"صالون هدى"... الحكم بالإعدام مرّتين

منال عوض وعلي سليمان في فيلم «صالون هدى»

 

من كاميليا إلى منى زكي

كان ظهور المرأة على المسرح على مدار قرون، وفي مختلف المجتمعات، أمرًا غير لائق ولا مقبول، بل محرّمًا، لذا؛ لجأ المخرجون إلى الممثّلين الرجال من أجل القيام بالأدوار النسائيّة!

عندما ظهرت أمّ كلثوم لتغنّي على المسرح في بدايات القرن العشرين، ارتدت زيّ الرجال، وكذلك فعلت قبلها سلطانة الطرب منيرة المهديّة، إلى أن تحرّرت أمّ كلثوم من زيّ الرجال، وعندما ظهرت لأوّل مرّة بثوب نسائيّ توتّرت، فأخذت منديلًا من أحد العازفين بفرقتها الموسيقيّة، وأمسكت به لتتغلّب على توتّرها الشديد من مواجهة الجمهور كونها امرأة، وظلّت تمسك بالمنديل في حفلاتها حتّى أصبح من سماتها.

وعندما سألت كوكب الشرق أمّ كلثوم شيخ الأزهر الشريف في مصر، إذا كان غناؤها حلالًا أم حرامًا، كان ردّه أنّ "صوت المرأة عورة". ومع ذلك استمرّت أمّ كلثوم في مشوارها الفنّيّ، واكتسبت حبّ الجماهير واحترامهم من خلال مئات الأغنيات، العاطفيّة منها والوطنيّة والدينيّة أيضًا.

في ربيع عام 1948 ظهر في شوارع القاهرة، ولأوّل مرّة، ’أفيش‘ (ملصق) فيلم يتضمّن قبلة بين البطل والبطلة، فيلم «فتنة»، بطولة يحيى شاهين وكاميليا. أحدث ’الأفيش‘ ضجّة واسعة، واعْتُبِرَ جرأة كبيرة من قِبَل الممثّلة كاميليا.

في ربيع عام 1948 ظهر في شوارع القاهرة، ولأوّل مرّة، ’أفيش‘ (ملصق) فيلم يتضمّن قبلة بين البطل والبطلة، فيلم «فتنة»، بطولة يحيى شاهين وكاميليا. أحدث ’الأفيش‘ ضجّة واسعة، واعْتُبِرَ جرأة كبيرة من قِبَل الممثّلة كاميليا.

ثمّ أصبحت القبلة أمرًا عاديًّا، بل منتشرًا ومحبّذًا في السينما المصريّة، خاصّة أنّ معظم الأفلام كان عاطفيًّا رومانسيًّا، ولا بدّ من قبلة، على الأقلّ، مع النهاية السعيدة، الّتي اتّسمت بها غالبيّة الأفلام المصريّة.

في التسعينات، ظهر مصطلح «السينما النظيفة»، وهو يعني لا للقبلات ولا للمايوهات ولا للمشاهد الحميميّة، وهي أمور تميّزت بها سينما السبعينات، وكانت ممّن سرن في هذا التيّار، الفنّانة منى زكي، الّتي ثارت في ما بعد على القيود الّتي وضعتها لنفسها؛ فقدّمت دورًا اعْتُبِرَ جريئًا في فيلم «احكي يا شهرزاد» (2009) ليسري نصر الله، ثمّ مؤخّرًا دورها في فيلم «أصحاب ولا أعزّ» الّذي أثار ضجّة كبيرة؛ إذ هوجمت بضراوة من قِبَل شريحة واسعة من الجهور بسبب مشهد كان فيه الإيحاء بأنّ ’مريم‘ (الشخصيّة الّتي تجسّدها) تخلع لباسها الداخليّ، دون أن يصوّر ذلك، ومع ذلك قامت الدنيا... لكنّها قعدت بعد ذلك، حين تدخّلت نقابة الممثّلين في مصر، وساندتها ونادت بعدم محاكمة الممثّلين على تجسيدهم للشخصيّات المختلفة.

 

احتلال للروح أيضًا

وأخيرًا كان «صالون هدى» (2021) من إخراج وإنتاج الفلسطينيّ هاني أبو أسعد؛ ليُحْدِثَ ضجّة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ والمنصّات الإعلاميّة؛ بسبب مشهد تضمّن تعرية جسد ’ريم‘ (الشخصيّة الّتي تجسّدها الممثّلة ميساء عبد الهادي) وهي مخدّرة، من قِبَل صاحبة الصالون ’هدى‘ (الّتي تجسّدها الممثّلة منال عوض)؛ إذ تصوّرها وإلى جانبها شابّ عارٍ ’سعيد‘ (يجسّده الممثّل سامر بشارات)، ثمّ تبتزّها لكي تدفعها إلى العمل مع المخابرات الإسرائيليّة.

اختار أبو أسعد أن يصوّر المشهد بشكل صريح، وذلك يعود لسببين في رأيي؛ الأوّل أنّ عينه على الجمهور الغربيّ، الّذي يتقبّل التعرية بشكل عاديّ، محاولًا تذكيرهم بأنّ ثمّة احتلالًا يعيش تحت وطأته الفلسطينيّون، دون أن يظهر أيّ جنديّ أو أيّ بندقيّة. قدّم لهم قصّة اجتماعيّة ذات خلفيّات سياسيّة، كما أظهر أنّ الاحتلال ليس للأرض فقط، بل للروح والجسد أيضًا.

 

 

أمّا السبب الثاني فقد أراد المخرج أن يصدم المشاهدين بمشهد التعرية؛ لكي تصل صدمة ’ريم‘ إليهم فيتماهون معها وتصبح قضيّتها قضيّتهم، خاصّة أنّ المشهد لم يكن إباحيًّا، بل قاسيًا ومؤلمًا.

لكن ما حدث هو هجوم كاسح على الممثّلة عبد الهادي لجرأتها في الموافقة على التصوير كما أراد المخرج، وهجوم عنيف أيضًا على الممثّلة عوض لمشاركتها في الفيلم، وصل إلى حدّ التهديد بالقتل! وطال الهجوم كلّ المشاركين في الفيلم.

حكم مجتمع السيناريو في «صالون هدى» على ريم وهدى وسعيد بالإعدام؛ قُتِلَتْ هدى وأُحْرِقَ سعيد وحاولت ريم الانتحار. شريحة واسعة من المجتمع الّذي تحدّث عنه المخرج وتوجّه إليه، حكم على الممثّلات عبد الهادي وعوض، وباقي المشاركين في الفيلم، بالإعدام أيضًا!

 

اختلاط الأمور

نلحظ، في السنوات الأخيرة، خلطًا لدى الجمهور بين الممثّلين وبين الشخصيّات الّتي يؤدّونها، وفي اعتقادي أنّ من أسباب ذلك أنّ الفيلم لم يعد يُعْرَض في دور السينما فقط، بل في كلّ بيت وبكبسة زرّ. ففي الماضي (السبعينات على سبيل المثال) كان معروفًا أنّ السينما قد تحتوي على مشاهد ’جريئة‘، ولك الخيار في مشاهدتها أو عدم مشاهدتها من خلال شبّاك التذاكر، وعند الخروج من دار السينما، إلى حين العودة إلى المنزل، يعود المشاهد إلى أرض الواقع، ويدرك أنّ ما رآه ما هو إلّا محض خيال. 

أمّا التلفزيون فقد كان معروفًا بمحافظته لأنّه يدخل كلّ بيت؛ فالمسلسلات عائليّة، وتُحْذَف القبلات أو بعض العبارات من الأفلام السينمائيّة المعروضة فيه. والمذيعة أشبه بأخت للمشاهدين، أمّا في السينما فالنجمة هي الحبيبة وفتاة الأحلام (مثال على ذلك سعاد حسني، ونجلاء فتحي، وميرفت أمين)، وكذلك النجم السينمائيّ، هو الحبيب وفتى الأحلام (مثل عمر الشريف، ورشدي أباظة، وأحمد رمزي).

لم يعد المشاهد يذهب إلى دار السينما، بل أصبح الفيلم يأتي إليه؛ من خلال الإنترنيت ومختلف شبكات التواصل الاجتماعيّة، فاختلطت الأمور ببعضها بعضًا.

 

دخول وخروج

تميّز فيلم «صالون هدى» عمومًا باللقطات الطويلة، وهي صعبة التنفيذ، فعلى سبيل المثال، مدّة المشهد الأوّل نحو 10 دقائق، صُوِّرَ كلّه بلقطة واحدة One Shot، والمشهد الثاني نحو 5 دقائق، وهذا الأسلوب في التصوير يمنح الممثّلين إمكانيّة لمعايشة الشخصيّات بشكل أكبر.

لم يعد المشاهد يذهب إلى دار السينما، بل أصبح الفيلم يأتي إليه؛ من خلال الإنترنيت ومختلف شبكات التواصل الاجتماعيّة، فاختلطت الأمور ببعضها بعضًا.

 

واختار المخرج أن يكون التصوير بكاميرا الكتف غير الثابتة؛ لعكس صورة للأرضيّة غير الثابتة الّتي تقف عليها البطلة، ولنفسيّتها التائهة.

قدّمت عبد الهادي دورها بصدق شديد ومعايشة عميقة للشخصيّة، وتستحقّ جائزة عنه. وكذلك منال عوض قدّمت دورًا صعبًا، أظهرت فيه كفايَة عالية في الأداء التمثيليّ يضاهي أداء ممثّلات عالميّات، وتستحقّ هي الأخرى جائزة عنه. وفي العموم كان اختيار طاقم الممثّلين موفّقًا جدًّا، من بينهم علي سليمان.

وأخيرًا، شكرًا للمخرج هاني أبو أسعد على هذه المتعة البصريّة والحسّيّة على مدى نحو ساعة ونصف، من خلال دخولنا وخروجنا من «صالون هدى».

 


 

غازي أبو بكر

 

 

 

مؤسّس فرقة «الديوان» العكّيّة، كاتب أغانٍ، ملحّن، إذاعيّ، مقدّم ومعدّ البرامج الإذاعيّة «سينما الشاويش» و«تذاكر»، مخرج الفيلم الروائيّ القصير «الساعة والإنسان».