تونس تودّع شاعرها اللّاسع، الصّغيّر أولاد أحمد

أولاد أحمد يواجه بالشّعر وهن الجسد

أُعلن في العاصة التّونسيّة اليوم، الثّلاثاء، 5 نيسان (أبريل) 2016، عن رحيل الشّاعر والمناضل محمّد الصّغير أولاد أحمد، في المستشفى العسكريّ، عن عمر ناهز الـ 61 عامًا، بعد صراع طويل مع مرض عضال.

وُلد الشّاعر الّذي يعدّه كثيرون الأبرز حضورًا ووهجًا في المشهد الشّعريّ التّونسيّ بعد أبي القاسم الشّابيّ، يوم 4 نيسان (أبريل) 1955، في سيدي بوزيد، المدينة الّتي انطلقت منها الثّورة التّونسيّة عام 2011 بعد حرق محمّد البوعزيزي نفسه، احتجاجًا على ظروفه المعيشيّة القاسية وإذلاله على يد الشّرطة.

بحثًا عن العلم والرّزق

عاش أولاد أحمد ظروفًا حياتيّة قاسية، وقد شهد خروج الاستعمار الفرنسيّ وبداية بناء الدّولة التّونسيّة.

تعلّم القراءة وحفظ القرآن في كتّاب القرية، ثمّ دخل المدرسة الابتدائيّة بمنطقة النّوايل في سيدي بوزيد، وحصل على شهادة التّعليم الابتدائيّ منها عام 1968، ثمّ انتقل إلى ولاية قفصة لمواصلة تعليمه الثّانويّ، حيث كانت تفتقر سيدي بوزيد لمدرسة ثانويّة.

حصل عام 1977 على شهادة منشّط شباب من المدرسة العليا لأطر الشّباب في منطقة بئر الباي في العاصمة التّونسيّة، ثمّ عاد إلى سيدي بوزيد ليحصل عام 1978 على شهادة البكالوريا، ثمّ ليغادر إلى فرنسا، حيث درس على النّفس في جامعة رامس.

عمل أولاد أحمد في عدد من الدّور الثّقافيّة والمؤسّسات الشّبابيّة، وكذلك في صحف محلّيّة وأجنبيّة. وكان قد طُرِدَ من عمله عام 1987 لأسباب سياسيّة، وبقي عاطلًا عن العمل حتّى عام 1993، عمل بعدها ملحقًا ثقافيًّا في وزارة الثّقافة حتّى عام 1997، وقد أُقصِيَ عن عمله هذا لمعارضته نظام زين العابدين بن علي.


الشّاعر اللّاسع

لتجربة محمّد الصّغير أولاد أحمد حضور قويّ في المشهد الشّعريّ التّونسيّ والعربيّ، وقد تميّز صوته بالنّقد اللّاسع والسّاخر لاستبداد الحاكم وضعف المحكوم، وهو ما يتوافق مع مواقفه السّياسيّة والاجتماعيّة.

يقول أولاد أحمد حول ذلك في أحد الحوارات الصّحافيّة: 'مورست عليّ الرّقابة طوال سنوات، فحذفوا مقاطع من قصائدي قبل نشرها وغيّروا حتّى الكلمات، فكتبت، هذا أنا لا يقرأ البوليس نصّي في الجريدة ناقصًا، بل يقرأ المخطوط حذو مديره في اللّيل قبل توجّعي وصدورها، وإذن سأكتب لمن أريد وما أريد'.

وحول بداياته الشّعريّة يقول الصّحافيّ عبد الجليل المسعوديّ: 'ما زلت أذكر ذاك الشّابّ الجافّ الخجول الآتي لتوّه من بلاد السّباسب، وهو يبحر لمغامرة نحو المطلق، زاده الوحيد ألمه، وهل للشّعر أحسن خصبًا من الألم؟'.

الحظر والملاحقة

بدأ محمّد الصّغيّر تجربته الشّعريّة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد أصدر ديوانه الأوّل عام 1984، بعنوان 'نشيد الأيّام السّتّة'، والّذي حظره نظام الرّئيس الرّاحل، الحبيب بورقيبة، لما فيه من نقد غاضب وساخر ضدّ الاستبداد والفساد، وقد ظلّ محظورًا حتّى عام 1988.

بعد عام واحد من إصدار الدّيوان، أي عام 1985، اعْتُقِلَ الصّغير لفترة قصيرة خلال ما يُعرف 'بأحداث الخبر'، حيث اندلعت احتجاجات شعبيّة ضدّ سياسات النّظام القمعيّة وارتفاع أسعار الخبز، وكان الصّغير قد شارك في اعتصام للدّفاع عن نقابة الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، كما أنّه طُرِد بعد ذلك من عمله في إحدى دور الشّباب.

عام 1987 أصدر الصّغير ديوانه الشّعريّ الثّاني، 'ولكنّني أحمد'، وذلك بعد انقطاعه مدّة خمسة أعوام عن الكتابة، وكان قد مرّ عامان في حينه على انقلاب زين العابدين بن عليّ على بورقيبة ليصبح رئيسًا لتونس.

اضطّرّ لمغادرة بلاده نحو فرنسا بداية حكم بن علي، نتيجة استمرار ملاحقته سياسيًّا وطرده من عمله، وقد بقي عاطلًا عن العمل مدّة خمس سنوات، ما بين الأعوام 1987 و1993.

بيت الشّعر

أصدر الصّغير ديوانه الثّالث عام 1993، بعنوان 'وجع الماء'، وقد عاد إلى تونس مطلع التّسعينات ليؤسّس بيت الشّعر التّونسيّ الأوّل عام 1993، والّذي ترأّسه حتّى عام 1997، وقد رفض قبول وسام الاستحقاق الثّقافيّ من نظام بن علي، الّذي سعى إلى كسب ودّه، لتأسيسه بيت الشّعر، وبقي يكتب الشّعر المتمرّد والنّاقد للنّظام رغم طرده من عمله.

عام 2007 تعرّض أولاد أحمد لانتقاد حادّ من يوسف القرضاويّ، بسبب قصيدة له بعنوان 'إلهي أعنّي عليهم'، حيث تعرّض القرضاوي في أحد كتبه لمضامينها، وعدّ أولاد أحمد خارجًا عن الملّة بسببها، بادّعاء أنّه يتطاول فيها على الذّات الإلهيّة.

شاعر الثّورة

عدّه الكثيرون من النّقّاد والمراقبين شاعرًا للثّورة التّونسيّة، لأنّ قصائده استشرفت الثّورة وكان دائم الدّعوة فيها إلى الانتفاض على الاستبداد ومحاربة الفساد والقمع، ومؤكّدًا على الحرّيّات والكرامة الإنسانيّة وضرورة التّغيير.

هاجم أولاد أحمد حزب النّهضة الإسلاميّ التّونسيّ، خلال ما يُعرف بفترة حكم التّرويكا بعد ثورة 2011، متّهمًا إيّاه بالسّعي نحو بناء دولة الخلافة وتقويض الدّولة المدنيّة، وقد تعرّض بدوره إلى هجوم وانتقاد من قبل أنصار النّهضة مرّات عديدة.

حصل أولاد أحمد على جائزة قرطاج العالميّة للشّعر عام 2011، وذلك في إطار الملتقى التّونسيّ الإسبانيّ الأوّل للثّقافة. كما كرّمته وزارة الثّقافة التّونسيّة تكريمًا رسميًّا عام 2015، على إبداعه الشّعريّ خلال 30 عامًا، بحضور نخبة من الشّعراء والمثقّفين.

لأولاد أحمد عدّة مؤلّفات شعريّة، من ضمنها 'نشيد الأيّام السّتّة' (1984)، و'ليس لي مشكلة' (1998)، و'حالات الطّريق' (2013). وله كتابان في النّثر، هما 'تفاصيل' (1991) و'القيادة الشّعريّة للثّورة التّونسيّة' (2013).