حُلُم: يافا تغنّي قصائد فلسطينيّةً وسوريّةً عن الثّورات العربيّة

طارق خطيب، محمود أبو عريشة، أسماء عزايزة، محمّد قندس

خرجنا من حيفا السّاعة السّادسة من مساء يوم الجمعة، 22 نيسان (أبريل) 2016، باتّجاه مدينة يافا، وخلال السّياقة على طريق البحر جنوبًا، كنّا نستمع أنا وأصدقائي في السّيّارة إلى ألبوم فرقة 'مينا' الفلسطينيّة البرتغاليّة الصّادر مؤخّرًا.

وصلنا ميناء يافا عند الثّامنة مساءً، لحضور أمسية 'حُلم – نصوص في الرّبيع العربيّ' في مسرح السّرايا، والّتي سيشارك فيها كلٌّ من الشّاعرة أسماء عزايزة، والشّاعرين طارق خطيب ومحمود أبو عريشة، إلى جانب موسيقى وأغانٍ يقدّمها محمّد قندس من فرقة 'قرار' اليافيّة.

على المنصّة، جلس المشاركون الأربعة، من ثمّ افتتح قندس الأمسية بأغنية 'باسم السّلام' من كلماته وألحانه، ليقدّم أبو عريشة بعدها كلمةً قصيرةً، تحدّث فيها عن الفكرة من وراء تنظيم هذا الحدث، قائلًا: 'جاءت فكرة الأمسية مع قدوم فصل الرّبيع، والّذي يعيدنا إلى ربيع عام 2011، خضمّ الرّبيع العربيّ الّذي ألهم العرب والعالم بأسره. تساءلنا عن دور النّصّ الشّعريّ الفلسطينيّ في هذه الأحداث وموقعه. أين كان الشّعر من الفرح والألم؟ من الأمل والخيبة؟ وكيف عبّر عن كلّ ذلك أيضًا في سياق ما يعيشه الفلسطينيّون من نكبةٍ متجددّةٍ وانتفاضاتٍ متتاليّة. إذن، هو ربيع النّص والفكرة. هل ذهب الرّبيع عن فكرة ما نُحّيَ من الشّارع؟ تساءلنا للحظة.'

حضور الخارج في الدّاخل

انقسمت الأمسية إلى فقرتين، احتوت الأولى على قراءاتٍ لقصائد الشّعراء المشاركين فيها. بدأ أبو عريشة بقصيدةٍ عنوانها 'الأبيض'، ثمّ 'أفكّر باليرموك'، واختتم فقرته بمقاطع من قصيدةٍ طويلةٍ تحمل اسم 'المكان'. بعده، اعتلت المنصّة أسماء عزايزة وقرأت نصّين لها، 'لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب' وكذلك 'فرصٌ للنّجاة'، واختتم الفقرة الأولى، طارق خطيب، بأربع قصائد؛ 'ربيعان'، 'ربيعُنا'، 'من تعويذاتٍ لجنديّ منشقّ'، ثمّ بقصيدةٍ باللّهجة العامّيّة المصريّة بعنوان 'تسبيحة لمصر'.

محمود أبو عريشة

تميّزت هذه الفقرة بنصوصٍ دمجت الذّاكرة الموروثة وحياة الفلسطينيّين الحاضرة في ظلّ الاحتلال، وهي نصوصٌ حضرت فيها ذوات الشّعراء وتجاربهم الشّخصيّة في ظلّ الواقع العامّ الّذي يعيشه المكان. إلّا أّن أكثر ما ميّزها، حضور الواقع خارج فلسطين وخارج تجارب الشّعراء أنفسهم، كما يرونه هم، فحضرت سوريا واليمن ومصر  وثوراتها، وحضر مخيّم اليرموك المحاصر منذ سنوات في أبشع وأقسى أنواع الحصارات، معتمدةً، أي النّصوص، على ما ينكشف إليه الشّعراء من أخبارٍ وصورٍ يوميّةٍ، ومن أصدقاء لهم في البلاد المحيطة، أو أولئك الّذين يعيشون اليوم لجوءً، كانوا قد سمعوا عنه من آبائهم وأجدادهم، فيقرؤون عنه اليوم، ويسمعونه من أبناء جيلهم، من خلال نصوصٍ ومحادثاتٍ مجبولةٍ بالوجع والأمل والحلم، الحاضرة في نصوص الشّعراء الفلسطينيّين الّتي قُرِأَتْ في الأمسية، فاستطاعوا أن يحكوا عن الثّورات وعن الحرب الّتي لم يعيشوها فعليًّا، لكنّ نصوصهم وتجاربهم في هذا الحاضر، أكّدت على أنّهم جزءٌ منها، بنفس حقيقة أنّهم جزءٌ من المنطقة العربيّة، بثقافتها، تاريخها، آمالها، أحلامها، ثوراتها، خرابها الحاضر.

قصائد سوريّةٌ ولاجئة

قبل الانتقال إلى القسم الثّاني، قدّم محمّد قندس أغنيةً بعنوان 'بيت من رمل'، من كلماته وألحانه أيضًا. في هذا القسم، اختار الشّعراء المشاركون أن يقرؤوا نصوصًا لشعراء آخرين، فاختار جميعهم قصائد لشعراء سوريّين وفلسطينيّين سوريّين من أجيالٍ مختلفةٍ. فقرأ بدايةً محمود أبو عريشة بعض النّصوص للشّاعر السّوريّ نزيه أبو عفش، منها قصيدةٌ بعنوان 'الأبواب'، وأخرى بعنوان 'ربيع المآتم'، وقد تطرّق إلى سيرة الشّاعر الذّاتيّة، قائلًا: 'لنزيه أبو عفش نظرةٌ مختلفةٌ عن أحداث الرّبيع العربيّ؛ لم يؤيّد النّظام بشكلٍ مباشر، لكنّه تحدّث عن الجانب الإنسانيّ والمعاناة الإنسانيّة كما يراها هو.'

أسماء عزايزة

من ثمّ قرأت أسماء عزايزة نصوصًا لثلاثة شعراء؛ قصيدة 'جاءت الحرب يا جدّي' للشّاعر تمّام هنيدي (سوريا، مقيمٌ في السّويد)، وقصيدتي 'شارع 8' و'شارع 16' للشّاعر رائد وحش (فلسطين/ سوريا، مقيمٌ في ألمانيا)، وقصيدة 'في اللّحظة الّتي تسبق القذيفة' للشّاعر غياث المدهون (فلسطين/ سوريا، مقيمٌ في السّويد).

قالت عزايزة عبر صفحتها في موقع فيسبوك، عشيّة أمسية 'حُلُم': 'لم أستطع تحييد نصوص أصدقائي الّذين تركوا سوريا وراءهم، الّذين لم يكتبوا عن الحرب، بل كتبوها. سأقرأ للأصدقاء والشّعراء الجميلين غياث المدهون ورائد وحش وتمّام هنيدي. الحُلُم أنقى وأصدق في قصائدكم، شكرًا لكم ولها.'

ختامًا، قرأ طارق خطيب قصيدة 'أيّها السّائح' للشّاعر السّوريّ محمّد الماغوط، قائلًا قبل قراءتها: 'بحثت عن شعراء وكتّابٍ كتبوا الرّبيع العربيّ أو كتبوا عنه، ولم يسعفني نصّ أيّهم سوى ربيع محمّد الماغوط، الّذي مات قديمًا، والّذي كانت كتاباته ربيعًا ثوريًّا فكريًّا تمهيدًا لربيعٍ شعبيّ.'

أضافت هذه الفقرة من الأمسية الكثير لها، حضور أصواتٍ شعريّةٍ من خارج فلسطين، تلك الّتي يعرفها معظم الحاضرين، وتلك الّتي تعرّف عليها، لا سيّما الّتي رحلت عن وطنها، وتلك الّتي رحلت مرّتين، مرّةً بذاكرة أجدادها عن فلسطين، واليوم بذاكرتها هي عن سوريا. كان سيضيف أكثر للأمسية حضور أصواتٍ شعريّةٍ من أماكن أخرى؛ من تونس واليمن ومصر وغيرها، لكن مع ذلك، وفي ظلّ اختلاف الأصوات الشّعريّة وتجاربها المتنوّعة في المنطقة، فإنّ الوجع والحُلُم الحاضرين في النّصوص، هما ذاتهما، في فلسطين وسوريا والبحرين وليبيا والسّودان.

إنّها يافا

لزيارة يافا نكهةٌ خاصّةٌ، هي الّتي تبعد عن حيفا مسافة حوالي ساعة. كنت قد قلت يومًا إنّني حين أزورها، أخاف على مدينتي عكّا أكثر. أخاف أن يأتي اليوم الّذي يبقى من رائحتها الحقيقيّة، حجارةٌ وبيوتٌ جميلةٌ ووجعٌ أكثر، لا غير... في ظلّ محاولات التّهويد وشراء البيوت المستمرّة. لكنّني كلّما زرتها، فاجأتني... فاجأني أهلها وكلّ من ذهب إليها ليسكنها، فسكنته بالعمق. كأنّ قتلها المتعمّد والمستمرّ منذ احتلالها إلى يومنا هذا، يجد له دومًا معادلات أملٍ بتفاصيلَ بسيطةٍ، يعطيك إيّاها المدينةُ وناسها.

طارق خطيب

الحضور الّذي وصل الأمسية، معلّمة اللّغة العربيّة اليافيّة الّتي خرجت بعد انتهاء الأمسية تبحث عن الشّعراء واحدًا واحدًا لتعبّر عن إعجابها بما قرأوا من نصوصٍ لهم أو لآخرين، الآخرون الّذين دوّنت بعضًا من أسمائهم وذهبت لتستفسر عن الّتي لم تسمع أسماءهم جيّدًا... كما ذهبت لتطلب من طارق خطيب قصيدته المصريّة، لتحتفظ بها. وهي تردّد كلّ الوقت: 'لا أستطيع أن أفوّت أمسية شعرٍ واحدة.'

الرّجل الّذي جلس بعيدًا عنّا بعد الأمسية، كان يحمل هاتفه النّقّال ويسمع أغنية 'فكّروني' لأمّ كلثوم.

الشّباب اليافيّون الّذين جلسوا في الحانة الّتي ذهبنا إليها بعد الأمسية، وحين عرفوا أنّني قادمةٌ من عكّا، من مدينة  البحر الّتي يعشقونها كما يافا، أرسلوا لي تحيّاتهم من بعيد: 'بصحّة أهل البحر'، قالوا بصوتٍ عالٍ.

الأصدقاء الّذين عزفوا على العود، موسيقى وأغاني من مصر ولبنان وسوريا والعراق... الأصدقاء الّذين أكملوا قراءة قصائدهم. صاحب الحانة وصوته الجميل، الّذي ردّد معنا الأغاني وهو يحضر المزيد من الكؤوس والأكل للزّائرين.

وطريق العودة إلى حيفا... كلّ هذه التّفاصيل جديرةٌ بأن تدوس على الأنياب المتربّصة عند شاطئ يافا، كلّما لمحت حياةً ما في المدينة الّتي أرادوا قتلها، قتلوها نعم، لكنّها لم تُقتل أيضًا.