مقبرة جماعيّة على حوض المتوسّط

محتجّون في الكونغرس الأمريكيّ ضدّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، 31/10/2023 | درو أنجيرير، Getty.

 

هذه مرثيّة محمومة لم يَعُدْ فيها مجال لاستعراض مجريات الإبادة، أو للمكر الّذي يخفي، خلف قناع النزاهة، أو حتّى للحديث عن الصراع، ولا نستبشر فيها بإنسانيّة العالم المفقودة، أو نوجّه بوصلته نحو طريق أكثر أخلاقيّة؛ ليتبنّى جثثنا وأسماءنا برداء التزيين، هذا الزيف الّذي يُبْنى على اللغة ولون العيون والبشرة الناعمة. حتّى أنّنا هنا لا لنبصق في وجه واشنطن؛ فهي تسعى جاهدة إلى عدم بقائها وحيدة في صحف التاريخ، حتّى لا يُكْتَب أنّها وحدها مَنْ مارست التطهير العرقيّ والجماعيّ للسكّان الأصليّين. ولننحِّ باريس جانبًا؛ فلا يمكننا إلقاء اللوم عليها كونها تدافع عن آخر ما يواسيها، ويبرّر إستراتيجيّتها الكولونياليّة في السطو على مقدّرات الشعوب في أفريقيا.

مرثيّة ننعى فيها اللغة، ونبكي فيها دماء مَنْ رحلوا مرغمين بغير إرادتهم، ولنلعن العالم بأشدّ تعابيرنا الفلسطينيّة بذاءة، ننحني فيها باكين على أرض الواقع المشوبة برائحة الجثث وفتاتها، نبحث عن ضحكاتهم في رماد الذاكرة، عن الصرخة المكبوتة الّتي تنزلق كأوراق الخريف المذبوحة، نرثي فيها الأحلام الّتي ابتلعتها أفواه القهر والظلام، والقلوب الرقيقة الّتي قتلتها أيادي الجبروت. نسطّر أحلامهم وكلماتهم وقصصهم حتّى لا يصيروا أرقامًا في حصيلتهم؛ لننشر رائحة الموت الّتي تسلّلت بين قمصانهم كالظلّ السائب في أفواه العالم، وربّما لنجمع أشلاء أطفالنا الّتي تبكي جثثًا وفقراء لتبصق على منافقي العالم، وندقّ سؤالنا الوجوديّ الّذي يأكل رؤوسنا ويلتهم ما تبقّى من نفوس أطفالنا في نعش الأبديّة، لماذا؟ فقط لماذا علينا أن ندافع عن إنسانيّتنا؟ لماذا علينا أن نصيح في وجه السماء؛ لنتساءل عن وجود الآلهة؟

ودّعت اليوم ما تبقّى من الذاكرة، في كلّ فصول حياتي المضطربة، الّتي قاتلت من أجلها جنديًّا مخدوعًا. لسنوات طوال، ونحن وحدنا أحفاد هذه البلاد الّذين نعلم ما يعنيه أن يقاتل الفرد من أجل ذاكرته. هذا تصوّر بسيط عن أناس فُرِضَت عليهم كلّ أشكال الموت المختلفة، مرغمين، محاولًا إزاحتهم عن مسار الحياة الكريمة.

أيّها العالم القذر، أنعى إليك دماء كانت تثابر من أجل الحبّ والحياة، والجلوس أمام شاطئ نظيف، أو الحصول على وظيفة عمل واحدة، أو السفر عبر طائرة لمرّة واحدة، أو يجرّب معنى ’ويكِند‘ وهو يفترش ومَنْ يحبّ أرض حدائقكم الشيّقة، ويعتلي نخب الحرّيّة والعدالة. قصّة حياة تتأرجح بين وَهْم الحرّيّة وقيود الواقع المرير، تسرد للعالم بألوان الحقيقة والتجربة، لكنّك، يا عالم، لم تكن تبالي بها، كما لو كانت أرواحهم طينيّة تشكّل واقعك المريب، وتزيّن مساراتك الدنيئة.

كان لديّ أصدقاء قتلتهم آلة الحرب البربريّة بأقسى طرق الموت بشاعة ودمويّة، وأحقرها وأعنفها، حوّلتهم إلى أشلاء. من بينهم الصديق ياسر رأفت بربخ، قتلوه وهو يضحك كما كان دائمًا. ياسر أكثرنا صلابة وشجاعة وكبرياء، يعرفه ويحبّه الجميع حتّى الأطفال الصغار، لديه عائلة جميلة تفتخر به، ولديه أمّ حنون كانت تنتظر منه الانتهاء من بحثه عن فتاته ’الاستثنائيّة‘، الّتي صدع رؤوسنا بها، كان يرسم ملامحها كمَنْ يرسم لوحة. جمعتنا مقاعد الدراسة في مراحل مختلفة، كنّا نستغرب كيف يأتي متأخّرًا في كلّ يوم دراسيّ، ويحصد جميع علاماتنا، كبر وصار جامعيًّا، وبرز في السياسة حتّى أنّني شاهدت يومًا كيف طرده أحد كبار الساسة في المشهد الفلسطينيّ من قاعة مؤتمرات؛ لانتمائه إلى تيّار سياسيّ معارض. كبر ياسر وصار يأتي ليشكو لي حبيبته، وملامحه ذابلة ومشوّهة بفعل الحبّ، وفي نفس اللحظة يرفض الاعتراف بضعفه. ولأنّ الحبّ وحده الأمل؛ ظلّ يبشّر به طريقًا وحيدًا لتحريرنا من براثن التيه والألم. رايتنا الوحيدة الّتي سنلوّح بها حالما نصل عكّا وحيفا وشفاعمرو؛ ليحصل على فتاته الاستثنائيّة هناك، وهما مستلقيان تحت عناقيد الكرم، ويتلذّذان بنشوة الانتصار، جمعتنا الأغنيات وأمّ كلثوم وقهوة شوقي ودوّار النجمة، وما زال يأتي متأخّرًا.

في دقائقه الأخيرة، كان يبحث عن سيجارة، حدّثني وهو يضحك ويواسيني في غربتي، كان يعلّمني في آخر لحظاته كيف لي أن أنازل القلق باللامبالاة، قال لي سيعود، وبقيت أنتظره كعادتي، وما زال يأتي متأخّرًا.

لقد عانيت بمرارة في حياتي بفعل أشياء مروّعة، وفي لحظة ضعف كنت سأختار طريقًا أسحق فيه كلّ ما آمنت به ذات يوم؛ لأحصد القليل من المال الّذي يعينني في غربتي، حتّى كان هو شجرتي الّتي أعتكز عليها حين ملت.

عرفنا ياسرًا كما عرفنا الخبز والماء، كان واضحًا جريئًا، وكلّما تحدّثنا عن الراحة من قتال الحياة ومصارعتها، صرخ بمقولته الّتي نعرفها ونحبّها جميعًا: "النوم للجبناء".

 

***

 

كان لديّ أصدقاء قتلتهم آلة الحرب البربريّة بأقسى طرق الموت بشاعة ودمويّة، وأحقرها وأعنفها، حوّلتهم إلى أشلاء. فقد فيها علاء عرفات الترتوري عائلته، ياسرًا ومحمّدًا وعبد الله ووالده عرفات. هذا الفتى البديع، أعزّ ما يملك القلب من صداقات، أكثر الناس شغفًا بـ «نادي الزمالك»؛ ممّا يجعله يفضّله على أيّ شيء آخر؛ لأنّه تربّى بين عائلة لا تعرف عن التسلية إلّا لغة كرة القدم. أذكر أنّه لم يتغيّب عن متابعة مباراة واحدة لهم، ولديه من الاكتظاظ المعرفيّ الفلسفيّ والأدبيّ ما يجعله مفكّرًا في ساحاتهم. لم نفوّت يومًا واحدًا حتّى نتقابل، إلّا تلك الأيّام الّتي تكون فيها مباراة لناديه، يرسل إليّ رسالة ليعتذر لأنّه لا يستطيع تفويت مشاهدتها مع والده. كنت أحيانًا أفتّش عن النتيجة حتّى أرى أكان عليّ أن أحتفل معه أم أواسيه، ثمّ يعود ليحلّل المباراة، ويُظهر نقمه أحيانًا على لجنة التحكيم، ويمتعض من ذلك لأنّه سبّب حزنًا لوالده. ثمّ يأخذ نفسًا ليروي لي كتابًا قد قرأه حديثًا، وكيف يمكن ربطه بما نعانيه نحن دون «نادي زمالك» في غزّة. لذا؛ فإنّ «نادي الزمالك» خسر اليوم أعرق مشجّعيه، وأكثرهم إيمانًا بتاريخه.

رغم انطوائيّته النسبيّة، هو لا يعترف بكثرة العلاقات الاجتماعيّة، ويرفض الانغماس بواقعها الافتراضيّ، ولا يعترف بالمقاهي والساحات العامّة وضجيج الشوارع، إلّا إذا كان معي، لا يملك تطلّعات برجوازيّة، بل كان يحلم بوظيفة روتينيّة تعينه على ثقل الحياة، وتبعده عن ضجيجها.

فقد علاء أمّه قبل سنتين بالسرطان؛ بسبب الحظر الجائر على كلا المنفذين الحدوديّين، وعجزها عن السفر للعلاج؛ ممّا أصابه باكتئاب حادّ لمّا يُشْفَ منه بعد. فقدته حينذاك لأكثر من سنة، اختفى تمامًا، والحقيقة أنّني أتساءل الآن: مع مَنْ سيشاهد علاء مباريات «الزمالك» القادمة؟ ومَنْ سيعيد له باب البيت وأصواته الدافئة؟ وكيف ستطأ قدماه عتبة البيت، وهو الّذي لم يكن ليغادر غرفته، ولم يكن ليرى أو يستمع لأحد غيرهم، ولهذا السبب رحلوا جميعًا وبقي هو في غرفته. قتلت آلة الإجرام ما كان يرفض تركه دائمًا عندما نتحدّث عن الهجرة والسفر، فقد المعنى الوحيد الّذي كان يستمرّ من أجله، ما كانت تدفعه غريزة البقاء لأجله، فقد عائلته بالأمس، ورحل أبوه وإخوته، ورحل صالون البيت والتلفاز. فقد كلّ شيء، حرفيًّا كلّ شيء. تركوه وحيدًا وهو الّذي يخاف من ظلّه، أعرف صديقي جيّدًا، أعرفه أكثر من نفسه، وأعرف أنّني سأفقده أيضًا، ولن أستطيع الوصول إليه بعد الآن.

 

***

 

كان لديّ أصدقاء قتلتهم آلة الحرب البربريّة بأقسى طرق الموت بشاعة ودمويّة، وأحقرها وأعنفها، حوّلتهم إلى أشلاء. من بينهم حمزة الجزّار، كان من بين هذه الأرواح النبيلة الّتي تمزّقت بكلّ وحشيّة. يمتلك حمزة عائلة صغيرة، لديه ابن وحيد اسمه أحمد، لمّا يكبر بعد، ما زال صغيرًا لمّا يتجاوز السنة من عمره، تركه وترك لعبته الصغيرة وزوجته يبكيانه للأبد، لديه عينان خضراوان وشعر أشقر، ويتحدّث الإنجليزيّة بأناقة وإجادة، ومع ذلك قتلوه. حصل متأخّرًا على وظيفة مياومة مدرّسًا. أكثر الناس قدرة على تفكيك الصعاب، لقد حاول بما فيه من حبّ وأمل أن يفتّت واقعًا لا يستطيع شراء سيجارة فيه بسنتات. لديه قدرة عجيبة دون مبالغة في التعلّم، مبهر في كلّ شيء، مخلص ووفيّ. كنّا نحبّه وسنظلّ، كان يستمع لي كثيرًا، وكنت أتعلّم منه أكثر. يملك من الحرفيّة والسرعة ما يؤهّله في العمل في أكبر الشركات العالميّة، ترك لي رسالة في أيّامه الأخيرة لطمأنتي على علاء: "لا تقلق على علاء، أنت صديقي وأخي، وعلاء صديقي وأخي". بكلماته الأخيرة، نستطيع أن نتعرّف على مَنْ قضت هذه الوحشيّة. في رحلته عبر متاهات الصراع والدمار، كان ضحيّة حقيقيّة تتأوّه تحت أعباء الظلم والتمييز. تعرّض ليس فقط للقتل العشوائيّ والمقصود، بل لويلات الحصار والحرب على مدارها الطويل، الّتي لم تترك لقبره سوى أشلاء الآمال المحطّمة، وذكريات مزّقتها أيدي الظلام. بينما كان يتأرجح بين حبال القهر ومخالبه، كان يحمل على كتفيه وطأة الظروف القاسية، وحقيقة المعاناة المريرة.

هي قصص لأنبياء صعدوا عاليًا بصراخ مبتور، وأخذوا دموع أحبّته المسكوبة في كلّ زوايا البيت وطرق المدينة الضيّقة، بصوت الضحيّة، بقسوة الزمان وفظاعة الظروف. اندثرت أرواح النبلاء في دوّامة الوحشيّة في عرض الموت المتوسّطيّ، في أكبر مقبرة جماعيّة على مرّ التاريخ. كما كان يحكي القدامى قصصهم، ويندبون مصائرهم كقصيدة تتردّد في أرجاء حكايانا، متحدّين زوبعة الزمن الفادح بما قاله درويش: "يا لحم الفلسطينيّ، يا خبز المسيح الصلب، يا قربان حوض الأبيض المتوسّط".

وكما قال الفيلسوف الفرنسيّ فولتير: "الظلم يكمن في أنّ الضعفاء يصبحون ضحايا للقويّ". في ظلّ العدالة المنسيّة يتحوّل الضعفاء إلى أهداف سهلة لقوى القمع والدولار، حيث تتسلّل المصائب إلى حياتهم كالسموم المميتة.

 


 

أحمد صالح

 

 

 

كاتب وناشط فلسطينيّ من مدينة غزّة، مقيم في بلجيكا.