الكتابة حتّى الورقة الأخيرة

سميح القاسم، فدوى طوقان، إميل حبيبي، ربعي المدهون، إبراهيم نصر الله، محمود درويش

لقد كان وعي المثقّف الفلسطينيّ بالصّراع الثّقافيّ، باعتباره نقطة ارتكاز مهمّة في الصّراع الوطنيّ الشّامل، وعيًا مبكرًا؛ فبالرّغم من أنّه قد يبدو في مجمله ردّة فعلٍ فرديّةٍ على الأحداث الحاسمة، إلّا أنّه كان يرسم الحدود الأولى في خريطة أدبيّة متأنّية توالت إصداراتها وإنجازاتها لتبلغ مناطق بعيدة جدًّا على المستوى الرّوائيّ والشّعريّ، تَمَثّلَ آخرُ، وربّما أوجُ، أصدائها العالميّة، في فوز الرّوائيّ الفلسطينيّ، ربعي المدهون، بجائزة 'البوكر' لهذا العام.

مراحل

يمكن تصنيف الأدب الفلسطينيّ كما ورد في كتاب د. محمد الجعيدي، 'مصادر الأدب الفلسطينيّ الحديث،' في أربع مراحل: الأولى تبدأ مع النّهضة الحديثة حتّى عام النّكبة، 1948، والثّانية من 1948 حتّى نكسة 1967، والثّالثة من 1967 حتّى 1987، أي بداية انتفاضة الحجر الفلسطينيّ، والّتي استمرّت خمس سنوات، لتتجدّد في انتفاضة القدس والأقصى عام 2000. وإذا جاز لنا أن نقسّم الأدب الفلسطينيّ إلى قديم وحديث، فإنّ القديم هو ما كان قبل النّكبة. وقد كتب الرّوائيّون الفلسطينيّون منذ النّكبة حتّى عام 2010 ما يزيد عن 600 رواية، تناولوا في جزء كبير منها النّكبة وتداعياتها، وكان القديم تحذيرًا ممّا سيأتي؛ فكان الأدباء الفلسطينيّون كأنّهم يرون المستقبل القاتم، إذ توقّعوا العواصف والزّلازل والانهيارات. وكان على رأس هؤلاء من الشّعراء إبراهيم طوقان، الّذي يخاطب في قصيدته الزّعماء ساخرًا:

وبــيــــانٌ منكم يعــادلُ جيــشًا بمعــدّاتِ زحفِــهِ الحربيّــة

واجتمـــاعٌ منكم يــردُّ علينا غابرَ المجدِ مِنْ فتــوحِ أميّــة

وخلاصُ البلادِ صارَ على البابِ وجاءتْ أعيـادُهُ الورديّة

ما جحدْنا 'أفضالَكم' غيرَ أنّـا لم تزلْ في نفوسِنــا أمنيّـة

في يديْــنـا بقيّةٌ منْ بلادٍ فاستريـحـوا كيْــلا تطيـرَ البقيّـة

القصيدة السّجلّ

واستمرارًا لهذا النّهج الشّعريّ الّذي ساد طويلًا في تلك الفترة، انعكاسًا للسّخط والبؤس في الشّارع الفلسطينيّ، قدّم شعراء كثرٌ مثل عبد الرّحيم محمود وأبي سلمى، نماذج مهمّة كانت في مجملها استشرافات وبيانات لغويّة تدعو الجميع إلى الحذر. يقول عبد الرّحيم محمود مخاطبًا الملك سعود بن عبد العزيز خلال زيارة للمسجد الأقصى:

المسجــدُ الأقصــى أجـئـتَ تــزورَهُ *** أمْ جئـتَ منْ قـبلِ الضّيـاعِ تودّعُـه

وغدًا، وما أدناهُ، لا يبقــى ســــوى *** دمـعٌ لنـا يَهْمـي وسِـنٌّ نــقــرعُـــه

وهؤلاء الشّعراء جعلوا من شعرهم تسجيلًا للمواقف الثّوريّة المختلفة في فلسطين، وجعلوا منه اعتراضًا واحتجاجًا على المواقف المتردّدة والمتخاذلة. ويمكننا أن نستخرج كثيرًا من دواوين هؤلاء الشّعراء، فلقد قدّموا فيها الشّعر والتّاريخ في نفس الوقت، فشعرهم ليس مجرّد تعبير وجدانيّ عن النّضال، بل هو وثائق تاريخيّة لهذا النّضال، وهو أحيانًا تسجيل يوميّ لأحداثه المختلفة. وقد تطوّر هذا الشّكل الشّعريّ الثّوريّ، ليس على مستوى المضمون فحسب، بل على المستوى الشّكليّ أيضًا، وفي هذا مواكبة مهمّة للمستجدّات الوطنيّة أوّلًا، والعالميّة ثانيًا. ولذلك يمكن أنّ نعدّ سميح القاسم ومحمود درويش، مثلًا، المجدّدين الأصيلين الرّئيسيّين في القصيدة الفلسطينيّة، والّتي نقلت هموم الشّعب من مجرّد تهاويم محلّيّة إلى مراتب عالميّة، لتُترجم وتُدرّس وتُغنّى، ولتصير منشورات ثوريّة عامّة موجّهة إلى جميع المواطنين، لا إلى المثقّفين والمشتغلين بالأدب فقط، وما ثنائيّة درويش ومرسيل خليفة إلّا دليلًا جليًّا على ذلك.

ونضمّ إلى هؤلاء الشّعراء كلًّا من هارون هاشم رشيد، وحنّا أبو حنّا، وراشد حسين، وتوفيق زيّاد، ومعين بسيسو، وفدوى طوقان، وغيرهم.

تشتيت المشروع الرّوائيّ

أمّا الرّواية الفلسطينيّة، فقد كانت الشّاهد الأكبر والأكثر شمولًا لكلّ الأحداث والاضطّرابات المفصليّة؛ ورغم أنّ هذا اللّون الأدبيّ لم يكن شائعًا على المستوى العربيّ، كونه جنسًا أدبيًّا غربيًّا، لم يكن قد رسّخ أساساته وبيّن ملامحه حتّى وقت متأخّر، إلّا أنّ الرّوائيّين الفلسطينيّين كانوا سبّاقين إليه، إذ أصدر خليل بيدس روايته الأولى 'الوارث' عام 1920، أي بعد ما يقارب ستّ سنوات فقط من إصدار محمّد حسنين هيكل  لما عُرِفَ بالمحاولة الرّوائيّة الأولى عربيًّا، بإجماع معظم النّقاد، ألا وهي  'زينب'، عام 1914. ومن ثمّ قام خليل بيدس نفسه بنشر مجموعة قصصيّة بعنوان 'آفاق الفكر' في القاهرة عام 1924، وبعدها بسنوات قليلة صدرت رواية جمال الحسينيّ، 'على سكّة الحجاز' عام 1932، ثمّ رواية إسحاق موسى الحسينيّ، 'مذكّرات دجاجة'، عام 1943، والّتي قدّم لها د. طه حسين. ومن ثمّ جاءت محاولات جبرا إبراهيم جبرا في أواخر الثّلاثينات من القرن الماضي، عبر مجموعة من القصص القصيرة، لتحلّ بعدها بسنوات قليلة نكبة ثمانية وأربعين والمشروع الرّوائيّ الفلسطينيّ ما زال في بداية رحلته، الأمر الّذي أحدث هزّة قويّة للأسس الأولى في المشروع، وشتّت خطاه بتشتّت روّاده في المنافي؛ هذا بالإضافة إلى أنّ من بقي منهم داخل الوطن أَسَرَته الصّدمة حينًا من الدّهر، قبل أن يستفيق من هولها والتّعاطي مع تداعياتها، لا سيّما أنّ الكتابة الرّوائيّة تحتاج إلى فترة نضج واختمار قبل الشّروع فيها.

غسّان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، خليل بيدس، إبراهيم طوقان، عبد الرّحيم محمود، أبو سلمى

حظيت رواية 'مذكّرات دجاجة' لإسحق موسى الحسينيّ باهتمام خاصّ، ليس فقط لريادتها الزّمنيّة في المشهد الرّوائي الفلسطينيّ إلى جانب رواية 'الوارث'، إنّما لعلاقة موضوعها  بالأحداث السّياسيّة في الأربعينات، إذ تناولت وجهة نظر وطنيّة معارضة لما كان يسود آنذاك، ما حمّلها دلالات سياسيّة وأبعادًا وتأويلات ربّما هي أعمق حتّى ممّا أراد المؤلّف نفسه.

حَطِّموا الباب

وفي مقابل إعطاء سميح القاسم ومحمود درويش الشّعر الفلسطينيّ الزّخم والتّجديد والعالميّة، يمكن القول إنّ الرّوائيَّيْن إميل حبيبي وغسّان كنفاني، كان لهما الدّور الأبرز في تطوير الرّواية الفلسطينيّة. فعلى الرّغم من اختلافاتهما في الأدوات الأسلوبيّة واللّغويّة والفنّيّة، إلّا أّن هدفهما البعيد في الحفاظ على الهويّة من الضّياع في مرحلة حاسمة جدًّا من التّاريخ الوطنيّ، كان واحدًا؛  فعند غسّان كنفاني نجد صراع الأنا مع الآخر يبرز بشكل طاغٍ، وفي روايته، 'رجال في الشّمس'، نلاحظ رفض مظاهر الإحباط والمرارة والهزيمة الّتي سيطرت على النّفوس منذ نكبة عام 1948، حيث يصيح في النّهاية بشكل دراميّ إلى الفلسطينيّين الّذين اختاروا الهروب من الهزيمة بتجنّبها، ومن ثمّ سقطوا مجّانيًّا في أوّل الطريق. ونلاحظ في عدد من روايات كنفاني التّركيز على رمز الباب الّذي يدلّ على الحدّ الفاصل بين الضّوء والظّلام، فالباب يرمز إلى الهزيمة، أمّا تحطيم الباب فيرمز إلى الوعي، وهو ما فعلته الانتفاضة ورآه كنفاني بنفسه قبل أن يستشهد.

من ناحية أخرى، نجد هذه النّهاية المتوقّعة بالانفجار الثّوريّ في رواية 'المتشائل' لإميل حبيبي، فقد دعا في نهاية هذه الرّواية إلى عدم انتظار الرّجل المعجزة الّذي لن يأتي من الخارج، إنّما من الاعتماد على الذّات. ولا نترك الرّواية دون أن تعلق في أذهاننا صورة أولئك النّاس العاديّون الواقفون ينتظرون قدوم هذه المعجزة، ويشاهدون المرأة الّتي ترفع رأسها إلى السّماء وتشير نحوهم وتقول: 'حين تمضي هذه الغيمة تشرق الشّمس.' وقد أشرقت الشّمس، فعلًا، بالانتفاضة.

الحفر مستمرّ

ورغم أنّ الرّواية الفلسطينيّة الحديثة قد تبدو انعكاسًا لتطوّر الرّواية العالميّة في موضوعها الّذي قد يبدو بعيدًا نوعًا ما عن الهمّ الوطنيّ، إلّا أنّ هناك العديد من الّروايات التي ما زالت تحفر عميقًا في الذّاكرة بصفتها أرشيف الآلام الأوّل، الّذي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تجاهله، وهذا ما يبدو جلّيًّا في أعمال إبراهيم نصر الله، لا سيّما في ملحمته 'زمن الخيول البيضاء'، وصولًا إلى رواية ربعي المدهون، 'مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنّكبة'، الّتي وصل بها إلى قمّة الهرم الرّوائيّ العربيّ، وهي رواية الفلسطينيّين الّذين هُجّروا من أرضهم إلى المنفى الكبير ثمّ راحوا يحاولون العودة بطرق فرديّة إلى بلادهم المحتلّة.

ومن المثير للسّخرية حقًّا، أنّ هناك من يروي عن جولدا مائير قولها: 'لو كان الفلسطينيّون شعبًا، لكان لهم أدب.' فلم يكن تأثير الأدب الفلسطينيّ مقتصرًا على المشهد المحلّيّ والعربيّ فحسب، إنّما امتدّ تأثيره إلى الأدب الإسرائيليّ كذلك، فبعد عشرات السّنين من الرّاحة الّتي شعر بها الاحتلال بسبب تبنّي روايته لأحداث النّكبة في العديد من دول العالم، لا سيّما تلك الدّول الّتي ساهمت في صناعة النّكبة الفلسطينيّة، أصابها القلق في أعقاب الكتابات الّتي نشرها مؤرّخون يهود، فنّدوا فيها الرّواية الصّهيونيّة وأكّدوا صدق الرّواية الفلسطينيّة لأحداث النّكبة والمجازر الّتي ارتُكِبَت بحقّ الشّعب الفلسطينيّ. يقول المؤرّخ آفي شليم، وهو يهوديّ عراقيّ نشأ في الأراضي الفلسطينيّة وعاش معظم حياته في بريطانيا الّتي يحمل جنسيّتها، إنّه يشعر بذنب مضاعف تجاه الفلسطينيين، قائلاً: 'كإنجليزيّ، أشعر بالخجل من سجلّ بلدي المذهل في النّفاق والخيانة، وذلك عند النّظر في كلّ مسافة الزّمن للوراء وصولًا لوعد بلفور عام 1917، وكـ ’إسرائيليّ‘، أنا مثقل بالشّعور العميق بالذّنب الثّقيل بالنّظر إلى الظّلم والمعاناة الّتي سبّبها شعبي للفلسطينيّين على مدى السّتّين سنة الماضية.'

إنّ فعل الكتابة الّذي يتوقّف عند كونه فعلًا أدبيًّا مجرّدًا، لا يمكن أن يسطع بريقه ولا أن يكون مؤثّرًا على المستوى الجمعيّ؛ فالحفاظ على أهداف الكتابة في القتال الوجوديّ مقابل المحو، والمقاومة الجماليّة مقابل القبح المتمثّل في شكل احتلال قاهر لا يتورّع عن استخدام أقسى أنواع التّهجير والممارسات الاحتلاليّة الفاضحة والمقنّعة، هو فعلٌ مهمّ تمامًا بقدر كافّة أشكال المقاومة الأخرى؛ ومن هذا المنطلق فإنّ الأدب الفلسطينيّ منذ النّكبة كان وما زال يجمع المفاتيح في المنفى والوطن ليصنع منها فسيفساء تمثّل عودتنا الأكيدة إلى البيت.

تُنشر هذه المقالة ضمن ملفّ مِفْتاح، الّذي أعدّته مجلّة فُسْحَة لمناسبة الذّكرى الـ 68 لنكبة الشّعب الفلسطينيّ عام 1948، ويشارك فيه عددٌ من الكتّاب والمختصّين الفلسطينيّين.