تلّ السمك... النكبة تطال الأقدمين

آثار تلّ السمك | تصوير: جنان عبده.

 

خلال تجوّلاتي الليليّة والصباحيّة على شاطئ حيفا، لاحظت تدريجيًّا أنّ معالم تلّ السمك بدأت تختفي من موقعها على الشاطئ الأزرق، جنوب غرب مدينة حيفا، في المنطقة التحتى من «حيّ وادي الجمال»، بين سكّة الحديد والشاطئ. وكانت، قبل فترة قصيرة، قد وُضِعَتْ أسلاك شائكة على منطقة الآثار التاريخيّة المجاورة للتلّ، كما في مرّات سابقة؛ إذ تهاوت مع الوقت وسَهُلَ اختراقها.

قبل أيّام كنت أزور المنطقة، وكانت معالمها قد طُمِسَتْ من خلال تغطيتها تقريبًا بالكامل بجرف ترابيّ، حيث من الواضح من آثار الأرض أنّ شاحنات مرّت هناك، وسوّت الأرض، وغطّت بالكامل كلّ معلم من الآثار.

 

طبقات تاريخيّة

منذ أن سكنت المدينة في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أزور باستمرار منطقة تلّ السمك، وأصعد إلى التلّة المطلّة على الخليج مباشرة. أستمتع بالمنظر، في الأيّام الصافية يمكن مشاهدة عكّا توأم حيفا، الّتي تمسك بالخليج من طرفه الشماليّ ورأس الناقورة الّتي تعلن انتهاء اليابسة. أستمتع بهوائها الملطّف برذاذ أمواجها الّتي ترتطم هناك على صخورها البارزة، حيث ينتشر الصيّادون يقفون على النتوءات الصخريّة البارزة، الّتي تشبه الجزر الصغيرة، حاملين عصيّ الصيد، وأوعية لحفظ الأسماك الّتي يصطادونها.

يضيف إلى جمال المشهد الآثار التاريخيّة الأخّاذة، الّتي كُشِفَتْ في الطرف الغربيّ  للتلّ قبل أعوام، والّتي جاءت بعد عمليّات حفر منظّمة أُجْرِيَتْ هناك. انكشف أمام عينيّ تاريخ جميل؛ منطقة كاملة واسعة من الآثار المعماريّة؛ أرضيّات لفسيفساء جميلة ملوّنة، وبقايا غرف ومنحوتات بعضها كامل. في أواخر الشتاء والربيع، تنبت بين شقوق الحجر والفسيفساء براعم عشب، وطحالب خضراء نضرة اللون، تضيف إلى جمال المنظر. الْتَقَطْتُ صورًا لهذا الجمال وحفظته عندي لأرسمه لاحقًا، وأضيفه إلى مجموعة اللوحات الّتي خَصَصْتُ بها تلّ السمك، ولم أكن أعرف أنّه سيختفي من جديد بعمليّة طمس وإخفاء، كما يحدث الآن.

 

آثار تلّ السمك | تصوير: جنان عبده. 

 

تعرّضت منطقة الآثار لإهمال شديد متعمّد على مدار أعوام؛ حيث أُبْقِيَتْ مكشوفة دون حراسة أو تسييج، أو أيّ عمليّة صيانة من قِبَل «بلديّة حيفا» و«دائرة الآثار» الإسرائيليّة، وامتلأت مع الزمن بالقاذورات من أكياس بلاستيكيّة، وبقايا طعام، وما إلى ذلك. وكان المارّون هناك يدوسون بأقدامهم مع كلابهم على الفسيفساء الجميلة، والغرف، والمنحوتات.

سُيِّجَتِ المنطقة بأسلاك لم ترتفع أكثر من متر، تآكلت مع الزمن، وعاد الناس يدوسون الآثار بأقدامهم دون أيّ إجراءات لحمايتها. يتناقض هذا الإهمال مع إعلان الموقع في عام 2008 منطقة محميّة طبيعيّة، سُمِّيَت «محميّة شقمونة» بالعبريّة. وخلال البحث عن مصدر التسمية، وجدت أنّ أصول الكلمة ’شقمونة‘ مشتقّة من كلمة ’سيكامين‘ (Sycamine) على اسم شجرة الجمّيز أو التين السيكامونيّ، المذكورة في الأدب اليونانيّ، وأيضًا ذُكِرَتْ في «إنجيل لوقا» من الكتاب المقدّس المسيحيّ، جاء هناك: "لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذه الجمّيزة: انقلعي وانغرسي في البحر، فتطيعكم". وهذا يعني أنّ أصول المنطقة ليست عبريّة، ما يطرح تساؤلًا: هل يُهْمَل موقع أثريّ كهذا لكون أصوله غير عبريّة؟ وهل هذا الإهمال جزء من سياسة تهويد البلاد تاريخًا وحاضرًا؟

 

بحث أثريّ في خدمة التهويد

أكّد عالم الآثار محمود هواري الجذور التاريخيّة الكنعانيّة الفينيقيّة لموقع تلّ السمك؛ أي منذ نحو أربعة آلاف عام، وأشار إلى أنّ الكتابة اليونانيّة على أرضيّة الفسيفساء تعود إلى الفترة البيزنطيّة (القرن السادس الميلاديّ على الأرجح)، وأوضح أنّ تغطية هذه المنطقة من جديد تعدّ خسارة كبيرة، بدل حفظها وفتحها أمام الزوّار؛ حيث تُعْتَبَر أحد أهمّ المواقع الأثريّة الكنعانيّة - الفينيقيّة القليلة، الباقية على امتداد الساحل السوريّ – الفلسطينيّ، ومن ضمنها: رأس شمرا، وجبيل، وبيروت، وصور، والزيب، وعكّا، والطنطورة، ويافا، وعسقلان، وغزّة، ورفح؛ فقد جُرِّفَ قبلها جزء من موقع تلّ أبو حوام من الجهة الشرقيّة لحيفا، عند مصبّ نهر المقطع في عهد الاستعمار البريطانيّ، لصالح شركة «شل» الّتي أقامت المصانع الكيماويّة ومصافي البترول هناك، وجرى تخريبه نهائيًّا في زمن الحكم الاستعماريّ الإسرائيليّ.

كلا الموقعين الأثريّين؛ تلّ أبو حوام من شرق حيفا، وتلّ السمك، اللَّذَيْن طُمِسا، يمثّلان التواصل والاستمراريّة الحضاريّة في أرض فلسطين، منذ العصور الكنعانيّة والفينيقيّة والهيلينيّة والرومانيّة والبيزنطيّة والإسلاميّة، وينبغي الحفاظ عليهما وكشفهما. وتكون عمليّة الحفاظ على مواقع أثريّة اكْتُشِفَت بواحدة من طريقتين، كما أشار هواري؛ إمّا أن يجري ترميمها وصيانتها وحمايتها، وإمكانيّة إدارتها وفتحها للزوّار، وإمّا إعادة تغطيتها من جديد، وأكّد أنّه لا يمكن معرفة إن كانت ستُكْتَشَف من جديد ومتى، خاصّة أنّها ليست آثارًا توراتيّة يهوديّة.

 

على أطراف وادي الجمال تاريخ من الحضارة

يقع موقع تلّ السمك الحاليّ في المنطقة التحتى من وادي الجمال في حيفا القديمة، كما يشير المؤرّخ جوني منصور، الّتي عُرِفت في القرن الرابع الميلاديّ باسم ’إيفا‘ (EFA)، أي المدينة القديمة.

تقع في منطقة تلّ السمك، وعلى بُعْد نحو نصف كيلومتر من التلّ، «كنيسة غريغوريوس» التابعة لرعيّة الروم الملكيّين الكاثوليك، الّتي بناها المطران الحجّار في عام 1934، وأُعيد فتحها في عام 2013. قريبًا من الكنيسة، يوجد مبنى عائلة وديع البستاني سابقًا، الّذي يتبع للمطرانيّة المارونيّة، وصُمِّم بشكل جميل وراقٍ على يد المهندس المعماريّ إميل بستاني في عام 1937، ويمتدّ الحيّ صعودًا إلى أعلى الجبل، وعلى قمّته «كنيسة دير مار إلياس».

 

فسيفساء تلّ السمك | تصوير: جنان عبده. 

 

يعود مصدر اسم «وادي الجمال»، كما يبيّن منصور، إلى أنّ المنطقة ذاتها محطّة لقوافل الجمال المحمّلة بالبضائع، والقادمة من عكّا أو من سائر بلاد الشام باتّجاه يافا، ومن ثَمّ نحو غزّة فمصر. وكانت القوافل تستريح فترة من الزمن في سفوح الوادي ومنحدراته قبل متابعتها المسير. ويُعْتقَد أنّ الحيّ كان مأهولًا في جزئه بالسكّان منذ عصور قديمة، وذلك لقربه من تلّ السمك، واعتمد سكّان المنطقة في معيشتهم على صيد السمك، ورعاية المواشي، والزراعة البعليّة.

بدأ الحيّ يتكوّن بصورته الحاليّة ويتشكّل في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، عندما شرع عدد من أصحاب الأراضي فيه في بناء بيوت لهم. وارتفع عدد البيوت في الأربعينات إثر مبادرة «دير الكرمل»، الواقع في أعالي الجبل؛ لبيع قطع من الأراضي لأبناء الطائفة اللاتينيّة في حيفا؛ ليبنوا بيوتًا لهم ولعائلاتهم، خاصّة المنطقة الواقعة فوق سكّة الحديد والشارع الرئيسيّ من حيفا جنوبًا باتّجاه يافا، الّذي يفصل وادي الجمال عن تلّ السمك.

 

احتلال وادي الجمال وتهويده

هجّرت العصابات الصهيونيّة الحيّ بغالبيّة سكّانه خلال النكبة عام 1948. بعد ذلك، تمكّن بعض الأهالي من استعادة بيوتهم، لكنّ منهم مَنْ اضطرّ إلى شرائها من مؤسّسات الدولة الاستعماريّة بعد أن استُعْمِرَتْ ووُطِّنَ يهود فيها، وطُرِدَ أهلها، كما فعل والد شفيقة نصر، الّتي أجريت معها مقابلة ونساء أخريات، ضمن بحثي عن أدوار النساء الفلسطينيّات.

حدّثتني شفيقة، الّتي طُرِدَتْ مع العديد من الفلسطينيّين في عام 1948، أنّها سكنت مع عائلتها في وادي الجمال إبّان النكبة، قبل سرقة بيتها وطردها منه، وكان الحيّ كلّه فلسطينيًّا. جاورتهم عائلة جبور وعائلة عزّام، وكان لوالدها دكّان في الغوارنة، قرية جسر الزرقاء قضاء حيفا قبل النكبة. أخبرتني شفيقة كيف جرى تجميع الفلسطينيّين المهجّرين في الميناء التابع للاستعمار الإنجليزيّ، قريبًا من حيّ وادي الجمال بمنطقة مستشفى الدكتور حمزة (رمبام)، ونُقِلوا بقوارب صغيرة تُدْعى ’المعونة‘ إلى عكّا، ثمّ إلى صيدا وصور في لبنان. قالت إنّها عادت إلى حيفا ’تهريبًا‘ عن طريق قرية رميش، ثمّ الجشّ، وأنّ أختها الأكبر منها، نايفة، أخبرتها كيف نُقِلَ مَنْ تبقّى بالقوّة من بيته في وادي الجمال، وتجميع المتبقّين من الفلسطينيّين في حيّ وادي النسناس، وفرض طوق عليهم ومنعهم من العودة إلى بيوتهم.

خلال بحثي، وجدت أنّ بلديّة حيفا كانت صادقت في عام 2020 على مسح تخطيطيّ شامل؛ للمحافظة على عشرات المواقع والمباني التاريخيّة في «حيّ وادي الجمال»، الموازي، ومنطقة تلّ السمك؛ المنطقة التحتى من وادي الجمال.

أكّد مخطّط المدن عروة سويطات، ابن مدينة حيفا وعضو اللجنة البلديّة للمحافظة على المباني والمواقع التاريخيّة في المدينة، في حينه، أنّ وجود عشرات المباني ذات القيمة المعماريّة والتاريخيّة في الحيّ، وصل عددها أربعين مبنًى، تدلّ على عراقة الحيّ الّذي شكّل مدخل مدينة حيفا التاريخيّ، والّذي يحكي حكاية المدينة كاملة، وتطوّرها موقعًا أثريًّا، وبعد ذلك مركزًا حضريًّا، ومن ثَمّ انتكاسته أثناء النكبة، وحتّى أخيرًا إعادة إحياء الحيّ من جديد؛ ليصبح أحد الأحياء الأساسيّة للفلسطينيّين، بالرغم من محاولات تشويه هويّته وتغيير اسمه.

 

من آثار تلّ السمك | تصوير: جنان عبده. 

 

هوّدت البلديّة الإسرائيليّة اسم الحيّ في عام 1951، واختلقت له اسمًا عبريًّا هو «عين هيام»، ومعناه عين للبحر. كما تتجاهل اللافتات الرسميّة المشيرة إلى الحيّ اسمه الفلسطينيّ التاريخيّ، لا بل كانت لجنة التسميات في بلديّة حيفا، قد قرّرت في عام 2021 ألّا توصي المجلس البلديّ بإضافة اسم «وادي الجمال» العربيّ، كما يطالب أهل الحيّ، إلى جانب اسم «عين هيام» العبريّ، وإبقاء التسمية على ما هي عليه.

 

طمس تلّ السمك الأثريّ لتهويده من جديد

خلال بحثي، وجدت مقالًا نشره مؤخّرًا الباحثان جولان شالفي وإيليت جلبوع، من «جامعة حيفا»، حول بحث أجرياه يعتقدان أنّه سيقلب كلّيًّا قصّة شيكومنة التوراتيّة، ويحوّلها إلى واحدة من الدلائل لامتداد ما يُسَمّى ’مملكة إسرائيل‘، خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وقد نُشِر البحث في «مجلّة تل أبيب» الصادرة بالإنجليزيّة يوم 9 حزيران (يونيو) 2023. يقدّم الكاتبان في بحثهما مراجعة للتنقيبات القديمة، ومفادها أنّ الموقع ليس فينيقيًّا، بل إسرائيليّ. وتهدف هذه الادّعاءات إلى اختلاق تاريخ لإسرائيل القديمة، وطمس طبقات أخرى من التاريخ.

مجدّدًا، يتّضح لنا هول طبقات النكبة الّتي تطال هذه المرّة طبقات وعصورًا تاريخيّة، إضافة إلى تهويد «حيّ وادي الجمال»، ورفض إضافة الاسم العربيّ إلى اللافتات البلديّة. تُطْمَس المعالم التاريخيّة البيزنطيّة في تلّ السمك. ويدفع هذا إلى التساؤل عن سلَّم الأولويّات لهذا الموقع، وما الّذي تخطّط له البلديّة و«دائرة الآثار»؟ في ما يتوقّع محمود هواري أنّ مصير الموقع الاندثار والنسيان؛ لعدم احتوائه على آثار توراتيّة يهوديّة. 

وهنا لا بدّ من التساؤل عن سبب طمّ هذا الموقع من جديد، وإن كان السبب هو ما يدّعيه الباحثان الإسرائيليّان بوجود توراتيّ - يهوديّ فيه؟ هل جرت عمليّة الطمّ بهدف حمايته، ثمّ إعادة اكتشافه موقعًا توراتيًّا - يهوديًّا، بعد أن أُهْمِل لأعوام طويلة بوصفه موقعًا بيزنطيًّا؟

لا يمكن فصل الجغرافيا عن التاريخ وعن السياسة، ذلك أنّ عمليّتَي الهدم والإعمار، الكشف والإخفاء، خاضعتان لسياسات استعماريّة، كما حدث في أجزاء أخرى من مدينة حيفا، على رأسها «حيّ وادي الصليب» في المدخل الشرقيّ للمدينة، أو كما حدث في مناطق تاريخيّة أخرى هُدِّمت بالكامل، أو طُمِست، كما في الخليل ونابلس، وكما يحدث في محيط المسجد الأقصى في القدس.

 


 

جنان عبده

 

 

 

محامية وفنّانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.