الست نفيسة

'ماني مرتاح لكلّ هاد يا أبو العيد. يعني بدّو يصاحب شلكة وبدّو يانا نضلّ حواليه.'

قال خلدون بصوت منخفض.

'اخراس وخلّيك بشوش. الله يقضي هاللّيلة عخير.'

ردّدتُ وضربتُ الجرس.

 فتحتْ امرأة غريبة بفستان ضيّق قصير الباب.

'مين إنتو؟ رفقات راني؟'

'إيه. أنا عديّ، وهاد خلدون.'

'شرّفو لشوف.'

تبعناها بصمت.

استقبلتنا رزان بقبلات حارّة. أخبرتنا أنّ راني سيتأخّر قليلًا. فستانها مكشوف الصّدر تقريبًا والسّيجارة لا تفارق شفتيها.

جلسنا مرتبكين حائرين، ما الّذي سنتحدّث به مع مثل هؤلاء النّسوة؟ أنقذنا التّلفاز: أحد أفلام هوليوود الكوميديّة على قناة MBC الثّانية.

كانت رزان وصديقتها ميسون تعدّان العشاء. أنهتا التّحضيرات وجلبتا المازّة والعرق.

'ميسون رفيقتي من زمان، بتشتغل معي بالشّركة هلّق.'

'يا هلا ميسون. أنا ابن عمّو لراني.'

'إيه خبّرتني رزان.'

حلّ صمت.

أضفتُ، 'وهاد خلدون رفيقنا من زمان.'

' أهلًا فيك وفيه.'

خرج خلدون إلى الشّرفة كي يكلّم صديقته على هاتفه الجوّال. حاولت أن أبدو مهذّبًا، فسألت رزان عن رحلتهم إلى مصر.

'الشّهر الجاية. بس جاي عبالي ألغي كلّ الطّلعة. قال مرتو لحسّان ما بتروح إزا أنا رايحة. شو هالحقارة.'

لم أعرف إن كان يجب أن أستفسر أكثر أم لا. زوجة حسّان تحتقر رزان وتعاملها كعاهرة.

'إزا مو زابطة معون أو وقتون ما بيسمح، طلعو لحالكون أو مع حدا تاني.'

'عديّ لا تجدبها. هي التّافهة مستلمتني عالطّالعة والنّازلة، وراني لازم يوقّف هالمسخرة.'

ابتسمتُ محرجًا. مع عودة خلدون، غيّرت رزان الموضوع.

كانت رزان 'صاحبة' راني وتعيش معه. عائلته تتجاهل الأمر، إلّا أنّهم يعتبرونني صلة الوصل. يكمن اعتراضهم في أنّ رزان مطلّقة، كما أنّها عاشت مع أبو الورد دون زواج بعد طلاقها، وقبل تعرّفها على راني. أنا شخصيًّا لم أكن مرتاحًا لرزان. كعائلته، كنت أشكّ أنّها تستغلّه، لكنّني قرّرت ألّا أتدخّل في حياته الشّخصيّة.

'عديّ ليش مانك مرافق؟ عين الله عليك شبّ بتاخد العقل.'

ابتسمتُ لرزان، أخبرني راني أنّها تريدني أن أصاحب ميسون.

'والله مافي سبب. هيك يعني ما كان في شي مناسب.'

على الرّغم من أنّني أخبرتُ راني بأنّني لا أريد أن أتورّط مع صديقات رزان، إلّا أنّ فستان ميسون جعلني أتراجع.

'وشو صار بيلّي كنت مرافقها؟ تجوّزت؟ مو هيك؟'

'انقبرتْ عقلبها وتجوّزتْ. شو بدّك بهالسّيرة؟'

يردّ خلدون، ' أنا طول عمري بقلّو البنت مو لابقتلّك. لأ وشو، قال أهلها حماصنة ما بيعطو حوراني.'

تبتسم ميسون، ' أي انشالله عمرون ما يعطو حوراني. يروحو يبطّلو جدبة قبل ما يتشرّطو. بسّ مو مبيّن عليك حوراني ابن الزّعبي؟'

يضحك خلدون ورزان بصخب.

'والله مو قصدي شي، بسّ عنجد مو مبيّن عليك.'

'خلص اسكتي اسكتي. فهمنا إنّك ما بتتحمّلي الحوارنة،' أردّ ضاحكًا.

'لك لا والله. بسّ خطيبي كان حوراني.'

يقاطعها خلدون، 'إيه من هون لكان عمتقولي مو مبيّن على عديّ إنّو حوراني. الحوراني الحقيقي رجّال حقيقي، مو نعنوع متل هالمدلّل.'

'لا تستلمو للشّبّ. عديّ زينة الشّباب،' تردّ رزان.

يصرّ خلدون على السّخرية من الحوارنة، فيما تدافع ميسون عن نفسها: لم تقصد كلّ الحوارنة، بل فقط البغل الّذي كان خطيبها.

مع المزيد من المزحات عن الحماصنة والشّوام والحلبيّة والدّروز، ثمّ عن زملاء راني في المكتب، أصبح الجوّ حميميًّا. ربّما كان لكأس العرق الثّاني تأثير علينا جميعًا، أيضًا.

كان خلدون يعبث بريموت التّلفاز، وانشغل بالكلام عن حسّان مرّة أخرى. ترك الرّيموت منغمسًا في النّميمة. على الشّاشة فيلم مصريّ بالأبيض والأسود. تشتّتَ تركيزي بين النّميمة عن صاحبة حسّان وبين عمر الشّريف يتذمّر أمام سناء جميل. أتعرّف على الفيلم سريعًا: 'بداية ونهاية'، عن رواية نجيب محفوظ الّتي تحمل الاسم نفسه، ومن إخراج صلاح أبو سيف. تقوم قصّة الفيلم على حياة أربعة إخوة وأمّهم، يحاولون أن يعيشوا حياة لائقة بعد وفاة الأب. ينحرف الأخ الأكبر، فريد شوقي، ليصبح تاجر مخدّرات ويعيش مع راقصة. الأخت، سناء جميل، تتحوّل إلى عاهرة؛ والأخ الأصغر، عمر الشّريف، ينهي دراسته ويدخل كلّيّة الشّرطة. في الفيلم أخ رابع أصغر من عمر الشّريف. على ما أذكر، لم يكن هذا الأخ موجودًا في الرّواية. أهزّ رأسي بانزعاج محاولًا أن أتذكّر تفاصيل الرّواية الّتي قرأتها منذ ثماني سنوات تقريبًا.

'بسّ حسّان صرلو مصاحبها كزا سنة. يعني أكيد مرتو مو هبلة لهالدّرجة،' تشرح رزان.

'كلّون بيعرفو يا خلدون. كلّ النّسوان بيعرفو. شبنا؟' تقول ميسون.

يرتبك خلدون؛ كان يفكّر بصاحبة أبيه. هل تعرف أمّه؟

يسحرني أداء فريد شوقي، 'وحش الشّاشة' بحقّ.

'يعني شلون بدّو يعرفو إنت ويّاها؟ إزا الرّجّال مخبّي وساكت من وين بدّون يعرفو؟'

'إنتَ مو متزوّج لسّا. بسّ تتزوّج بتعرف. بيعرفو من ريحتو، من دياقة خلقو، من سفراتو الكتيرة، من مزحة صغيرة بتنقال هون وهنيك.' تؤكّد ميسون.

شريط صغير أسفل الشّاشة ينعى نجيب محفوظ.

'والله ما اقتنعت. إنتو مفكّرين النّسوان عباقرة.'

كان فريد شوقي يعطي النّقود لعمر الشّريف، يقبّلها الأخير مضطّرًا.

'يا سيدي بقصّ إيدي إزا مرتو لحسّان مو دريانة. هي الحرباية بتعرف كلّ شي عميصير بكلّ بيت، ما رح تعرف شو عميصير ببيتها؟' تؤكّد رزان بنبرة واثقة.

'والله ما بعرف شو بدّي قلّك. هلّق إنتو من إمتى بتعرفو بصاحبتو لحسّان؟'

'من كزا شهر.'

تضحكان بخبث.

'مين مصاحب؟ والله على علمي انصلح بعد ما استقالت الموظّفة الشّقرا يلّي كانت عندو بالشّركة.' أعلّق بلا مبالاة.

'إنتِ خلّيك بحالك. ما خرجك لا نمّ ولا أخد وعطا. شو عاجبك بهالفلم الأبيض والأسود؟' تردّ ميسون بدلع.

أفكّر بعمر الشّريف. كان نجمًا قبل سفره إلى الغرب. هل هذا ما يدعوه المثقّفون بهجرة الأدمغة؟

'بتعرف إنّو صاحبة حسّان كانت مصاحبة عمّو لراني؟'

لم أكن أعرف هذه المعلومة. عمّ راني صاحب شركة سياحة وسفر ضخمة. أترك عمر الشّريف في مساعيه للحصول على وظيفة محترمة وأعود إلى النّميمة.

'والله ولا سمعان بهالقصّة. هاتو لنشوف. إمتى هالحكي؟'

'ضلّت معو شي 3 سنين. بسّ ما حدا دريان بالقصّة. وقت كانت متزوّجة من هاد العبقري سعيد.' تقول ميسون.

تنفجر رزان بالضّحك حين تسمع باسم سعيد.

يشحب خلدون قليلًا. كان سعيد ابن خالته؛ لم نسمع الكثير عن طلاقه. الآن توضّحت الأمور: صاحبة حسّان هي طليقة سعيد، الحسناء الغامضة. عمّ راني من أشهر رجال الأعمال في دمشق وأكثرهم تديّنًا واحتفاءً بالتّقاليد. كيف التقى بها وأين؟ أشعر بفضول لا أستطيع كتمانه، لكنّني أفكّر بتوتّر خلدون المرئيّ. أحاول تخفيف الاحتقان.

'قيمونا من سيرة حسّان وعمّو لراني. وينو هالمنظوم؟ حاكيه رزان.'

'حاضر'، تقول رزان بتفهّم.

تخرج رزان لتكلّم راني. بعد دقائق، يأتينا صوتها صارخًا لاعنًا. نفهم منها أنّه لن يأتي، وأنّ اليوم عيد ميلادها. تنتقل في لعناتها إلى مستوًى متدنٍّ جدًّا. أغمض عينيّ حين أسمعها تصف أمّه بالعاهرة بنت الكلب، وأباه بالقوّاد. تستمرّ حفلة الشّتائم دقائق طويلة، تتخلّلها مقاطع عن الفساد والرّشاوى والخيانات وسرعة القذف والحشيش.

يصلنا بكاؤها هستيريًّا ومن بعده باب غرفة النّوم يُصفع بقوّة.

تغادر ميسون الغرفة وتدخل غرفة النّوم. يعود صراخ رزان الهستيريّ مرّة ثانية أعلى ممّا قبل.

'عديّ، أنا ماشي. خراي عليك وع هالشّراميط وع الجوّ الزّبالة يلّي جايبني عليه.'

'لا تاكل خرا، مو كنت بدّك تصاحب بنت عمّها؟ هلّق ما عاد عجبك الجوّ؟'

'يا كرّ كان بدّي صاحب بنت عمها لأنّو بدّي آكل خرا نام مع شي مرا متل الخلق. شو أعملّك إزا ما فيك تنام مع حدا بهالبلد المسخرة غير من هالنُّمَرْ؟'

يأخذ خلدون علبة دخّانه ويغادر.

أبقى وحيدًا مرتبكًا. لطالما اعتبرت راني أعزّ أصدقائي، وأعتقد أنّه يفضّل لو أنّني بقيت لأفهم ما الّذي يجب فعله.

تأتي ميسون باحثة عنّا عندما تسمع صوت الباب الخارجيّ. أبتسم لها بتأدّب. تأتي خلفها رزان صارخة، 'راح الكلب التّاني. كلكون عرصات. ما عاد بدّو يقعد معنا ما؟ ما عرف يستنّى دقيقتين ليقول مع السّلامة؟'

'هو تلبّك شويّ إنّو شو يقول وشو يعمل.'

تقاطعني، 'كلكون أسفل من بعض. كان عميبوس كندرتي لآخدو مشوار مع نجوى. هلّق ما عاد يعرف يقعد يحكي كلمتين.'

مآقيها ملأى بالدّموع. عيناها حمراواتان كعرف الدّيك. شفتاها المنفوختان ترتجفان كشفتي ياسر عرفات. بدت رزان أقرب إلى عمرها الحقيقيّ ممّا تدّعيه: في الخامسة والثّلاثين وليست في الثّامنة والعشرين.

تجلس منهكة وهي تحدّث نفسها بعصبيّة.

'يا الله هلّق شو بدّي أعمل. وهلّق لوين يا رزان؟'

المشهد الأخير في الفيلم يبدأ مع زيارة الجنديّ للبيت. يطلب من عمر الشّريف أن يذهب معه إلى قسم الشّرطة.

يجفّ دمع رزان تدريجيًّا؛ تتنهّد بعمق.

يشعل ضابط الشّرطة سيجارة وهو يحدّث عمر الشّريف.

لا صوت من التّلفاز. يأتي صوت رزان بعيدًا، 'قال إمّو مريضة. اليوم مرضت. يوم عيد ميلادي مرضت. شوفو الصّدف.'

تواسيها ميسون متوجّسة. هل انفصلا؟

'إيه. خلص، قال ما عاد بدّو ياني. ما فيّو يضلّ مزعّل إمّو. وأنا بنت الكلب إنمحق. انشالله ستمية عمري.'

يأخذ الضّابط عمر الشّريف إلى الزّنزانة. السّتّ نفيسة هناك: عاهرة.

'بتعرف يا عديّ إنّو أنا بهالكم ليرة يلّي بطلعون بين شغلي وبين مساعدة راني عمبصرف على إمّي وإخواتي التّلاتة.'

أبتسم بأسى.

'إنتَ وراني وخلدون ما بتعرفو شو يعني الشّغل. وِلِد كلّ واحد منكون وبتمّو معلقة دهب. شويّة علاقات عشويّة شغل والله يتمّ عليكون عايشين وما في متلكون.'

تخرج السّتّ نفيسة من الزّنزانة مكسورة النّفس. يركبان التّاكسي.

'بتصاحبو وبتتسلّو وبعدين بتزتّونا وقت بدكون تتجوّزو. ما فيكون تتجوّزو وحدة من مستوانا. مو هيك يا عديّ؟'

لا أعتقد أنّها تنتظر ردًّا.

أصمت مأخوذًا بالفيلم.

'بسّ بتعرف، أنا حبّيتو لراني. كان عميبكي عالتّليفون. إنت بتعرف إنّو كان يحبّني. مو هيك؟'

'بعرف. ميشان هيك كنتْ بدّي ضلّ قريب منكون دائمًا.'

'بسّ قلّك إنّو ما رح ياخدني. صحّ؟'

' يعني لأ. الصّراحة قال بيشوف.'

' بيشوف شو؟'

'بتعرفي. أهلو محافظين ومتديّنين.'

'وأنا بنت كلب. ما؟'

'لأ. مو هيك'

'عديّ أنا ماني شرموطة. إنتَ بتعرف. أنا عشت مع أبو الورد لأنّو كنت بحبّو، ومع راني لأنّي بحبّو. إيه بدّي حدا يدعمني بالمساري. بسّ بعمري ما نمت مع حدا ما بحبّو. من بعد طلاقي ما حدا قرّب عليّي غير هدول التّنين. إنتَ بتعرف.'

تقف السّتّ نفيسة على حافّة الجسر. عليها أن تغسل العار.

'يا رزان، أنس مو بإيدو يعمل كلّ شي...'

'مو بإيدو. مو بإيدو. و أنا بنت السّتمية كلب؟ عديّ أهلي بيعرفو بعيشتي وما بيعاملوني عأساس إنّي شرموطة. بتعرف إنّو أخي الكبير يلي بالشّرطة ما عاتبني عشي. دائمًا بيطلّ عليّي. قال بضلّ أختو.'

تصمت لثوان، ثمّ تتابع، بصوت ميّت...

'بسّ ما بدّو حدا يعرف إنّو بيزورني. كلّ فترة بزورو بالبيت وبلعب مع ولاده.'

تغلق ميسون التّلفاز.

يرنّ هاتفي النّقّال. راني! أخرج إلى الشّرفة كي أكلّمه.

تقول رزان: 'إزا راني قلّو ما بدّي شي منّو. رح أترك البيت بآخر الشّهر وأنا بعرف دبّر حالي.'

يأتيني صوته باكيًا. يشرح لي عن الشّرخ في عائلته، عن أمّه المريضة، عن رضا الوالدين، عن عشقه لرزان، عن مستقبله المهنيّ.

تمتدّ 'قدسيا' التّعسة أمامي كخرابة بشعة تشبهنا جميعًا.

أردّد كلمات مواسية مُطَمْئِنة.

يطلب منّي الاعتذار لرزان وعرضه لها مساعدتها متى أرادت.

أعود إلى غرفة الجلوس لأجد ميسون وحيدة.

'رزان أخدت حبّتين منوّم وفاتت تنام.'

أشعل سيجارة، وأصبّ كأسي عرق، قائلاً بأمل:

'عندك مشكلة إزا كمّلنا السّهرة لحالنا؟'

'أكيد لأ. ما بدّي ضلّ لحالي اليوم.'

أشعل التّلفاز، فتظهر 'روبي' ترقص شبه عارية بحركات شهوانيّة.

تبتسم ميسون برقّة؛ ابتسامتها الصّافية لا يعكّرها ليل المدينة الدّامس الطويل.

 


[i]  من مجموعة 'نوافذ' لعديّ الزّعبي، والّتي ستصدر قريبًا.