تلّ الهوى

thanksnothanks

 

"كانت المعركة حامية الوطيس...".

وصف كان يقرؤه على الدوام في كتب التاريخ، حين كان يتلو الدرس على مسامع زملائه في الصفّ، لكنّه لم يفكّر في أنّه سيستخدمه يومًا كما يفعل الآن، وهو يتحدّث مع صديقه لوصف تلك الليلة، حتّى أنّه لا يعرف معنى "الوطيس"، لكنّه يشعر بأنّه تعبير مناسب؛ وفقًا للحماسة الّتي كان يتحدّث بها أستاذ التاريخ حينذاك.

 

_ ... بدأ الاجتياح البرّيّ من الجهة الغربيّة لحيّ تلّ الهوى، الحيّ مقسَّم إلى قسمين: القسم الغربيّ، وفيه الأبراج السكنيّة المتلاصقة والمتسلسلة بألوانها وأسمائها، ومعروف ببرجوازيّته إلى حدّ ما، خاصّة أنّ معظم مَنْ سكنه هم من العاملين في السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، الّتي تشكّلت بعد توقيع اتّفاق أوسلو، وتأسّست طبقتهم البرجوازيّة، لكنّها لم تكن صانعة لأيّ ثروات من أيّ نوع... بل سمعة البرجوازيّة ظُلمت كثيرًا، حين وصفوا ذلك الجانب من الحيّ بها، وربّما تطبيق المفهوم ذاته كان فيه إشكاليّة؛ فقد اعتقد كثيرون أنّ البرجوازيّ هو الغنيّ الّذي يملك مسكنه، ويأكل طعامًا جيّدًا، وفي هذه الحال من الممكن أن نعتبر أصحاب هذا الحيّ كذلك، ولكن البرجوازيّة الحقيقيّة هي الطبقة الصانعة الثروات الصغيرة، من التجّار وأصحاب المصانع، فهم من الكادحين أيضًا، وهم مَنْ يشعلون الثورات.

- لا أفهم لِمَ عليك أن تقول كلّ هذه التفاصيل، وكأنّني من خارج البلد، وتشرح المشروح لتحكي لي عن تلك المعركة... أو ربّما تريد أن تعطي درسًا في شيوعيّتك المقبورة منذ زمن طويل، احكِ لي القصّة وخلّصني... أنا من المنطقة مثلي مثلك... بسّ أنا برجوازي حقيقي، وأنت برجوازيّ مدّعٍ.

- هاهاها... بالضبط... هذا ما أقصده، المهمّ أنّ القسم الآخر من الحيّ كان القسم الشرقيّ، الّذي لم يبدأ منه الاجتياح، على الرغم من أنّه أقرب إلى الحدود في منطقة زراعيّة في معظمها. جيش الاحتلال بدأ يتسلّل من المنطقة الأضعف، الّتي لا يُتوقّع منها أيّ مقاومة، ويبدو أنّه ترك شرق الحيّ إلى النهاية، وفي هذا الشرق تعيش البرجوازيّة الحقيقيّة، أصحاب الأراضي والمصانع، حتّى لو كان معظمها قد أقفل بسبب الحصار، وأيضًا هم أصحاب الثورة؛ فالكثير من منازل قادة المقاومة هناك، وقد دارت ليلتها تلك المعركة في حرب 2008 و2009.

 

هل توجد حرب في العالم، حين تريد ذكرها يجب أن تُلْحِقَها بعامين؟ أو حين تكتبها تبدو كأنّك تتحدّث عن العام الدراسيّ؛ فتضع "شرطة" بين الرقمين؟ في الأساس، هل توجد حرب بدأت في نهاية عام، وانتهت في بداية العام الّذي يليه، سوى هذه الحرب؟

تأخذه متتاليات الأسئلة والأرقام والأعوام، وكأنّه يريد أن يصل إلى خوارزميّة تشي بحدوث الحرب، وينسى أنّها في حالته تُورث. يحرّك النار في الكانون، ويجمع الجمرات تحت إبريق الشاي ليسخّنه مرّة ثالثة... يشاهد في غبش أفكاره صديقه أبو أحمد ينظر إليه، ينتظره أن يفيق من شروده، كما انتظر قبل قليل أن تنتهي مقدّماته الثوريّة، وهذا ما يحبّه في جلساته مع أبو أحمد، أنّه نادر ما يقاطع إسرافه في الكلام والتخيّلات.

يصبّ الشاي، ويكمل:

- تسرّب الجيش إلى حيّ تلّ الهوى، واحتلّ الأبراج السكنيّة، والّتي توقّع الجميع أن لا أحد سيقترب منها، وقتئذٍ، شعر أبناء السلطة الّذين جاؤوا من تونس ولبنان، بأنّهم في مواجهة مباشرة مع الجيش، وهذا لمّا يحدث منذ الثمانينات، لكن هذه المنطقة لم تكن هدف الاحتلال، بل الجانب الآخر من تلّ الهوى، الجانب الثوريّ الّذي نعيش فيه. وقفت حينذاك خلف هذا الشبّاك أشاهد الصواريخ، وأسمع الطلقات الناريّة والصراخ، هناك مَنْ خرج من الحارة باستخدام السيّارات بأقصى سرعة، خاصّة مَنْ يسكن على الأطراف، وهناك مَنْ علق في الوسط مثلي، وما استطعت حتّى فتح النافذة سنتيمترًا آخر، كان الظلام دامسًا، فلا كهرباء، كنت أسمع أحيانًا لهاث المقاومين وهم يركضون، في الحقيقة لم أفرّق بين ركض الجيش والمقاومة، لكنّه لم يكن ركضًا بمعنى ما كان يحدث في الانتفاضة الأولى مثلًا، بل كان شيئًا أشبه بالتربّص، إنّها مثل لعبة، إمّا تخرج منها حيًّا وإمّا ميّتًا، وفيها متعة التحايل على الموت... خداعه، تقف في مواجهته لكنّك تجعله يفوتك، شيء أشبه بلعبة الروليت الروسيّ، أن تضع رصاصة واحدة في مسدّس، ثمّ تدوّر الأسطوانة الّتي يمكن أن تحمل ستّ رصاصات، مرّات عدّة، ثمّ تضغط على الزناد بمجرّد أن تتوقّف، ودون أن تنظر إذا كانت الرصاصة الوحيدة ستصيبك أو لا، هكذا كانت تلك المطاردة، وهكذا كان الاشتباك يومها.

- الغريب أنّه مرّ على الحرب عشرة أعوام، وهذه هي المرّة الأولى الّتي تسرد لي فيها هذه التفاصيل...

- عشرة أعوام، نعم، بالضبط مثل هذه الأيّام، في هذا البرد، وقتئذٍ، كان من المستحيل إشعال النار للتدفئة، ضوء واحد بحجم ذبابة كان يعني موتك المحتَّم... المهمّ يا صديقي، بقيت في البيت أغمّس زيتًا وزعترًا، بعد أن هرّبت أبنائي وزوجتي وأمّي إلى بيت عمّي، قبلها بأسبوع خلال الهدنة، كنت أعرف أنّهم يريدون الانتقام من هذا الشرق، وهذا ما حدث، ولكنّي بقيت كي أحرس البيت. أنت تعرف كم أحبّ التاريخ! ربّما أردت أن أكون جزءًا من المعركة، وهذا ما حدث أيضًا؛ سمعت في البداية شبابًا ينادون بعضهم بعضًا، لم أتعرّف أيّ صوت منهم، وشاهدت أشباحًا سوداء تركض في السواد، كنت أعرف شباب الحارة، لكن لا توجد علاقات وثيقة بيننا، تجعلني أتعرّف على أحدهم من صوته؛ فكَوني رجلًا مدخّنًا، ولا أصلّي الجمعة في المسجد، يجعلني منبوذًا بشكل أو بآخر، كنت أخرج إلى عملي، وأعود لأحضر مباراة أو أقرأ كتابًا، كنت أريد أن أكون مدرّس تاريخ، ولكن - مع الأسف -  مجموعي الجيّد في الجانب العلميّ، جعل أهلي يضغطون عليّ؛ لألتحق بأيّ شيء قريب من الطبّ... فدخلت كلّيّة الصيدلة.

- كأنّك واقف على خشبة مسرح، وبتعرّف الجمهور عليك، كم ألف مرّة حكيت لي قصّة التاريخ والتوجيهي والصيدليّة... شو شكلنا كبرنا وخرّفنا... روح صلّ الجمعة بلكي الله رحمك وتبطّل تنسى.

- اسمع بسّ، أكمّلّك شو صار يا أبو أحمد، فجأة... شاهدت أشياء بتلمع مثل مصابيح متواترة، ولكنّها ليست مصابيح، وكأنّه لمعان زجاج، عرفت على الفور أنّهم وحدة خاصّة من جنود الاحتلال، ولا أدري أأسلحتهم الّتي كانت تلمع أم خوذاتهم، خفق قلبي كأنّه سينفجر، شعرت بأنّ رصاصة دخلت للتوّ في رأسي، إلى درجة أنّ العرَق سال من خلف رقبتي، وانحدر إلى ساقيّ. للموت طعم حين يقترب... خفت أن آتي بأيّ حركة، كانوا حتمًا سيسمعونني، لم يكن هناك الكثير من المنازل حولي؛ فالأرض لم تعمَّر كلّها، خالية؛ وهذا ما جعلها آمنة للمقاومين، وصعبة على الاحتلال؛ لذلك تصاحبهم طائرتا هيلوكبتر، لم أشاهد في حياتي سينما، لكن هنا من هذه الفتحة، رأيت ما أظنّه أشدّ تشويقًا، لقد كان سينما الواقع.

يعرفون وجهتهم تمامًا، قصفت الطائرة أحد المنازل، ثمّ أعقبه تبادل إطلاق نار، استمرّ دقائق قبل أن يعود القصف من جديد إلى المنزل ذاته، ثمّ توقّف كلّ شيء، لم أعد أسمع المعركة، يبدو أنّهم غادروا أو صعدوا إلى الطائرة، لا أدري... دقائق مرّت قبل أن أسمع صوت أحد شباب المقاومة ينادي لإسعافه... كان مصابًا، يبدو أنّ جميع رفاقه استشهدوا؛ لأنّ صوته كان وحيدًا، وعادة المقاومين أنّهم لا يتحرّكون أفرادًا، لم يقترب أحد من سكّان بيوت الحارة المتبقّين، الرعب يكاد يخرج القلوب من أماكنها، وبالطبع لم أقترب أنا، سمعته ينادي: "الحقوني...".

- يومها كنّا طالعين من البيت، مثل ما أنت عارف، هربنا عند دار عمّنا بالشمال.

- ... سمعت حركته على التراب... يبدو أنّه كان يتقلّب على الرمل، مثل قطّة دهستها سيّارة، هل رأيت من قبل كيف تنازع القطّة المدهوسة؟ مشهد يهزّ أوصالك، وهكذا لعب الخيال في رأسي؛ فأنا أسمع الصوت ولكنّي لا أراه، وما لبث أن نادى من جديد، بصوت أكثر خفوتًا: "وينكم يا عرب؟"... كان ينزف... استغربت من فكرة أنّ أحدًا في نزاعه الأخير، يعتقد أنّ العرب من الممكن أن يستجيبوا، أو هو يأس الأنفاس الأخيرة، الّذي يفعل أفاعيله في العقل واللغة، ويعيدها إلى شعاراتها الأولى... فكيف لواحد في نزاعه، ينادي مجهولين لا يعرف مقدار استجابتهم؟ أتدري مثل ماذا؟ سأقرّب إليك الفكرة؛ كأن يطلق مجرم عليك النار ليلًا في السويد بالبرد القارص، وتصرخ وأنت تموت وحيدًا على الثلج... "وينكم يا أوروبّيّين؟"، هل تجد عبثًا أشدّ من هذه العبارة، الّتي مع كامل كونها كليشيه مبتذلًا، إلّا أنّها تجعلني أرغب في الانفجار بالبكاء؟ فقد فهمت - بثوانٍ - شعوره الحتميّ بنفسه بأنّه ميّت لا محالة، لم يكن درسًا في التاريخ... كان درسًا في عجز الإنسان وحبّه الحياة، أقصد حبّي أنا. في صباح اليوم التالي، حين تأكّدنا أنّ المنطقة آمنة، خطونا بحذر خارج عتبات منازلنا، ووجدنا الرمال امتصّت كلّ دمائه، كان يرتدي قناعًا على وجهه، وجاكيت أسود.

- أوف... شو هالقصّة... قشعرت بدني... ما إلك ذنب، يا سلام... هذا قدره... ساعته إجت.

- قدر ماذا؟ ... هذا الشابّ كان سيكون الآن في الثلاثينات، لو أنّه عاش وتزوّج، ولأصبح ربّما أبًا لأولاد، إنّ التسليم بالموت غير المبرّر يخنقني؛ أشعر بأنّه عجز وليس إيمانًا، وين الجيران وأهل الحارة، وشيخ المسجد؟ ... يا أخي، وين العرب؟

 أنا في كلّ يوم، حين أكون على عتبة الباب، من عشر سنين أراه مستلقيًا هناك... تخيّل كم مرّة كنت على عتبة بيتي... وكم مرّة رأيته ممدّدًا، أعيش مع الأموات منذ تلك الليلة... هذه المدينة كلّها تعيش مع الأموات...

- هدول ثلاث حروب، مش قلال...

- متى الحرب بتكون قليلة؟ كلّ حروب العالم الّتي قرأت عنها، وخاصّة الّتي راح ضحيّتها الملايين، كلّها كذب؛ لأنّه لا يستطيع أن يكتب عن الحرب سوى مَنْ عاشها.

- استهدِ بالله... قوم صلّ الفجر، بكفّي حكي اليوم... لولا الإيمان كان ما صبر شعبنا على كلّ هذه المعاناة والإجرام.

- ليس الإيمان، بل العيش مع الأموات هو سرّ قوّتنا... وتصبح على خير... أنا بصلّي الصبح في البيت.

- آه... نسيت أنّك برجوازيّ مخمليّ... المسجد يأتيك إلى البيت... أستغفر الله العظيم... ما بدّه الواحد يحكي كلام يكفّره... أعوذ بالله وأتوب إليه... ما بيجي من وراك غير جدل حامي الوطيس.

- الكفر الحقيقي يا صاحبي... هو إللّي بصير فينا.

تحرّك أبو أحمد إلى مسجد الحارة... رتّب سلام الفناجين، وأهال الرمال على النار ليخمدها، كان يشعر طوال جلسته بأنّ أحدًا خلفه، نظر إلى تلك البقعة، لم يتغيّر شيء، سوى إزاحة برميل الأسمنت المتيبّس، الّذي كان يتمدّد الشهيد إلى جانبه... وهمس: "عشر سنين يا صاحبي، وإحنا جيران، ولا مرّة قلت لك: صباح الخير".

 

 

أسماء الغول

 

كاتبة فلسطينيّة مقيمة في فرنسا، صدر لها كتاب مشترك مع الروائيّ سليم
نصيب " L’insoumise de Gaza" (2016)، تُرجم إلى الإنجليزيّة والروسيّة، ولها مجموعات قصصيّة أخرى مشتركة صدرت في كوريا الجنوبيّة وبريطانيا. حصلت مجموعتها القصصيّة الأولى "هجران على لوح أسود" على "جائزة الكاتب الشابّ"، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان عام 2006.