجعل من خطاب الأغنية الشعبيّة خطابًا منبثقًا من النسيج الجماعيّ في التعبير عن الجماعة وما يعتريها من شتات وضياع، في ما يشير النصّ المكتوب لشعر جفرا في نصوص المناصرة إلى قدرة النصّ الشعريّ على سرد الأحداث، وهذا ما أكسب شعره خصوصيّة القصّ والرواية، فضلًا على جزالة اللغة الفصيحة، الّتي بنت جسورًا مع مستويات الموضوعات الّتي تطرّقت لها اللهجة العامّيّة في الأغنية، وبناء اتّصال حواريّ مع جفرا التراث الغنائيّ.

 


إحالات                                                                                           

[1] قصّة جفرا الحقيقيّة: جفرا الشهيدة، وجفرا التراث، وكالة معًا، آخر تحديث 15 أيلول 2018، https://www.maannews.net/articles/960734.html

[2] والترج أونج، الشفاهيّة والكتابيّة، ترجمة حسن البنّا عزّ الدين (الكويت: عالم المعرفة، 1994)، 86-90.

[3] ميخائيل باختين، الخطاب الروائيّ، ترجمة محمّد برادة (عمّان: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1987)، 22.

[4] حسام جلال التميمي، تجلّيات جفرا في شعر عزّ الدين المناصرة، مجلّة جامعة النجاح للأبحاث، عدد 15(2001): 333-335.

 


 

مها زيادة

 

 

 

باحثة فلسطينيّة، حاصلة على الماجستير في «الأدب المقارن» من «معهد الدوحة للدراسات العليا»، مهتمّة بقضايا الأدب وتحليل الصورة المرئيّة.