غسّان في الثمانين

غسّان كنفاني

 

بتغييرات بسيطة في القدر، ومتكرّرة، كأن يحزر غسّان كنفاني أنّ سيّارته مفخّخة قبل ركوبها، وأن يحزر كذلك كلّ محاولة اغتيال له كانت ستتلو محاولة تمّوز 1972. بتغييرات بسيطة ومتكرّرة كهذه، كان يمكن لغسّان أن يكون اليوم بيننا، وأن يطفئ شمعته الثّمانين، ويترك المحتفلين به ليكمل ما كان يكتبه، قد تكون روايته الثّلاثين، أو ليراجع سيرة حياته الّتي كتبها في ألف صفحة، بفصولها الّتي تحكي عمّا يتذكّره من محاولات الاغتيال البائسة، وكيف حزر في كلّ مرّة متى وأين ستكون، فتجنّبها.

بتغييرات بسيطة في القدر أمكن لغسّان الّذي ما عرفه جيلُنا غير فكرة وكلمة وصورة، أمكن أن يكون واقعًا، ليس حلمًا، واقعًا نقرأ مقالاته عن الشّاشة كلّ أسبوع...

بتغييرات بسيطة في القدر أمكن لغسّان الّذي ما عرفه جيلُنا غير فكرة وكلمة وصورة، أمكن أن يكون واقعًا، ليس حلمًا، واقعًا نقرأ مقالاته عن الشّاشة كلّ أسبوع، ونقرأ ما ألّفه من كتب في الأربع وأربعين سنة الّتي تلت اغتياله.

في الثّمانين، سيكون غسّان قد توقّف عن التّدخين واستمرّ في الشّرب، يكاد ينسى أنّه مصاب بالسّكّري، لن يكترث لذلك. لن ينال منه السّكري طالما وُجِدَ من يفكّر في اغتياله، ولن يغتاله أحد طالما يحزر دائمًا كيف ينجو، يقول لأصدقائه. سيكتب وكأسه إلى جانبه، سيكتب على 'لابتوبّه'، سيتوقّف عن الكتابة بالقلم باكرًا جدًّا. في الثّمانين سيفضّل برنامج 'البيجز' وليس 'الوورد' للكتابة، وسيناقش أحد أحفاده في ميزات 'البيجز' عن 'الوورد'.

في الثّمانين سيجد في 'إيميله' عرضَ دار نشر صينيّة لترجمة كتابه السّيَريّ عن جورج حبش، الّذي بدأ بكتابته بعد رحيل الأخير، بعدما اكتفى من البكاء عليه. سيجد في 'إيميله' صورًا له أرسلها ابن لميس، ابنة أخته، سيختار منها أين يجد نفسه أكثر وسامة وأناقة، أين يبتسم وينظر مباشرة إلى الكاميرا، أين كانت ذقنه حليقة وشارباه ناصعين مشذّبين، سيختارها ويرسلها إلى 'إيميل' زوجته آني، سائلًا رأيها عن هذه الشّبوبيّة في الثّمانين.

سيكتب في عيد ميلاده الثّمانين فصلًا في واحدة من الرّوايات الّتي سينهيها كلّها تباعًا، في الثّالث والثّمانين قد ينتهي منها كلّها ويقرّر الاستراحة تمامًا من الكتابة، ثمّ يتراجع عن قراره بعد أسابيع. سيكون قد توقّف عن الرّسم واستبدله بالتّصوير، سيصوّر كلّ أقاربه وبعض معارفه، سيحوي في 'لابتوبّه' الكثير من 'البورتريهات'، يقلّبها بين يوم وآخر. قد ينهي اليوم بكتابة مقالته الأسبوعيّة الّتي لم يتوقّف عن كتابتها منذ السّتّينات.

سيكون غسّان أباهم، سينتبه إليهم، سيكونون أبناءه، هؤلاء الخارجين إلى لجوء جديد وأولئك الباقين في المخيّمات، وقد تخلّت عنهم الفصائل كلّها، وقد نعتهم رفاق غسّان السّابقين بالأفغان...

في الثّمانين، في نيسان 2016، سيقرأ أخبارًا عن حصار مخيّم اليرموك، بل تشديد الحصار القائم أصلًا، من جيش النّظام السّوريّ من جهة، ومن جبهة النّصرة وداعش من الجهة الأخرى. سيكتب مقالته الألف عن فلسطينيّي سوريا، عن المهجّرين منهم والباقين في المخيّمات والمدن السّوريّة، سيقول للعالم، وقبلهم لفلسطينييّن آخرين، وللعرب، إنّ هؤلاء فلسطينيّون، إنّهم ليسوا أقلّ فلسطينيّة من غيرهم، إنّهم تلقّوا المأساتين المكتملتين، تلقّوهما تامّتين، الفلسطينيّة في النّكبة حين تهجّر أجدادهم وتشرّدوا وأقاموا المخيّمات، والسّوريّة اليوم حين تهجّروا هم كما أجدادهم، إن نجوا من القتل والحصار أصلًا، تهجّروا من مخيّمات أهاليهم إلى مخيّماتهم الخاصة، إلى لجوئهم الخاصّ، في ألمانيا وهولندا والسّويد وفرنسا وكلّ العالم، مبتعدين جدًّا عن مكانهم الأصليّ.

سيكون غسّان أباهم، سينتبه إليهم، سيكونون أبناءه، هؤلاء الخارجين إلى لجوء جديد وأولئك الباقين في المخيّمات، وقد تخلّت عنهم الفصائل كلّها، وقد نعتهم رفاق غسّان السّابقين بالأفغان، رفاقه في الجبهة الّتي سيكون غسّان قد غادرها منذ زمن، ولم يعد يطيق سماع اسمها في السّنوات الأخيرة.

قد يؤجّل غسّان بعض كتاباته، سيتأخّر في بعض رواياته غير النّاجزة، سيؤجّل البدء بأخرى، وسيحكي كثيرًا مع الأهالي في اليرموك وغيره من المخيّمات، له معارف كثر في المخيّمات جميعها، لا أحد غيره يسأل عنهم، سيخبرونه بأنّهم بخير طالما كان هو بخير، وبأنّهم يقرؤون ما يكتب من أجلهم، سيطلبون منه أن ينتبه إلى صحّته وأن يحزر دائمًا ما يُحْضَّر له، وألّا يتوقّف عن الاتّصال بهم.

سيكتب غسّان عن هؤلاء الفلسطينيّين، سيقول بغضب إنّ الفلسطينيّين الآخرين يعدّونهم سوريّين، وإنّ السّوريّين يعدّونهم فلسطينيّين، سيقول إنّ كلًّا من هؤلاء يرميهم على الآخر، وإنّ أهله عبء على الجميع، وإنّ النّظام السّوريّ يحسبهم على المعارضة فيحاصر ويقصف ويعتقل منهم، وإنّ المعارضة تحسبهم على النّظام، تأخذهم بجريرة الفصائل. سيكتب كثيرًا ويقول إنّهم يضحّون كالسّوريّين وقبلهم كالفلسطينيّين، إنّهم، من بين هؤلاء جميعًا، الأكثر شعورًا بالغبن، إنّهم الأكثر تهميشًا من بين السّوريّين وكذلك من بين الفلسطينيّين، سيُعَنوِن واحدة من مقالاته بـ: لسنا لقطاء.

في الثّمانين، لو كان حيًّا، لو حزر غسّان أنّ سيّارته في تمّوز كانت مفخّخة، وحزر ذلك ألف مرّة تلتها، لأمكننا اليوم عزاء أنفسنا، نحن أقلّيّة الأقلّيّة في هذا العالم...

سيقول 'لسنا'، سيكون واحدًا منهم، سيكتب في ذلك، سيكتب الكثير من المقالات عن ذكرياته في مخيّمات سوريا، سيقول للعالم إنّ هؤلاء، فلسطينيّي سوريا، عُصارة القضيّتين، الفلسطينيّة والسّوريّة، إنّهم حيث يمكن للظّلم أن يظهر بأقسى صوره. سيكرّر ما كتبه قبل سنوات طويلة، أنّ العالم يسحق العدل بحقارة كلّ يوم، قد ينهي بها واحدة من مقالاته الأسبوعيّة، مشيرًا إلى أنّ العالم، منذئذ وحتّى اليوم، ما زال يسحق العدل، وما تزال حقارته في ذلك تزداد، وأنّ حديثه ما زال عن المخيّمات.

في الثّمانين، لو كان حيًّا، لو حزر غسّان أنّ سيّارته في تمّوز كانت مفخّخة، وحزر ذلك ألف مرّة تلتها، لأمكننا اليوم عزاء أنفسنا، نحن أقلّيّة الأقلّيّة في هذا العالم، بالقول إن ليس لنا غير غسّان، لاكتفينا به واكتفى بنا.