علقت البارحة تحت الأنقاض

مواطنون يبحثون عن نُجاة من القصف الإسرائيليّ، خان يونس، 25/10/2023 | محمّد الهمص، Getty.

 

خذيني مِنْ مسرحي العبثيّ وابتعدي عن جنوني ومدائني، وابتعدي عن أزمنةٍ لا أملكها. يومًا ما أقف مسحورًا أمامكِ، وتكون لي واحدةٌ مِنْ أغانيكِ يا غزّة.

غزّة، 10/10/2023.

 

"مرحبًا سيّد خوف

عَلِقْتُ البارحة تحت الأنقاض

معي طعامٌ يكفي ليومين

ومشروب طاقةٍ

وولّاعةٌ

ومحفظة نقودٍ فيها

صورة زوجتي

وعشرون فرنكًا

لا بأس سأشتري بالفكّة

انتظاري

وصورة زوجتي سأحرقها

لأتدفّأ".

.

هنالك صندوق بريدٍ صدئٍ

بجانب رأسي

وضعتُ فيه الرسالة

الّتي في الأعلى

.

فقدتُ ذاكرتي منتصف ظهيرة اليوم

ولا أدري ماذا أفعل؟

أنا عالقٌ هنا منذ يومين

وقد أموت بعد نصف ساعةٍ

أرجوك، اِفْعَلْ شيئًا

أنت الوحيد الّذي

أتذكّره!

غزّة، 15/10/2023.

 

بهدوءٍ رفعنا الكارثة عاليًا، مَدَدْناها كالأنخاب، وانحنينا برؤوسنا نقرأ سيرة اليأس ونقول: إيييه أنتِ... أيّتها المرثيّة الباردة، أيّتها المتكسّرة في التهليل، يا حياة. كم نهرناكِ بالقول، وسجّيناكِ بالمستحيل، وغسلنا عذاباتنا عند عتبات أبوابكِ، وغادرناكِ. عصفتِ بنا فكسرناكِ وأنزلنا هواجسنا فوق كسوركِ، فرغبناكِ. مُخْتَصَرون على اليأس نحن، ومأخوذون بيأسنا، مأخوذون بيأسنا يا حياة... يا نازحةً عند قبونا البارد، أحضري ما استطعتِ مِنْ وهمٍ... نحن عمّال اليأس... جئنا نكسر الوهم على صخرتكِ المتعالية.

غزّة، 18/10/2023.

 

خلف هذا الفاصل الغامض

كانت حياتنا تبتعد

شيئًا فشيئًا عنّا

كما لو أنّها تغادرنا

إلى مكانٍ بعيدٍ

ومقحلٍ

وتنتحي

إلى صحراءَ تغادر

مِنْ ذاكرة النار

مثلما تغادر المدينة

مِنْ ذاكرة سكّانها

كما لو أنّها فهرسٌ مغادرٌ

مِنْ كتاب

غزّة، 20/10/2023.

 

ناجيناكِ في السرّ، وطعنتنا في العلن، بعدما رفعنا الليل مثل دعاءٍ صوبَ معابدك. لا سيّدٌ سواكِ، ولا عبدٌ فيكِ إلّانا.

باسم عظمتكِ نناديكِ، باسم النجوى، تعال أيّها الألم، متأهّبًا كالآثام الخالدة في طريقنا، وانزع عن أجسادنا مكانتها، ليست عظامنا، إنّما عظام خوفنا الّتي تنشد رحيلًا قادمًا، اِمْنَحْها وعدكَ ودُقَّ فيها أجراس تحيّتكَ العالية، لمرّةٍ واحدةٍ فقط، ثمّ اختفي، اختفي... مثلما وعدتَ نفسكَ أن تكون.

غزّة، 22/10/2023.

 

مثل دمٍ يصعد

سلّم المذبحة

صعدتْ على نوافذنا

.

مثل الصّمت الّذي يكبر في

هدأة الليل

كبرتْ في أيّامنا

.

ولم أعرف أنّها حرب الإبادة

الّتي تنتظرنا

يا أبي

فقد كان مذاق ثمارها

فريدًا كالندم

ولم تكن تُساق في أفواهنا

بل تتحطّم

غزّة، 24/10/2023.

 

لو أنّ بإمكان أحدٍ الفرار مِنَ العالم صوب ذلك المشهد الّذي لَنْ يصل إليه أحد، لكنّا انتظرنا، ذلك الّذي نعرف أنّنا ننتظره، لكنّا عرفنا، أنّه في النهاية، هذا كلّه ليس سوى نزولٍ بطيءٍ للقبو المعتم، وقد اكتسى بالفوضى والنواح، بلون حياتنا، وهي تغرق تدريجيًّا في الموت.

غزّة، 26/10/2023.

 

لأوّل مرّة أشعر أنّي بلا أمٍّ ولا أبٍ ولا إخوة، بلا أصدقاءَ ولا وطن، مقطوعٌ مِنْ شجرة، وأنّي غير موجودٍ منذ زمنٍ وأنّي محرومٌ مِنْ حقّ امتلاك عائلة، وأنّني في هذه اللحظة السوداء مِنْ حياتي، وحيدٌ ومنفيٌّ ومجهول، وجدتُ نفسي حيث أنا الآن، في أكثر الأماكن حلكةً، في قبرٍ ضيّقٍ مِنَ القبور، لا أعرف لمَنْ هو، ولا مَنْ يمتلكه، عدا أنّني ليمونةٌ جافّةٌ متيبّسةٌ وسوداءُ ملقاةٌ بجانبه.

غزّة، 28/10/2023.

 

لا تكن مرتبكًا، ومطوّقًا بغزّة أيّها الموت. فخيامنا كلّها تتّكئ على وتدٍ وحيد، وأرواحنا سكرانةٌ على معطفك، تتحيّن لحظة موتها.

غزّة، 29/10/2023.

 


 

هشام أبو عساكر

 

 

شاعر وصحافيّ من غزّة، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «موتى يحكمون العالم» (الأهليّة، 2016)، وشارك في كتاب «أنطولوجيا الشعر الفلسطينيّ الراهن» (بوينتس، 2022)، كما له مجموعة شعريّة مشتركة بعنوان «يهتك النسيان مدينتنا» (البراق، 2012).