الشباب والفعل الثقافيّ: اشتباك الثقافة والسياسة (1/4)

أ ف ب

 

الصدمة

يقدّم جابرييل ألموند مفهومه عن الثقافة السياسيّة في نطاق التحليل السياسيّ، بأنّها "توجّهات واتّجاهات الغالبيّة العظمى من أفراد المجتمع صوب النظام السياسيّ في كلّيّاته وجزئيّاته، ورؤية الفرد لدوره في النظام السياسيّ"[1]. يرى ألموند أنّ ثمّة ارتباطًا كبيرًا بين الثقافة السياسيّة عند الفرد ودوره في النظام السياسيّ، إلّا أنّ الثقافة السياسيّة الّتي سادت بعد «الانقسام الفلسطينيّ» عام 2007، تكوّنت بفعل عوامل الصدمة الاجتماعيّة والنفسيّة، تلك الّتي أعقبها فصل جغرافيّ وسياسيّ وأخلاقيّ وانقطاع في أواصر النسيج الاجتماعيّ المشتبك بالضرورة مع السياسة، ما أدّى إلى علاقة مرتبكة مع النظام السياسيّ المنقسم على ذاته.

لقد حوّلت الصدمة الفعل الثقافيّ الشبابيّ منذ ذلك الحين إلى أن يكون مُصْلِحًا؛ ليس قياسًا على المبادرات الشبابيّة أو تلك الّتي اشتركت فيها أحزاب صغيرة أو مؤسّسات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بل قياسًا على الجهود الشبابيّة الّتي عملت على إنتاج خطاب وحدويّ جديد...

لقد حوّلت الصدمة الفعل الثقافيّ الشبابيّ منذ ذلك الحين إلى أن يكون مُصْلِحًا؛ ليس قياسًا على المبادرات الشبابيّة أو تلك الّتي اشتركت فيها أحزاب صغيرة أو مؤسّسات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بل قياسًا على الجهود الشبابيّة الّتي عملت على إنتاج خطاب وحدويّ جديد، يرتبط أساسًا بالوحدة الوطنيّة، ونبذ الانقسام، والتركيز على المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ المنهمك في حينه، ولكن هذه المحاولات والجهود كانت أيضًا متأثّرة بالانقسام.

حتّى ذلك الخطاب المُنْتَج ثقافيًّا من الشباب لم يكن قادرًا على إثبات وجوده في ظلّ حالة التشوّه الّتي أصابت أساسات المجتمع، وانتقل هذا التشوّه إلى الأوساط الشابّة، لكنّه لم يكن تشوّهًا سلبيًّا في أحيان كثيرة، رغم أنّه لم يكن موحّدًا ولم يكن منظّمًا؛ إذ انتقل الفعل الثقافيّ إلى مرحلة انفكّ فيها إلى حدّ كبير عن «المركزيّة الثقافيّة والسياسيّة» الّتي تبنّتها الأحزاب السياسيّة ومؤسّسات النظام السياسيّ حتّى قبل «أوسلو»، وساعد في ذلك بروز اتّجاهات جديدة عند الشباب في التعاطي مع القضايا الاجتماعيّة والثقافيّة، الّتي بالضرورة لا تتلاءم مع اتّجاهات الأحزاب السياسيّة والفضاء العامّ بشكل عامّ. حتّى المؤسّسات الثقافيّة والشبابيّة اتّخذت سياسات أكثر مرونة، وتماهت في كثير من مشاريعها مع رؤى الأحزاب، ومنظومات السيطرة عند طرفَي الانقسام في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.

الكثير من المحاولات الّتي انفكّت من المركزيّة ماتت في مهدها، وهذا يعود إلى أسباب نشأتها أصلًا[2]، فحراك «اصحى» عام 2009، الّذي خرج ليطالب بالدفاع عن الحرّيّات الشخصيّة والاجتماعيّة في قطاع غزّة، قد انتهى بعد شهور قليلة من بدئِه[3]، وحراك «15 آذار» عام 2011-2012، الّذي خرج في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ليطالب بإنهاء الانقسام، قد فُضَّ، وأُميتَت أيّ محاولة لمراكمة العمل فيه[4].

اتّخذ الشباب الفلسطينيّ اللاعنفيّة في مواجهة النظام السياسيّ، والعمل في فضاءات أكثر تعدّديّة، بهدف إعادة تنظيم صفوف الشباب، من خلال أطر ثقافيّة وباستخدام أدوات بديلة، أي تلك الأدوات الّتي تتيح للشباب المشاركة والفعل بطرق التفافيّة، عن طريق التجمّعات والتظاهرات الثقافيّة، لا تلك الّتي تمسّ السياسة بشكل مباشر.

 

العقاب

نشأ «جيل ما بعد الانقسام» في ظروف معقّدة سياسيًّا، خاصّة مع تزايد أدوات القمع الثقافيّة والسياسيّة، لا تلك المرتبطة مباشرةً بأدوات الحكم والنظام، بل تلك المرتبطة بالوعي الاجتماعيّ والبنى الثقافيّة في حدّ ذاتها، حتّى وصل القمع إلى «الدبكة الشعبيّة». وتمثّل القمع السياسيّ لمنظومات السيطرة عند قطبَي الانقسام بمحاولة «أدلجة» المجتمع، من خلال فرض مفاهيم جديدة وتبديل وتغيير أخرى؛ إذ صار أيّ خطاب يُعَدّ تحرّريًّا أو ينادي بأفكار خارجة عن الإطار السياسيّ لطرفَي الانقسام، صار يستدعي العقاب.

اشتبكت السياسة مع الثقافة في التاريخ الفلسطينيّ الحديث بصور كثيرة، أفرزت في النهاية خطابًا فلسطينيًّا ينادي بالتحرّر ونيل الاستقلال وتحقيق المصير، إلّا أنّ اشتباك السياسة مع الثقافة عند «جيل ما بعد الانقسام»، ارتبط بالمفاهيم الاجتماعيّة والفكريّة أكثر من المفاهيم الوطنيّة التقليديّة....

يقول المسرحيّ السوريّ سعد الله ونّوس: "أنا أعتقد أنّ مسألة القمع أصبحت أيضًا مركّبة، حين نقول القمع ينبغي ألّا نفهم من ذلك فقط السجون، والدولة البوليسيّة والمنع، هناك قمع مخمليّ، هناك قمع بقفّازات ملوّنة وناعمة، هذا القمع يتمثّل أوّلًا بتهميش الثقافة، وتهميش المثقّفين وإقصائهم عن دورهم الطليعيّ".

اشتبكت السياسة مع الثقافة في التاريخ الفلسطينيّ الحديث بصور كثيرة، أفرزت في النهاية خطابًا فلسطينيًّا ينادي بالتحرّر ونيل الاستقلال وتحقيق المصير، إلّا أنّ اشتباك السياسة مع الثقافة عند «جيل ما بعد الانقسام»، ارتبط بالمفاهيم الاجتماعيّة والفكريّة أكثر من المفاهيم الوطنيّة التقليديّة، اشتباك نتجت عنه  أفكار وطنيّة بخطاب جديد، إذ عملت مجموعات شبابيّة، من أراضي 48 والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، على إعادة خطوط التواصل بين الشباب الفلسطينيّين أنفسهم، ومشاركة الأفكار والآراء حول القضيّة الفلسطينيّة، والتبادل الثقافيّ بين المشاهد الثلاثة المتباعدة جغرافيًّا بشكل قسريّ. أنتج هذا التواصل خطابًا ثقافيًّا جديدًا؛ فهو خطاب ذاتيّ لا مركزيّ، لا تربطه علاقة بالمؤسّسة الثقافيّة الرسميّة، أو الأحزاب السياسيّة، أو حتّى مؤسّسات المجتمع المدنيّ، إلّا أنّ مؤسّسات المجتمع المدنيّ أدّت دورًا في تحفيز هذه الحراكات ودعمها، بشكلها غير السياسيّ[5].

اتّسم البنيان الثقافيّ لجيل ما بعد الانقسام برؤية ناقدة سياسيًّا تجاوزت المنصّات الحزبيّة، وتجديديّة ثقافيًّا تجاوزت الاتّجاهات الفكريّة القديمة، وانفكّت عن محاولات «الفبركة الثقافيّة» و«الخطاب الدينيّ» الّتي أنتجها قُطْبا الانقسام. يرى الكاتب علي مواسي في مقدّمة كتاب «الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48»، أنّ المسائل القيميّة صارت مطروحة أكثر ممّا سبق، كالحرّيّات الفرديّة، وحقوق الإنسان، ولا سيّما الحقّ في التعبير، وذلك بتأثّر من خطابات ومرجعيّات حداثيّة وما بعد حداثيّة، عربيّة وإسلاميّة، ومن ديناميكيّات السجال معها ونقدها، بل رفضها أيضًا من قِبَل خطابات ومرجعيّات مقابلة، توصف غالبًا حتّى من مُتَبَنّيها، أو المنتمين إليها بـ «الدينيّة» أو «المحافظة» أو «السلفيّة». ومن تلك المسائل: النسويّة، والمواطنة، والعَلْمانيّة، والديمقراطيّة، والتعدّديّة، والعقد الاجتماعيّ، وحرّيّة الاعتقاد، والتعدّديّة الجنسيّة، وقضايا الأحوال الشخصيّة[6].

 

الانفكاك عن الأحزاب

كان للأحزاب السياسيّة دور بارز قبل «اتّفاقيّة أوسلو»، في تشكيل الهويّة الثقافيّة الفلسطينيّة في الداخل والخارج، وبنت في المشهد الثقافيّ أعمدة راسخة تمثّلت بالجرائد والمجلّات ومراكز الأبحاث والتعليم والإعلام، إلّا أنّ هذه الأعمدة آلت شيئًا فشيئًا إلى التخلخل والسقوط مع هيمنة «السلطة الفلسطينيّة» على «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»[7]، الّتي ابْتُلِعَت صلاحيّتها لصالح «السلطة» ومؤسّساتها التنفيذيّة، حيث صارت الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة تعيش على تاريخها، وتلملم أوراقها الأخيرة من الميادين الشعبيّة والبنى الثقافيّة.

 تشتّت الفعل الثقافيّ، واختلط بأزمة الآخر السياسيّ، فمنعت حكومة «حَماس» في غزّة أيّ فعل ثقافيّ لا يتماشى مع أفكارها الحزبيّة ومعتقداتها المحافظة، وكذلك منعت «السلطة الفلسطينيّة» في الضفّة أيّ نشاطات ثقافيّة تمثّل لها قلقًا أو معارضة...

بعد «أوسلو»، عبّأت منظّمات المجتمع المدنيّ الناشئة حديثًا هذا الفراغ، من خلال مشاريعها وأنشطتها ومبادراتها المموَّلة خارجيًّا، الّتي بالضرورة لم تنتج مشهدًا ثقافيًّا كذلك الّذي أنشأته «المنظّمة» في بيروت وعمّان والخليج العربيّ ومصر وسوريا؛ لأنّ هذه المنظّمات اتّبعت منهجًا مغايرًا تمامًا، وراحت تتماشى مع سياسة «السلطة الفلسطينيّة» بمأسسة الثقافة والحقول الثقافيّة.

في خضمّ كلّ هذه التغيّرات، كان للشباب دور أساسيّ في تشكيل المشهد الثقافيّ وتفعيله بموازاة الأطر الرسميّة؛ إذ إنّ الفعل الثقافيّ كان متناغمًا، لأنّ العلاقة بالنظام والأطر الرسميّة لم تكن مرتبكة.

بعد الانقسام السياسيّ، وبفعل الفصل الجغرافيّ بين قطاع غزّة والضفّة الغربيّة تشتّت الفعل الثقافيّ، واختلط بأزمة الآخر السياسيّ، فمنعت حكومة «حَماس» في غزّة أيّ فعل ثقافيّ لا يتماشى مع أفكارها الحزبيّة ومعتقداتها المحافظة، وكذلك منعت «السلطة الفلسطينيّة» في الضفّة أيّ نشاطات ثقافيّة تمثّل لها قلقًا أو معارضة، أو تدعم توجّهات الطرف السياسيّ الآخر.

نتج عن هذه الممارسات القمعيّة فجوة كبيرة بين الشباب والنظامين، ولجأ الشباب منذ تلك اللحظة إلى المحاولات الذاتيّة الفرديّة لتشكيل «تظاهرات ثقافيّة»، منفصلة عن أطر الأحزاب السياسيّة، وغير مرتبطة بأيديولوجيّة النظام القائم، وكان بعض هذه «التظاهرات» يعمل في الثقافة، من أجل تحقيق هدف السياسة[8].

..........

إحالات:

[1] political culture refers to the specifically political orientations and attitude towards the political system and its various parts, and attitude towards the role of the self in the system. Almond, Gabriel and Verba, Sidney (1963)78.

[2] أحمد جميل عزم، الشباب الفلسطينيّ من الحركة إلى الحراك 1908-2018، الطبعة الأولى (رام الله: المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجيّة - مسارات، 2019)، ص 7.

[3] عريضة للدفاع عن الحرّيّات الشخصيّة والاجتماعيّة في قطاع غزّة، «حركة ‘اصحى‘ من أجل التنوير والتغيير»، موقع الحوار المتمدّن، 02/09/2009، شوهد في 17/01/2021، في: https://bit.ly/3pb3i35

[4] أحمد جميل عزم، مرجع سابق، ص 61.

[5] أحمد أبو إرتيمة، «الدور المنشود للمجتمع المدنيّ الفلسطينيّ»، موقع عربيّ 21، 13\05\2018، شوهد في 17\01\2021، في https://cutt.us/JnZV4

[6] علي مواسي، «الثقافة الفلسطينيّة في ظلّ المعازل واللانظام»، فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، 03/12/2018، شوهد في 15/01/2021، في https://cutt.us/KSNCg

[7] سنيّة الحسيني، «التباس العلاقة بين المنظّمة والسلطة»، المركز الديمقراطيّ العربيّ للدراسات الإستراتيجيّة الاقتصاديّة والسياسيّة، 30\11\2018، شوهد في 17\01\2021، في: https://bit.ly/3rFjY4r.

[8] يورغ غرغل ورائف هكسل، «مأزق الشباب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، مؤسّسة فريدريش إيبرت الألمانيّة (بيروت: دار الساقي، 2019)، ص 88.

 

 

كريم أبو الروس

 

 

كاتب وباحث فلسطينيّ، من مواليد مدينة رفح جنوب قطاع غزّة، صدرت له رواية بعنوان «غريق لا يحاول النجاة» (دار خطى للنشر والتوزيع). ينشر المقالات والدراسات في مختلف المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.