حنّا أبو حنّا... نصّ الطفولة

الراحل حنّا أبو حنّا

 

منحتك الطبيعة هديّة في يوم رحيلك الجسديّ، وجعلت الشتاء يصمت لساعات، أخرست الرعد؛ لينطلق صوت الترانيم السماويّة تَسْجِيَةً لك، فاختلطت السماء بالأرض.

رسمت الشمس بقعًا ذهبيّة على أرض المقبرة في حيفا، تزيّنها، ولربّما كانت تريد أن تدفئ التربة الّتي سيلامسها كفنك، حين أفلت الشباب الخيوط الّتي تحمل النعش لينزل براحة وهدوء إلى قلب التراب، حيث رقودك الأبديّ. من التراب وإلى التراب تعود، نعود، البحر من أمامك والكرمل من ورائك.

اجتمع في جنازتك الكثيرون، التقيت بمَنْ فرّقتهم الجائحة، عزّينا بعضنا بعضًا من خلف الكمامات، وكلٌّ منّا يشعر بأنّ له فيك جزءًا، وأنّك حاضر في قلوب الجميع. أفكار راودتني بينما يصلّي من حولي المصلّون، أبعثر حجارة صغيرة من تحت رجليّ ثمّ أجمعها، كما هي الحياة تجمعنا وتبعثرنا، تبعثرنا وتجمعنا.

 

حضر الأطفال

حضر الكبار الجنازة، وغاب الأطفال، كما هي العادة في الجنازات، لكنّي شعرت أنّهم حاضرون بمرحهم، تستدعيهم بقصصك لهم، الّتي لم يتحدّث عنها الكبار من ضمن ما عدّدوه من أعمالك ومنجزاتك، والّتي تعكس جانبًا من حبّك وشغفك، ووعيك ومسؤوليّتك تجاه الطفولة.

حضر الكبار الجنازة، وغاب الأطفال، كما هي العادة في الجنازات، لكنّي شعرت أنّهم حاضرون بمرحهم، تستدعيهم بقصصك لهم...

مرّ أمامي يوم أمس مقطع فيديو مصوّر لطفلة لا أعرف اسمها، في مدرسة من مدارس حيفا، تلقي كلمة ترحيب بك، وتشكر لك دورك الجميل وعطاءك وأدبك الجمّ. كنت تجلس قربها، تستمع لإلقائها بشغف وحبّ، مددت يدك وسلّمت عليها بعد كلمتها المؤثّرة، وطبعت قبلة الجدّ الحنون على جبينها. كان واضحًا تأثّرك، ليس بمضمونها كلمتها فقط، بل بالطفلة وأدائها الجميل، ولربّما كنت تتساءل كيف تقدر في مثل سنّها على أن تقدّم هذا الإلقاء الجميل، والتمكّن من اللغة وقواعدها، لكنّها هي نفسها كانت الجواب، تمثّل جيلًا واعيًا رغم كلّ تحدّيات الأسرلة والعولمة، جيلًا قادرًا على التقدير والحبّ والشكر.

ليلة الثاني من شباط (فبراير) 2022، بلغني خبر وفاتك، كان من الصعب استيعابه؛ فإدراك أنّك عشت سنوات عمرك الّتي تخطّت التسعين عامًا، وأنت بكامل عطائك وصحّتك، لا تُسْعِف في تخفيف الشعور بالخسارة... خسارة رجل طيّب، بكلّ ما أنت عليه. رجل يمثّل قيمًا ووعيًا ووطنيّة، رجل يمثّل شريحة جيل مناضلة، ما بقي منها إلّا أفراد.

قالت لي ابنتي وأنا أخبرها بوفاتك وتاريخ ميلادك: يشبه جدّي بالكثير من الأمور؛ حبّ اللغة العربيّة وتدريسها، وإشغال منصب مدير مدرسة ما بعد النكبة، والكتابة والتأليف، والولادة في العشريّة الثانية من القرن العشرين.

 

الدنيا ملأى بالرنّات

بعد المحادثة مع ابنتي، عدت إلى مكتبتي أبحث عن مادّتين ترتبطان بك: الأولى تسجيلات كاسيت كنت قد سجّلتها معك قبل نحو أكثر من عشرين عامًا، حين كنت أدرس الماجستير في «التربية الاجتماعيّة والعلاج بالفنون»، وكنت أحضّر دراسةً عن مناهج التعليم العربيّ بعد النكبة والأدب المقاوم. لم أجد التسجيلات، لكنّي وجدت المادّة الثانية الّتي كنت أبحث عنها؛ كتاب «دنيا الأنغام»، فتحت الصفحات، وقرأت: "الدنيا ملأى بالرنّات وبالدقّات وبالأصوات... أَنْصِتْ لتميّز أنواع الألحان وأشكال النغمات".

 

 

«دنيا الأنغام» من الكتب الجميلة من فترة طفولة ابنتَي هند وهدى، حيث كنت أختار شراء الكتب بعناية، أهتمّ بالمضمون وبالرسمات، وحين كبرت ابنتاي، ووزّعت كتب الطفولة على الأصدقاء من الأهل ليقرؤوها بدورهم مع أطفالهم، كان من الكتب القليلة الّتي أبقيتها في مكتبتنا، إلى جانب ثلاثيّة سيرتك الذاتيّة: «ظلّ الغيمة» و«مهر البومة» و«خميرة الرماد» المزيّنة بتوقيعك وإهدائك.

في الكتاب معاني وحياة، تعكس روحك وعمق الرؤية تجاه الأطفال وعالمهم، حيث تدعو الصغار إلى الإنصات لما حولهم من أصوات، وللحركة الّتي تحملها، وسماع الموسيقى والإصغاء لتمييز أنواع النغمات ببساطتها، والتفاعل مع عالمهم وبيئتهم، وما حولهم من جماد ونبات والحفاظ عليها؛ حيث تكتب: "الحنفيّة حين تنقّط، نقط الماء تقول: طِفْ... طِفْ... طِفْ"، وتضيف "ورق الأشجار تناديه النسمات، تقول: حِفْ... حِفْ... حِفْ..."، و"الموج الهادئ يهمس عند الشطّ، يقول: وِشْ... وِشْ... وِشْ".

أسلوب رقيق وشاعريّ يحاكي الأطفال ويتحدّث لغتهم، ويقرّب اللغة إلى قلوبهم، ويسهّلها عليهم، ويحبّبهم بها، ويعرّفهم إيّاها والتنوّع بالمصطلحات، وغنى هذه اللغة العربيّة الّتي أحببتها وأحبّتك.

 

كمان... كمان

توجّه يمثّل خلاصة مبادئك ومفاهيمك عن عالم الأطفال، وإيمانك بقدراتهم وبدور المعلّم والمعلّمة في الإصغاء والتمكين، وفي جعل عمليّة التعلّم متعة وتجربة لا عبئًا وتلقينًا، وهو يعبّر أيضًا عن أفكارك حول ارتباط الإنسان بالبيئة والتفاعل معها والحفاظ عليها. لربّما هو هاجس الفلسطينيّ بحبّ الأرض والتشبّث بخيراتها وما تعطيه وما تنتجه، عبر الدعوة إلى الإصغاء لصوت الماء والطبيعة، وحفيف الأشجار، وهمس الأمواج، ولصوت "الجُلْجُل في عنق البقرات"؛ وبذلك عملت على إكساب المعرفة واكتسابها.

وحين نصل الصفحة الّتي تقول: "لندقّ الأرض بأرجلنا دقًّا مرحًا... ونصفّق بالأيدي طربًا نغمًا فرحًا"، كانت الأيدي والأرجل تبدأ تضرب بالأرض...

حين كانت ابنتاي في جيل الطفولة، ولمدّة طويلة، كان هذا الكتاب مرافقًا لمرحلة ما قبل النوم، كنّا نتمدّد على السرير، ثلاثتنا، وأنا أقرأ لهما من الكتاب، وكانتا قد حفظتا الكلمات، تقولانها معي من ذاكرتهما البصريّة، وحين نصل الصفحة الّتي تقول: "لندقّ الأرض بأرجلنا دقًّا مرحًا... ونصفّق بالأيدي طربًا نغمًا فرحًا"، كانت الأيدي والأرجل تبدأ تضرب بالأرض، وتصفّق في الهواء، ونضحك ثلاثتنا ضحكًا طويلًا، وتكرّر ابنتاي طلبهما بإلحاح: "كمان... كمان"؛ فنعيد الكرّة ونحن نضحك ونضرب بالأرض بأرجلنا، ونصفّق بالهواء بأيدينا.

في الجنازة، حين حضنت سامية العزيزة، أمّ الأمين، شريكتك في الدرب، وجدت نفسي أقول لها: باقٍ معنا... وردّت عليّ: صدقت، باقٍ معنا.

وداعًا أديبنا الجميل، حنّا أبو حنّا.

 


 

جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.