موسيقى المِزْراحِيّين... خلل في الصهر الإسرائيليّ (1/2)

زوهَر أرجوف، مغنّ مِزْراحيّ إسرائيليّ | أرشيف مجلّة "بَمَحَنيه".

 

سؤال العِرْق والإثنيّة

الموسيقى لغة الشعور، تتجذّر سريعًا في لاوعي الفرد الغارق في تقليد ثقافيّ معيّن؛ إذ أنّها ليست مجرّد أداة للتدليل على أحداث رئيسيّة في حياة الإنسان، بل تؤدّي دورًا مهمًّا في التعبير عن الأحداث الاجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافيّة، والهويّاتيّة أيضًا. في إسرائيل، المستعمَرَة، كانت الموسيقى وما زالت مساحة للتفاوض على الهويّات المتعدّدة لمجتمع استيطانيّ جُمِعَ من مختلف دول العالم، مُرْغَمًا على تشكيل هويّة وطنيّة مميّزة، إلّا أنّه غرق في الاغتراب والحداثة من جهة، ونموّ جمهور جديد خارجيّ، وطنيّ ودوليّ ساعد في صياغة هويّة الموسيقى الإسرائيليّة، وتحديثها من جهة أخرى.

تهدف هذه المقالة إلى قراءة الموسيقى من منظور إثنيّ، أو ما يُسَمّى بالإثنيّة الموسيقيّة (Ethno-musical)، من خلال علاقتها بمجتمع المهاجرين، وكيف تحوّلت إلى أداة من أدوات تحديد العِرْق، وفرضه بين اليهود الشرقيّين والغربيّين، ومدى تأثّر ’المِزْراحِيّين‘ (الشرقيّين) بمحاولات الإدماج من قِبَل الأشكناز. كما تدّعي أنّ إسرائيل لم تتمكّن من تشكيل موسيقى إسرائيليّة أصلانيّة؛ لأنّها لم تأخذ الموسيقى المِزْراحِيَّة بعين الاعتبار، ولم تنظر إليها جزءًا أساسيًّا من هويّة اليهوديّ الجديد، ولم تمنح ’المنفى‘ [استخدام اللفظ هنا من منظور يهوديّ وصهيونيّ] الّذي جاءت منه قيمة ثقافيّة. كما أظهرت مراجعة الأدبيّات أنّ منظورها إلى ذاتها بصفتها دولة قيد التكوين ترغب في أن تكون إسرائيليّة خالصة، لا شرقيّة ولا أوروبّيّة تمامًا، ساهم في فرض نوعيّة معيّنة من الأدائيّة الإثنيّة الموسيقيّة على ’الشعب‘ الإسرائيليّ.

إسرائيل لم تتمكّن من تشكيل "موسيقى إسرائيليّة أصلانيّة"؛ لأنّها لم تأخذ الموسيقى المزراحيّة بعين الاعتبار، ولم تنظر إليها جزءًا أساسيًّا من هويّة اليهوديّ الجديد...

لا تسعى هذه الورقة إلى استعراض تاريخ الموسيقى الإسرائيليّة، إنّما تحاول الوقوف على المحطّات التاريخيّة المهمّة الّتي شكّلت التجربة الموسيقيّة المِزْراحِيَّة؛ لتفكيك علاقتها بمفهومي العِرْق الإثنيّة، إلى جانب علاقتها بالموسيقى العربيّة والغربيّة، ومحاولات الأصلنة الإسرائيليّة الّتي غيّبت التجربة الشرقيّة، خاصّة على مستوى الممارسات الدينيّة الّتي حاولت الحفاظ على تقاليدها الموسيقيّة في بداياتها.

الادّعاء الأساسيّ في هذه المقالة أنّ الصراع الموسيقيّ الإثنيّ كان هدفه أصلنة الموسيقى الإسرائيليّة، مع ذلك فشلت إسرائيل في تشكيل هويّة وطنيّة ثقافيّة موسيقيّة مُوَحَّدة، وكأنّ الموسيقى مجرّد ذريعة ظاهرة للهيمنة العِرْقيّة الخفيّة، الّتي تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الحيّز العِرْقيّ، إلّا أنّها تضرب عميقًا في جذوره، وتؤثّر بشكل واضح وملموس في طريقة تعريف الإسرائيليّ للآخر.

تشير النتائج إلى انتقال العِرْق، من مفهومه العموميّ الفضفاض إلى التفاصيل الصغيرة الّتي حكمت الماضي نظرًا إلى تأثيرها في الحاضر والمستقبل؛ فالأدائيّة الإثنيّة الموسيقيّة المِزْراحِيَّة اكتسبت سلطتها من رغبتها في الحفاظ على جذورها و"بَيْتَتَة المنفى"[1] الّذي جاءت منه، مع تأكيد يهوديّتها. وكان هذا الهوس الهويّاتيّ سببًا مباشرًا في انصهارها مع الثقافة الموسيقيّة الإسرائيليّة، الّتي دعت إليها ’بوتقة الصهر‘ منذ بداية تكوين الدولة رسميًّا في سنة 1948. مع ذلك، يستحيل الوصول إلى نتيجة واضحة حول نسبة انتماء الموسيقى المِزْراحِيَّة إلى الوجود اليهوديّ في إسرائيل أو خارجها؛ لفشل الدولة في تشكيل موسيقى أصلانيّة منذ صعودها حتّى اليوم؛ ممّا يعني أنّ محاولات الأشكناز للسيطرة على الموسيقى ليست إلّا تأكيدًا لتفوّق العِرْق على الإثنيّة.

ستحاول المقالة كذلك، النظر إلى تاريخ الموسيقى المِزْراحِيَّة في إسرائيل المستعمَرة، واستعراض صورة بانوراميّة لما كانت عليه أحوالها في تلك الفترة: مدى تأثّرها في عمليّة التثاقف؛ النتائج الّتي ترتّبت عليها، وإن كانت الموسيقى المِزْراحِيَّة لا تزال تعبّر عن العِرْق اليهوديّ الشرقيّ، أو غيّبته لصالح الاندماج والأصلنة.

 

التهجين والأصلنة

التعمّق في مصطلح ’الموسيقى الإسرائيليّة‘ يعني الحديث عن مجموعة من أنماط الموسيقى والأغاني المستوحاة من الوجود اليهوديّ الروسيّ والشرق أوسطيّ والسفاراديّ؛ فالقاسم المشترك الوحيد بينها هو الكلمات العبريّة.

راج اعتقاد سابق بأنّ ثمّة موسيقى إسرائيليّة أصيلة تعبّر عن أصالة الثقافة العبريّة، إلّا أنّ الأيديولوجيا تتحكّم في الموسيقى، وتؤثّر في مدى أصلانيّتها؛ فالموسيقى الإسرائيليّة، إن وُجِدَتْ، يجب أن يكون لها من ناحية أيديولوجيّة لغات موسيقيّة محدّدة خاصّة بها[2]، ويجب تجنيد أجهزة الدولة ذات الصلة لخدمتها، وعلى الموسيقى الشعبيّة أن ترسم تعريفًا للكيانات الوطنيّة.

صحيح أنّ الأنماط الموسيقيّة للأقلّيّات قد تكون بعيدة عن الوعي الوطنيّ أو توصَم بأنّها تقليديّة أو أجنبيّة، لكن يمكن القول إنّ ثمّة في إسرائيل ثقافتان موسيقيّتان: الأولى موسيقى المِزْراحِيّين، والثانية موسيقى الروك الأشكنازيّة.

للموسيقى اليهوديّة ثلاثة أدوار تاريخيّة: أوّلًا، اتّصالها بالماضي، واستخدامها في الحاضر لتفسير الماضي. ثانيًا، أنّها تعكس الحياة اليهوديّة المعاصرة مثل التعدّديّة الموسيقيّة. ثالثًا، تتّجه نحو التوحيد الثقافيّ الّذي يُعْتَبَر من مفرزات الهيمنة الأشكنازيّة[3]، ويعيبها غياب التقليد الأصليّ الطويل الأمد، المرتبط بالوجود اليهوديّ الحديث والقصير نسبيًّا في فلسطين، الّذي يمكن للدولة أن تستمدّ مواردها الثقافيّة منه.

لهذا السبب، بذلت إسرائيل مع صعود الاستيطان جهودًا حثيثة لخلق لغة موسيقيّة نموذجيّة، وبناء وعي يختبر هذه اللغة أصلًا عبريًّا. على سبيل المثال «أغاني أرض إسرائيل» (Shiri eretz Israel)، الّتي وُزِّعت في كتيّبات صغيرة، وكانت معظمها روسيّة لتأثّر مؤلّفيها بأصلهم الروسيّ، كما تعود جذورها إلى الفترة التكوينيّة للمجتمع المهاجر في أعوام 1920-1960، وتميّزت آنذاك بموضوعاتها الأيديولوجيّة مثل القوميّة الإسرائيليّة، في ما عبّرت كلماتها عن حبّ الطبيعة والحياة الزراعيّة. مثّل هذا النوع من الموسيقى في التسعينات المغنّي زوهار أرغوف. أمّا العنصر البارز فيها فهو دمج التراث الروسيّ والتعليم الموسيقيّ الرسميّ بالتراث الشرقيّ؛ في سبيل التحوّل من مهاجرين إلى مواطنين، وهي أولى محاولات الأصلنة الموسيقيّة.

للموسيقى اليهوديّة ثلاثة أدوار تاريخيّة: أوّلًا، اتّصالها بالماضي (...) ثانيًا، تعكس الحياة اليهوديّة المعاصرة مثل التعدّديّة الموسيقيّة. وثالثًا، تتّجه نحو التوحيد الثقافيّ الّذي يُعْتبَر من مفرزات الهيمنة الأشكنازيّة...

ثمّة أنماط أخرى؛ منها ما يُعْرَف باسم "الغناء في العموم" (Shira be-tzibur)؛ فقد تمأسست باعتبارها  مركزيّة في الثقافة الوطنيّة للموسيقى الإسرائيليّة. ومنها ما تأثّر بمصادر مختلفة مثل الفرنسيّة، أو الأغاني الشعبيّة الأمريكيّة والأغاني الجديدة ذات الطراز التقليديّ. وقد ساهمت هذه الأنماط في صياغة مفهوم الأغنية العبريّة (Zemer Ivry)، المحتضنة لأنواع الموسيقى المصنوعة في إسرائيل باللغة العبريّة، والمحفورة في الوعي الجمعيّ على أنّها فريدة تمثّل علامة فارقة للثقافة العبريّة المحلّيّة، بتعبيرها عن العالم الروحيّ الداخليّ، وواقع حياة المجتمع اليهوديّ المحلّيّ[4]. لذا؛ سعى الأسلوب الإسرائيليّ المتّجه نحو الأصلنة إلى: أوّلًا، إنشاء هويّة وطنيّة. ثانيًا، تعزيز الاندماج في عمليّة العولمة. ثالثًا، البحث المستمرّ عن الروابط مع الشرق[5]؛ ممّا يعني أنّ النمط الإسرائيليّ لم يعبّر عن كيان اصطناعيّ موحّد، بل مثّل مزيجًا غنيًّا من المصادر والتأثيرات وأساليب التعبير المجسِّدة لعدم التجانس الموسيقيّ داخل الدولة الصهيونيّة.

أمّا على مستوى المدارس الموسيقيّة، فقد اعتمدت منهجيّاتها على النموذج الأوروبّيّ المنقول، مع تأسيس أوّل مدرسة موسيقيّة في إسرائيل من قِبَل المغنّي شولاميت روبين في عام 1910. يتكوّن المنهج من دروس فرديّة في الآلات أو الصوت؛ دروس في عمل الكورال، ومجالات مختلفة من نظريّة الموسيقى وتاريخها وتدريب الأذن. لم يكن ثمّة إلّا فصل دراسيّ واحد يُسَمّى "الموسيقى غير الأوروبّيّة"[6]، وكان هناك محاولة واحدة للراقصة ياردينا كوهين بالظهور مع ثلاثة موسيقيّين يهود عراقيّين هواة، ممّن يعزفون على عود وناي عربيّين، ولكنّها باءت بالفشل لضعف التواصل بينها وبينهم.

ممّا سبق؛ يمكننا استنتاج أنّ الموسيقى الإسرائيليّة، في بداياتها التكوينيّة، سعت إلى الأصلنة الّتي بدت غير قابلة للتحقيق؛ لأنّها نظرت إليها من منظور خطّيّ، مُقْصِيةً الثقافات الشرقيّة؛ ما أدّى إلى ربط الموسيقى بأبعاد أيديولوجيّة، وعرقيّة، وإثنيّة[7].

 

من الهامش إلى المركز

بعيد الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل، عام 1949، راحت المسألة العرقيّة تشغل المجتمع الإسرائيليّ. كان الصراع بين المهاجرين من الدول الإسلاميّة والمؤسّسة الإسرائيليّة على قضايا المساواة، وكذلك الاحتجاج على التمييز المهنيّ، والسكنيّ، والعنف الأمنيّ؛ إذ كان غالبيّة سكّان الأحياء الفقيرة من المهاجرين من الدول العربيّة والإسلاميّة، وتشكّلت تظاهرات ضدّ التمييز العرقيّ في «وادي الصليب» في عام 1959، وحراك «الفهود السود» في عام 1971؛ احتجاجًا على اللاتكافؤ المؤسّسيّ. أمّا السبب الرئيس بحسب بيكارد[8]، لغياب الثقافة والتراث اليهوديّين الشرقيّين وقتذاك، أنّ العيش في ضيق وفقر ومضايقة أمنيّة منعهم من التعامل مع هويّتهم الثقافيّة. وهكذا ظلّت الهويّة الثقافيّة المِزْراحِيَّة[9] مغيَّبة حتّى السبعينات والثمانينات، وبتحوّل الخطاب الإثنيّ في إسرائيل، من القضايا الاقتصاديّة إلى القضايا الثقافيّة، وتطوّرت الموسيقى المِزْراحِيَّة على هامش المشهد الموسيقيّ الإسرائيليّ، منتقلة رويدًا رويدًا إلى مركزه.

الموسيقى المِزْراحِيَّة نشأت على هامش الموسيقى الإسرائيليّة، ونادرًا ما كانت تُشَغَّل على الراديو، كان الأداء الشرعيّ لها محصورًا في المعابد اليهوديّة، والاحتفالات العائليّة، والمقاهي الّتي في الأحياء ذات الأغلبيّة المِزْراحِيَّة. وقد بدأت هذه الموسيقى مسيرتها المهنيّة؛ من خلال توفير وسائل الترفيه في الحفلات المنزليّة في «حيّ كيرم حمنيم» اليمنيّ، في جنوب تل أبيب.

في سبعينات القرن الماضي، كما أسلفنا، بدأت التعبيرات العامّة عن الثقافة اليهوديّة الشرقيّة بالظهور، مع ذلك ظلّت المجموعات الشرقيّة معزولة عن جذورها العرقيّة. ولطبيعة تلك الفترة؛ نشأت الموسيقى المِزْراحِيَّة بين الطبقة العاملة[10]، وخلقت لديهم إحساسًا بالشرعيّة الهويّاتيّة، وإمكانيّة التعبير عن عرقهم من خلالها، فوُصِفَتْ بأنّها نمط موسيقيّ شرق إسرائيليّ، لتمييزها عن الموسيقى العربيّة، وجعلها أكثر إسرائيليّة.

الموسيقى المزراحيّة نشأت على هامش الموسيقى الإسرائيليّة، ونادرًا ما كانت تُشَغَّل على الراديو، كان الأداء الشرعيّ لها محصورًا في المعابد اليهوديّة، والاحتفالات العائليّة...

لم تكن الموسيقى العراقيّة تحظى بالاهتمام الإعلاميّ؛ لأنّ إعلام الدولة شكّل موقفًا قويًّا مضادًّا لموسيقى المستوطنين المهاجرين، خاصّة العراقيّين. واستمرّ هذا التجاهل حتّى ظهور الكاسيتات في عام 1968. ساهم اختراع الكاسيت في النموّ السريع للموسيقى المِزْراحِيَّة، وأنقذها من الغياب عن الراديو، ورفض شركات التسجيل لها. كان هناك تحوّل في البنية الموسيقيّة المِزْراحِيَّة الّتي تأثّرت بالغرب، من حيث تقنيّة التسجيل وشكل التوزيع، والاعتماد على الدرجات المكتوبة الّتي سمحت بالتكرار الدقيق بدلًا من الأداء لمرّة واحدة، والأغاني الفرديّة الّتي لا تزيد على ثلاث دقائق، بدلًا من سلسلة المقطوعات المترابطة والعروض الموسّعة. لم تكن هذه الموسيقى شرقيّة على الإطلاق، وقد أسماها العالم الموسيقيّ إدوين سيروسي[11] بـ "مِزْراحيّة ما بعد الحداثة" (Postmodern Mizrahiness). أمّا على مستوى الاستماع، فقد كان الجهد المبذول في الاستمرار بالاستماع للموسيقى العربيّة، وإيجاد المحطّة المناسبة على الراديو القديم أو الحصول على تسجيلات، بمنزلة عمل احتجاجيّ جريء، وحالة للبقاء الثقافيّ والعاطفيّ، ومحاولة للحفاظ على الارتباط بالوطن المتمثّل في موسيقاه.

ساهم الاختلاف المزراحيّ مع وسائل الإعلام الإذاعيّة والوطنيّة، في إنتاج الأفراد بشكل مستقلّ برامج إذاعيّة تطوّعيّة لتحفيز إحياء الموسيقى العراقيّة، وحافظت هذه البرامج على المخزون العراقيّ، وتداولته بين الجمهور اليهوديّ الشرق أوسطيّ؛ بهدف جمع التسجيلات الجديدة في إسرائيل. منتج هذه البرامج كان شفيق جباي، الّذي أمل بتطوير مواطن عراقيّ مقيم بأسلوبه الخاصّ في الشرق الأوسط، مروِّجًا أسلوبه الشعبيّ الحضريّ الّذي تلقّى القليل من الدعم. بعدها افْتُتِح «مقهى البغداديّ» أو «مقهى نوح»، وهو ملهًى ليليّ في حيّ قرب تل أبيب، وأصبحت هذه المؤسّسة أهمّ مكان للاحتفال العامّ ’بلا خجل‘ لدى العراقيّين في إسرائيل. مع ذلك، فإنّ هذا المقهى يختلف عن المقهى النموذجيّ البغداديّ بطرق عدّة: إذ يشتمل على الجنسين، وروّاده من ذوي الدخل المنخفض اقتصاديًّا واجتماعيًّا، على الرغم من أسعاره المرتفعة. وهو مثال على بغداد الحديثة، الّتي تستجيب لتطلّعات الجمهور، وتتكيّف مع احتياجاته الموسيقيّة؛ من خلال الحفاظ على المرونة في استيعاب الأذواق الموسيقيّة للمجتمع.

تتكوّن الموسيقى المِزْراحِيَّة من مجموعة من العناصر الموسيقيّة وغير الموسيقيّة[12]، وتمتاز بأنّها مستمدّة من السياق الإسرائيليّ، إلّا أنّها تعكس علاقة شخصيّة مع الشرق الأوسط. لهذه الموسيقى رموز اجتماعيّة؛ كأن تكون مُوَجَّهَة إلى عامّة الناس، وأن يكون المؤدّي بين الناس أيضًا، بحيث يُعْتبَر ظهوره على التلفاز خيانة للجمهور. أمّا كلماتها فتعبّر عن مخاوف الطبقة العاملة ومشاعرها، إلى جانب الرومانسيّة والحنين إلى العائلة، مثل الأغنية الشعبيّة لزوهار أرغوف الّتي غنّاها لوالده، كما تتضمّن الأغاني حسًّا وطنيًّا ومحتوًى دينيًّا، مثل أغنية البطولة الوطنيّة الأولى في ’بيتار‘. وفي النصف الثاني من الثمانينات، بدأت الموسيقى المِزْراحِيَّة بالانتشار لشعبيّتها الكبيرة، وراح العديد من الموسيقيّين غير الشرقيّين يؤدّونها، كما كتب لها العديد من المؤلّفين، وتغيّر اسمها من ’الموسيقى المِزْراحِيَّة‘ إلى ’موسيقى شرق البحر الأبيض المتوسّط‘ المُصَمَّمَة لتعكس تطلّعات المؤسّسة الصهيونيّة؛ من خلال التوليف بين الثقافات اليهوديّة بشرقها وغربها؛ وهي من صياغة سيروسي، الّذي أكّد أنّ القاسم المشترك الأساسيّ لمجتمع المهاجرين، والطريقة الوحيدة لتحويلهم إلى مجتمع واحد، تكون من خلال موسيقى شرق البحر المتوسّط، لا في العروبة، ولا في المِزْراحِيَّة، ولا في أوروبّا أو أمريكا.

 


إحالات

[1] ثمّة دعوات حاليّة لإعطاء المنفى قيمة هويّاتيّة في إسرائيل؛ سبيلًا لإعادة رصف الشروخ بين المجتمع الأشكنازيّ والمزراحيّ. مثلًا: مهنّد، مصطفى. "لجنة بيطون إعادة إنتاج ثقافيّ وسياسيّ لمفهوم الإسرائيليّ". رام الله: مركز مدار. المجلّد 16، العدد 64، (2016).

[2] Regev, M. Musica mizrakhit, Israeli rock and national culture in Israel1. Popular music, (1996). 15(3), p.p 275-284.

[3] Bohlman, P. V., & Slobin, M. Music in the Ethnic Communities of Israel: Introduction. (1986). Asian music, p.p 1-8.

[4] للاستزاد والنظر إلى التيّار الشيوعيّ النقديّ: Habib, J., & Locker-Biletzki, A. Shirat hano’ar h’kommunisti: exploring the cultural dynamics and influence in the songs of Israeli-Jewish Communist youth in Palestine/Israel. Settler Colonial Studies, (2022), p.p 1-19.

[5]  Hirshberg, J. The Vision of the East and the Heritage of the West: Ideological Pressures in the Yishuv Period and their Offshoots in Israeli Art Music during the Recent Two Decade, (2005), p.p 4.

[6] Oppenheimer, Yochai. "Arab Music and Mizraḥi Poetry." CLCWeb: Comparative Literature and Culture, (2020), 22.1 p.p 7.

[7] Picard, A. Like a phoenix: The renaissance of Sephardic/Mizrahi identity in Israel in the 1970s and 1980s. Israel Studies, (2017), 22(2), p.p 1-25.

[8] تحدّث كمرلنج باستفاضة عن الصدمة الثقافيّة، واختلاف مفهوم اليهوديّ الجديد وموقعيّته، من وجهة نظر كلٍّ من الأشكناز والمهاجِرين. للاستزادة: باروخ كمرلنج. نهاية الهيمنة الأشنكازيّة. ترجمة نوّاف عثامنة. (رام الله: مدار المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة). 2002.

[9] Warkov, E. Revitalization of Iraqi-Jewish instrumental traditions in Israel: The persistent centrality of an outsider tradition. Asian music, (1986), 17(2), p.p 9-31.

[10] Halper, J., Seroussi, E., & Squires-Kidron, P. Musica mizrakhit: ethnicity and class culture in Israel. Popular Music, (1989), 8(2), p.p 131-141.

[11]  Waterman, S. The israeli music scene: An essay in secular culture. Contemporary Jewry, (2010), 30, p.p 105-118.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.