عن التّطبيع الثّقافيّ يتحدّثون

ملصق صادر عن حملة المقاطعة اللّبنانيّة

يتجدّد مع كلّ زيارة لشخصيّة ثقافيّة أو فنّيّة عربيّة، وازنة، إلى فلسطين، جدلٌ حول مسألة 'التّطبيع'، وهو ما شهدناه خلال الأيّام القليلة الماضية، مع تنظيم متحف محمود درويش أسبوعَ الأدب العربيّ، في رام الله، والّذي شارك فيه كلٌّ من الشّاعر قاسم حدّاد من البحرين، والرّوائيّة بثينة العيسى من الكويت، والرّوائيّ حمور زيادة من السّودان؛ كما يدور جدلٌ حول مهرجان رام الله للرّقص المعاصر، والّذي يشارك فيه، هذه الأيّام، عددٌ من الفرق والرّاقصين من دول عربيّة مختلفة، بالإضافة إلى نقاشات سابقة دارت حول زيارة الشّاعر هشام الجخّ من مصر، والفنّان لطفي بوشناق من تونس إلى أراضي 48، وغير ذلك من أمثلة عديدة.

توجّهت مجلّة فُسْحَة لعدد من الشّخصيّات الثّقافيّة الفلسطينيّة، سائلة إيّاهم عن رأيهم في هذه المسألة، مقدّمة بذلك مساحة حواريّة حرّة للآراء المتفاوتة، تهدف من خلالها إلى فتح نقاش حول شأن يهمّ القارئ الفلسطينيّ بخاصّة، والعربيّ بعامّة، ويحتلّ جزءًا مهمًّا من الأدبيّات المتعلّقة بالصّراع العربيّ الإسرائيليّ.

ضجّة موسميّة

الشّاعر عامر بدران – رام الله:

'أعتقد أنّ المشكلة أساسًا مشكلة مصطلح ومدلول، إذ أنّ النّخب السّياسيّة والثّقافيّة العربيّة لم تتّفق حتّى اللّحظة على معنًى ومفهوم دقيقين لمصطلح 'تطبيع'، فرغم الاجتهادات الكثيرة، والّتي تؤكّد أنّ التّطبيع الثّقافيّ تحديدًا، هو قبولك لرواية عدوّك عنك وتعايشك مع هذه الرّواية، إلّا أنّ الاستسهال في إطلاق هذه الكلمة قادنا إلى لصقها بكلّ من يقبل أن يرى إسرائيليًّا.

السّؤال البسيط والمكرور الّذي يتبادر إلى الذّهن هو: إن كان لك أخ في الأسر عند أيّ جهة كانت، هل تذهب لزيارته أم لا؟ وهل ذهابك لزيارته يعني قبولك بأسره وتنازلك عنه؟

أمّا السّؤال الصّعب فهو: هذه الجهات الّتي تتّهم كلّ من يقف على منصّة متحف محمود درويش أو غيره بالتّطبيع، لماذا تهلّل لكلّ من يقف على منصّاتها هي تحت مسمّيات كسر الحصار والمقاومة؟. هل المكان هو المشكلة أم الفعل نفسه؟

أجزم أنّ كلّ هذه الضّجّة الموسميّة لا تعدو كونها مناكفات شخصيّة تحت عناوين كبيرة لا أكثر. إذ لا يمكنك أن تبرّر مقولتك إلّا بوضعها تحت مظّلة واسعة ومقدّسة تسمّى الوطنيّة. من جهتي أرحّب بكلّ من تطأ قدماه أرض فلسطين، وأحترم كلّ من يشير بيديه نحوها من بعيد. لكلّ حقّه في الرّأي، بعيدًا عن هذا الكمّ اللّا مفهوم من الكراهية والتّخوين، والّذي لا يضرّ إلّا القضيّة نفسها.'

ليس أيّ تواصل!

الكاتب والصّحافيّ مجد كيّال - حيفا:

'لقضيّة تطبيع إسرائيل عشرات الجوانب الّتي يخصّنا منها هنا الاستخدام فارغ المضمون لمصطلح 'التّواصل'، والسّؤال الأساسيّ: كيف يمكن لمجموعة من النّاس أن تكرّر يوميًّا ذات الاستخدام المتحايل لهذا المصطلح، دون الحدّ الأدنى من الإثبات العقلانيّ للعلاقة بين حاجة الحضور المادّيّ لـلكاتب أو الفنّان العربيّ بلحمه من جهة، وبين تأثيره على إنتاجنا الثّقافيّ و/ أو وعي وثقافة المجتمع من جهة ثانية.

إنّ الدّعوة لتطبيع إسرائيل من خلال دخول العرب واللّاجئين للقاء الفلسطينيّين داخل الأراضي المحتلّة (وهي كلّ فلسطين)، هو النّقيض التّامّ للتّواصل مع الثّقافة العربيّة: (1) فذلك يعبّر عن جهل تامّ بطبيعة (وتركيب) المجتمعات في الوطن العربيّ، بما في ذلك نفور ورفض أغلبيّة المجتمعات العربيّة من وجود السّفارات الإسرائيليّة وأيّ تعاطٍ مع إسرائيل. (2) وصاحب هذا التّوجّه لا يرى أنّ التّواصل يجب أن يكون تواصلًا رغم أنف إسرائيل وقانونها، له ثمن وفيه تضحيات، إنّما من خلال إسرائيل وقانونها، وبالتّالي، (3) بنضال طويل نجح فلسطينيّو الدّاخل في أن يصحّحوا الموقف الخاطئ في الوطن العربيّ، الّذي قال إنّ 'كلّ تواصل مع فلسطينيّي الدّاخل هو جسر لتطبيع إسرائيل،' وللأسف، إنّ الدّاعين اليوم لزيارة الأراضي المحتلّة يهدمون هذا النّجاح ويؤكّدون على صحّة مواقف متطرّفة مؤسفة، تجاهلت المجتمع الفلسطينيّ طويلًا.

الثّقافة أوسع وأكبر وأعمق من عرض موسيقيّ في حيفا، وقراءة شعريّة في مقهى برام الله. مؤسف أن يتبنّى المثقّفون موقف سلطة أوسلو (راجع خطاب أبو مازن بهذا الشّأن)، ومؤسف أن يحصر المثقّف عقله بنشوة النّجوميّة اللّحظيّة بدل بناء مشروع حقيقيّ ينسجم بالفكر والسّياسة والنّضال التحرّري.'

شكرًا أنّك هنا

الكاتبة والمربّية شيخة حليوى – يافا:

'قد أكون رومانسيّة جدًّا وأنا أتابع، بدموعي المنهمرة، قدوم مثقّف عربيّ كبير لفلسطين، مثل الشّاعر العربيّ البحرينيّ قاسم حدّاد مؤخّرًا، وهو يتنكّر للفناء لأنّ فلسطين ضحكت له وقاعة الجليل حضنته في متحف درويش، وقد يكون هو واقعيًّا وهو يمرّ عن العلم الإسرائيليّ وعن جنود إسرائيليّين يذكّرونه بفنائه القريب، فينكسر للحظات ويهمس لنفسه: ألم نلقهم في البحر بعد؟ أم أنّ البحر قد رحل؟

أشكّ أنّ حدّاد ترك هناك، عند مروره عنهما (العلم والجنديّ)، اعترافًا ولو برمشة عين، بشرعيّة هذا الكيان، وعن نفسي أقول بثقة إنّني وأنا أبرز بطاقة هويّتي الزّرقاء لجنديّ آخر (أو ربّما نفسه، لا أعرف)، في طريق عودتي من رام الله إلى يافا، لم يراودني إحساس عابر بأنّ الفلسطينيّ يفنى تحت مظلّتهم.

أتذكّر جيّدًا أنّني اقتحمت وقفة خجولة لقاسم حدّاد وطلبت منه توقيعًا على أحد كتبه لحبيبة قلبي البعيدة، الفلسطينيّة التي تعيش في دبيّ، فكتب لها 'شكرًا أنّك هناك'.

نسيتُ أن أقول له بعد أمسيته الرّائعة: شكرا أنّك هنا، في حضرة فلسطين أوّلًا وآخرًا.'

بعيدًا عن الظّلم... والفخاخ أيضًا

الشّاعر عصام السّعدي – عمّان:

'أعتقد أنّ وصف كلّ زيارة يقوم بها مثقّف عربيّ إلى فلسطين بـ 'التّطبيعيّة'، وبأنّه مطبّع، أمر فيه ظلم كبير وتسطيح شديد، كما أنّ فيه إغفال لتعقيد الحالة الفلسطينيّة وما وصلت إليه من التباسات. كما أنّ استسهال الزّيارة دون أخذ الحذر من الوقوع في فخّ التّطبيع الّذي تزيّنه جهات فلسطينيّة وعربيّة، هو أمر مرفوض ولا يليق بمثقّف من واجبه أن ينحاز للرّواية الفلسطينيّة في الصّراع القائم على أرض فلسطين.

لا بدّ من التّفريق بين أمرين كي لا نقع في خطأ ظلم كلّ الزّائرين لفلسطين، وكي لا نقع في جريمة التّطبيع من بعضهم. فالزّيارة الّتي تأتي بفيزا دخول صادرة عن سفارات دولة الاحتلال هي زيارات تطبيعيّة، لأنّها تتضمّن الاعتراف بأنّ هذه الدّولة شرعيّة ولا غضاضة في التّعامل مع سفاراتها وقوانينها؛ أمّا الزّيارة الّتي تأتي من خلال تصريح يصدره الحاكم العسكريّ لفلسطين (يجري ذلك الآن من خلال السّلطة الفلسطينيّة)، فهي زيارة غير تطبيعيّة، لأنّها على العكس من الأولى، تتضمّن تأكيدًا على أنّ دولة الاحتلال تحتلّ أرضًا ليست لها، وتسمح للزّائر بدخول فلسطين بصفتها دولة احتلال تدير هذه الأرض.

 الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة هي المرجعيّة

الشّاعرة والصّحافيّة رولا سرحان – القدس:

'عند الحديث عن الموقف من زيارة الأدباء والمثقّفين والفنّانين لفلسطين، يجب أن ننطلق أساسًا من موقف مبدئيّ، ونبني عليه، وهو أنّه ما من شيء يبرّر التّعاطي الطّبيعيّ والعاديّ مع الاحتلال، أو وجود علاقات مفتوحة مباشرة معه، ضمن أيّ سياق كان، وهذا هو معنى 'التّطبيع'؛ لكنّ التّعاطي مع هذا المبدأ، تحكمه كذلك مجموعة من الضّوابط والمعايير الّتي حدّدتها لجنة الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثّقافيّة لإسرائيل، والّتي أرى أنّه يجب الاهتداء بها لإيجاد حلّ متوافق عليه، في سبيل التّعاطي مع قضيّة زيارة المثقّفين لفلسطين، والّتي أتت بعد جدل ونقاش مجتمعيّ مع مختلف الأطراف المعنيّة بالأمر. لذلك، لا أرى أيّ ضير من أن تكون هناك حالة من التّواصل الثّقافي الفلسطينيّ مع عمقه العربيّ من خلال زيارات إلى فلسطين، تحكمها المعايير الّتي حدّدتها لجنة المقاطعة الأكاديميّة والـ BDS.'