الشباب والفعل الثقافيّ: المبادرات بديلًا للمؤسّسة الرسميّة (2/4)

من مسرحيّة «لوين رايحين؟» | جمعيّة مركز غزّة للثقافة والفنون

 

تحوّلات المؤسّسة

طرأ تحوّل على المؤسّسات في المجتمع الفلسطينيّ بعد «اتّفاقيّة أوسلو»، من حيث تشكيلها فضاءً للوجود الاجتماعيّ؛ فقد صارت لها بنية واضحة وهياكل تنظيميّة إداريّة وتراخيص قانونيّة تنظّم عملها، وسُمِحَ لها بتلقّي تمويل خارجيّ. عملت هذه المؤسّسات في الشأن الاجتماعيّ والإغاثيّ أكثر من السياسيّ والثقافيّ، تناغمًا مع المرحلة السياسيّة الّتي أعقبت تشكيل «السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة»[1]، إلّا أنّ مفهوم المؤسّسة في المجتمع بعد انقسام 2007 تغيّر كلّيًّا، فصارت أشبه بمنصّة يلتقي فيها الناس ليُنْشِئوا مجتمعًا صغيرًا داخل المجتمع الكبير. يبرز ذلك بشكل واضح في قطاع غزّة أكثر من الضفّة الغربيّة؛ وذلك لخصوصيّة المجتمع الواقع تحت الحصار الإسرائيليّ.

أضحت المؤسّسات غير الحكوميّة، باعتبارها فاعلًا وموجودًا اجتماعيًّا، الوسيلة لملء الفراغ السياسيّ والثقافيّ للشباب، وفي حالة غزّة، كانت نقطة الانطلاق الأولى «لجيل ما بعد الانقسام»؛ إذ كانت لها قدرة على مواجهة قطبَي الانقسام نسبيًّا...

لا يمكن اعتبار الدور الّذي تؤدّيه المؤسّسات غير الحكوميّة في المجتمع الفلسطينيّ دورًا سياسيًّا مباشرًا، وهذا ما جعلها أكثر ديناميكيّة في ظروف الانقسام؛ فقد أسهمت هذه المؤسّسات في تقديم تفسيرات جديدة للواقع الاجتماعيّ والسياسيّ الجديد، خاصّة في الضغط على قطبَي الانقسام في مسائل الحرّيّات، ومن ضمنها الاعتقالات السياسيّة، وانتهاكات حقوق المرأة، ومخالفة القانون الأساسيّ من قِبَل الأجهزة التنفيذيّة في السلطتين المنقسمتين، كما أولت اهتمامًا بارزًا بالشباب في مختلف القطاعات، وخاصّة في تثقيفهم وتوعيتهم؛ فقد بلغت نسبة اهتمام المؤسّسات غير الحكوميّة بالشباب وتثقيفهم عام 2012 ما يقارب 65%[2]؛ ذلك ما شكّل نقلة في مسارات عمل هذه المؤسّسات، خاصّة في قطاع غزّة، وأصبحت تشكّل الحاضنة الأولى للشباب، رغبةً منهم في الابتعاد عن التجاذب والاستقطاب السياسيّ في البيئة الحزبيّة[3].

أضحت المؤسّسات غير الحكوميّة، باعتبارها فاعلًا وموجودًا اجتماعيًّا، الوسيلة لملء الفراغ السياسيّ والثقافيّ للشباب، وفي حالة غزّة، كانت نقطة الانطلاق الأولى «لجيل ما بعد الانقسام»؛ إذ كانت لها قدرة على مواجهة قطبَي الانقسام نسبيًّا، بشكل خاصّ تلك العاملة في الشؤون الثقافيّة والفنّيّة. وعلى الرغم من أنّ «حركة حَماس» في غزّة ضيّقت على الأنشطة الثقافيّة والمسرحيّة والأمسيات والصالونات المختلطة، إلّا أنّ المؤسّسات الثقافيّة كانت قادرة على المناورة في خطط عملها مع سياسات الحكومة، فاتّجه الشباب إلى تأسيس صالونات ثقافيّة وتجمّعات صغيرة العدد، منها ما ارتبط بمؤسّسات قائمة أصلًا، وأخرى أُسِّسَت لتكون مستقلّة بذاتها. وتميّزت هذه المحاولات الشابّة بالخروج عن نمطيّة العمل المؤسّسي وبيروقراطيّته، حيث عزّزت فكرة المشاركة الحرّة والحوار الحرّ، حتّى في الشأن السياسيّ، لكنّها ظلّت تعاني من توغّل أجهزة الأمن في تفكيكها، ومحاولة إقصائها عن الفضاء العامّ.

 

أزمة التمثيل

سهّلت «وزارة الشباب والرياضة» في «قانون الشباب» لعام 2011، تأسيس المنظّمات الشبابيّة في غزّة[4]، الأمر الّذي أدّى إلى انتشار كبير لمؤسّسات تُعنى بالشباب، والّتي اهتمّت بالتعليم والإغاثة، وامتدّ ذلك إلى الحقل الثقافيّ.

يمكن تصنيف المؤسّسات الشبابيّة الناشئة بعد الانقسام في نوعين، بناءً على بنيتها؛ الأوّل مؤسّسات تقليديّة، معظمها أندية رياضيّة وثقافيّة، تتكوّن من هيئات عامّة واسعة، وهيكلها التنظيميّ بسيط، تعتمد عادةً في تنفيذ أنشطتها على المتطوّعين. والنوع الثاني مؤسّسات حديثة أو مراكز مهنيّة، تعتمد هذه المراكز على عضويّة قليلة من الخبراء المعنيّين، ولديها أنظمة إداريّة وماليّة أكثر تطوّرًا مقارنة بالنوع الأوّل[5].

 

للقراءة أيضًا: الشباب والفعل الثقافيّ: اشتباك الثقافة والسياسة (1/4)

 

أخذت المؤسّسات الشبابيّة قدرًا واسعًا من الانتشار، لكنّها اصطدمت أيضًا في النهاية ببعضها بعضًا، ودخلت في أزمة التمثيل، حيث إنّ معظمها افتقد رضا شرائح من الشباب وثقتها، لاختلافات ثقافيّة وسياسيّة، وأحيانًا شخصيّة، وصارت تكرّر أزمة الأحزاب السياسيّة في صراع التمثيل والاحتواء، وزاد الأمرَ صعوبةً القيود الّتي فرضها قطبا الانقسام على المؤسّسات، الّتي شعرا بأنّها تخدم أهدافًا سياسيّة لا تلتقي مع مصالحهما.

وعلى الرغم من المحاولات الجادّة لإنشاء حالة شبابيّة، قادرة على النهوض بالشباب، وإعادة تنظيم صفوفهم - سياسيًّا وثقافيًّا - من خلال الأجسام المؤسّسيّة، إلّا أنّ خصوصيّة الحالة الفلسطينيّة لم تساعد في ذلك؛ فالحزب السياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ متجذّر ومتداخل في حياة الناس اليوميّة، حتّى الشباب، والصراع بين الشباب الخارجين من الأحزاب والشباب في الأحزاب ما زال قائمًا حتّى الآن.

 

بديل ثقافيّ

استطاعت بعض المجموعات الشبابيّة في غزّة أن تكون بديلًا ثقافيًّا يؤدّي دور المؤسّسة الرسميّة الغائبة بفعل الانقسام. لم تكن الحال كذلك في الضفّة الغربيّة بالمقابل؛ لأنّ المؤسّسة الرسميّة والمؤسّسات غير الحكوميّة تدعم وتعزّز المشهد الثقافيّ، وتجعله قائمًا وحيويًّا. أقامت المجموعات الغزّيّة فضاءات وتظاهرات ثقافيّة مختلفة، منها ذاتيّة تمامًا كصالونات القراءة والأمسيات الشعريّة، وبعض المطبوعات والمبادرات الفنّيّة والمسرحيّة، وبعضها الآخر بالشراكة مع مؤسّسات غير حكوميّة، إلّا أنّها ما زالت تواجه تهديدًا وجوديًّا، بسبب عدم منح حكومة «حَماس» التراخيص القانونيّة لها، حتّى لو كانت تستوفي الأهليّة القانونيّة. بادرت بعض المجموعات الشبابيّة في غزّة إلى تكوين صالونات ثقافيّة لم تغد لا مؤسّسات ولا منظّمات، بل ظلّت مبادرات تطوّعيّة، وأخذت في الانتشار شيئًا فشيئًا، مثل «مجلّة 28» ومبادرة «تحت الطبع» و«الجاليري الثقافيّ»، وهذه المبادرات عملت على استقطاب الكثير من الشباب الموهوبين، القادرين على تقديم خطاب ثقافيّ حداثيّ بديل عن الخطاب التقليديّ، كما ساعدت على تأسيس جسم ثقافيّ شابّ، وعملت على تظهير مواهب كثيرة كالشعراء والكتّاب والفنّانين الشباب للمجتمع المحلّيّ والدوليّ. وعلى الرغم من أنّ المشهد الثقافيّ في غزّة أخذ في التفكّك؛ بسبب الهجرة المستمرّة للشباب الفاعلين، إلّا أنّ هذه المبادرات حافظت على تجديد عضويّاتها، وإعداد فاعلين جدد يتولّون قيادتها مرّة أخرى[6].

في الضفّة الغربيّة لم يكن للشباب حضور موازٍ قويّ للمؤسّسة الرسميّة، بل كانت الجهود الشبابيّة في الغالب تدور في فلك المؤسّسة الرسميّة وفعاليّتها وأنشطتها ومعارضها الدوليّة...

وفي أراضي 48، استطاع بعض المجموعات الشبابيّة كسر حالة العزلة الثقافيّة المفروضة عليها إسرائيليًّا، وتأسيس مبادرات ثقافيّة وتظاهرات فنّيّة ومسرحيّة، مثل «متجر وجاليري فتّوش» ومنبر «فُسْحَة ثقافيّة – فلسطينيّة»، وبعض المبادرات المشتركة مع المراكز الفلسطينيّة الموجودة في مدينة القدس والضفّة الغربيّة والعالم العربيّ.

في الضفّة الغربيّة لم يكن للشباب حضور موازٍ قويّ للمؤسّسة الرسميّة، بل كانت الجهود الشبابيّة في الغالب تدور في فلك المؤسّسة الرسميّة وفعاليّتها وأنشطتها ومعارضها الدوليّة... إلخ، خاصّة أنّ المساحة الثقافيّة الموجودة تمتّعت بالحرّيّة والتجديد النسبيّين، ولم يكن ثمّة موانع سياسيّة للمشاركة الثقافيّة، والتعبير الحرّ عن الأفكار والأنماط الجديدة من التفكير.

إنّ النهج الثقافيّ الّذي اتّبعته المبادرات والتظاهرات الثقافيّة الشابّة في غزّة، اصطدم مع الجيل القديم الّذي ما زال يمثّل المؤسّسة الرسميّة، ويتبنّى الخطاب الثقافيّ التقليديّ، وهذا الصراع يبدو طبيعيًّا، إلّا أنّه كان صراعًا مؤسّسيًّا على تمثيل المشهد الثقافيّ في غزّة. لم يكن هذا النوع من الصدام واضحًا في الضفّة الغربيّة وأراضي 48 بالمقابل؛ لأنّ الخطاب الثقافيّ امتاز بالمرونة، وابتعد عن التجاذب السياسيّ الّذي كان حاضرًا بقوّة في حالة غزّة.

..........

إحالات:

[1] مجدي المالكي وحسن لدادوة، «تحوّلات المجتمع الفلسطينيّ منذ سنة 1948: جدليّة الفقدان وتحدّيات الواقع» (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2018)، ص17.

[2] زكي مرتجى، دور منظّمات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في رعاية الشباب في محافظة غزّة، بحث مقدّم إلى «مؤتمر الشباب والتنمية في فلسطين» (غزّة: الجامعة الإسلاميّة، 2012)، ص 24.

[3] نضال جلايطة، ثائر أبو عون، رامي الشرافي، دور مؤسّسات المجتمع المدنيّ في تعزيز المشاركة السياسيّة للشباب الفلسطينيّ – ورقة سياسات (رام الله: المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجيّة - مسارات، 2011)، https://cutt.us/Uh2P4

[4] «قانون الشباب رقم 2» لعام 2011، أقرّه «المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ»، نُشِرَ في جريدة «الوقائع الفلسطينيّة» بتاريخ  26 نيسان (أبريل). يتكوّن القانون من 30 مادّة موزّعة على 5 فصول، يتضمّن الفصل الأوّل: التعريفات والأحكام والمهامّ والصلاحيّات لوزارة الشباب، والفصل الثاني: حقوق الشباب والتزامات السلطة الوطنيّة تجاه حقوق الشباب، والفصل الثالث: المؤسّسات والاتّحادات الشبابيّة، والفصل الرابع: يتناول إنشاء صندوق دعم للشباب، والفصل الخامس: أحكام انتقاليّة، والأهليّة القانونيّة للمؤسّسات الشبابيّة.

[5] مجدي المالكي وحسن لدادوة، المؤسّسات الشبابيّة في الأراضي الفلسطينيّة ورأس المال الاجتماعيّ (القدس: معهد أبحاث السياسات الاقتصاديّة الفلسطينيّ [ماس]، 2011)، ص 36.

[6]  «مسح الشباب الفلسطينيّ لسنة 2015»، الجهاز المركزيّ للإحصاء في دولة فلسطين، الهجرة والشباب، ص 25، https://bit.ly/3pHizck

 

 

كريم أبو الروس

 

 

كاتب وباحث فلسطينيّ، من مواليد مدينة رفح جنوب قطاع غزّة، صدرت له رواية بعنوان «غريق لا يحاول النجاة» (دار خطى للنشر والتوزيع). ينشر المقالات والدراسات في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.