عن الكتابة من خارج المكان والزمان | شهادة في الرواية

أنور حامد

بدأت الكتابة الروائيّة خارج المكان، فكانت علاقتي به عبر المشاعر والذاكرة، والكثير الكثير من الأبحاث التي أجريتها، والشهادات التي جمعتها قبل الشروع في كتابة كلّ عمل روائيّ؛ لذلك، فأنا أقدّم، هنا، شهادة عن تجربتي الخاصّة.

بين درويش وشاندور

للكتابة من خارج المشهد، زمانيًّا ومكانيًّا، ميزة، هي إمكانيّة رؤيته بدرجة أكبر من الموضوعيّة الإبداعيّة. حين تكون منغمسًا فيه، ربّما يكون أصعب عليك الانفلات من التأثير الذي يخلقه التماس مع عناصره، وربّما كان من الصعب عليك أن تنظر إليه من زوايا مختلفة. وحين تبتعد عنه وتنغمس في مشهد مغاير، فإنّك تكتسب معارف إضافيّة وأساسًا للمقارنة، ربّما ساعدتك على التحرّر من النظرة الأحاديّة للأمور.

بداية إقامتي في المجر، والتي شهدت بداية كتاباتي الروائيّة، حصلت معي حادثة كانت بمثابة صدمة لي، لكنّها وضعتني على بداية الطريق الرماديّ، طريق تعدّديّة الاحتمالات، وقلّة التشنّج، والحرص على التأمّل بحياديّة.

شاندرو بتوفي (1823 - 1849)

الزمان: 1982، سنة الاجتياح الإسرائيليّ للبنان وخروج المقاومة الفلسطينيّة منه؛ حالة الضياع والخوف من المجهول وانعدام الثقة بالمستقبل، التي كانت تنتاب الفلسطينيّين. كنت أحضر أمسية تضامنيّة في بودابست، وكان ممثّل مجريّ يلقي قصيدة محمود درويش: 'سجّل أنا عربي'، على نحو رائع. كان بصحبتي صديق مجريّ، بعد انتهاء الممثّل من إلقاء القصيدة سألني: هل هذه القصيدة لشاعر معروف عندكم؟ قلت بفخر: نعم، هو الأفضل! قال باستغراب: لكن هذا ليس شعرًا... هذه خطابة!

أحسست بإهانة، وبدأت أتحدّث معه بانفعال عن محمود درويش وشعر المقاومة، لكنّه لم يقتنع. بعد بضعة سنوات، وكنت قد تعلّمت اللغة المجريّة بمستوًى يساعدني على فهم الشعر، كنت أحضر حلقة دراسيّة عن الشعر المجريّ، وكنّا نحلّل قصيدة بعنوان: 'أغنية وطنيّة'، لأحد كبار شعرائهم، واسمه شاندور بتوفي، كتبها أثناء ثورة عام 1848، يقول فيها: 'أعبيدًا نبقى أم نصبح أحرارًا؟ هذا هو السؤال، أجيبوا عليه. نقسم بإله المجريّين أننا لن نبقى عبيدًا'.

لم أفهم لماذا تحظى هذه القصيدة بكلّ هذا الإعجاب، ولم أجد فيها أيّ شعريّة، ثمّ فهمت! فهمت عدم استيعاب صديقي لقصيدة درويش، وعدم اقتناعي بعظمة قصيدة شاندور. فهمت أنّ السياق يضفي قيمة معرفيّة، وربّما عاطفيّة، على الشعر. وإن غاب السياق، فلا بدّ من تعويضه بخطاب يرتكز على قيم كونيّة، تجد صدًى لها عند القارئ في كلّ مكان.

براثن النوستالجيا

وجودي بعيدًا عن المشهد هو ما ساعدني على فهم هذا، وكان له دور حاسم في تشكيل وعيي وصوتي السرديّ. أنت، مبدعًا، تنقل صورة للآخر، المتلقّي، أيًّا كان انتماؤه؛ فإن كان المتلقّي داخل المشهد الذي تنقله، فمن حقّه عليك أن تلتقط عناصر يصعب عليه، ربّما، أن يراها من داخله، وكذلك من حقّه عليك أن تنزع الألوان والمشاعر عن جزئيّات المشهد، وتقدّمه له على نحو قابل للتأمّل المجرّد والمساءلة. أمّا إذا كان المتلقّي خارج المشهد، فهو يتوقّع منك أن تقدّم له رؤية متجرّدة، وأن تعطيه الفرصة للتفاعل معها، والخروج برؤيته الخاصّة.

محمود درويش (1941 - 2008)

أمّا البعد الزمنيّ، والذي يحيلك إلى الذاكرة، وقد يوقعك في براثن الحنين، فهو سلاح ذو حدّين؛ يمكن، من جهة، أن يمدّك بمعارف أنتجها مرور الزمن، وحدوث تطوّرات في المشهد سلّطت المزيد من الضوء على مكنوناته، ويمكن، من جهة أخرى، أن تساهم النوستالجيا، إن وقعت في براثنها، في تضليلك ودفعك إلى رسم صورة انتقائيّة مشوبة بالمشاعر الذاتيّة.

سرديّة مضادّة

أنا أعيش في أوروبّا منذ ما يزيد على أربعين عامًا، كتبت خلال ذلك تسع روايات، ستّ منها تدور أحداثها في الوطن. كتبتها متّكئًا، إلى حدّ كبير، على الذاكرة الفرديّة. أمّا الذاكرة الجمعيّة، في حال الشعب الفلسطينيّ، فهي هيكل تاريخنا وبرهان وجودنا. من الواضح أنّ كلّ شعب بحاجة إلى سرديّة تتّكئ على ذاكرة لإثبات وجوده في معركة الصراع على الوجود.

واضح أنّ الوجود الفيزيائيّ والحضور الراهن ليس دليلًا كافيًا على الحضور التاريخيّ. امتلاك أيّ شعب لذاكرة جمعيّة، تحتضن تراثه، ومطبخه، وتاريخ لغته المحكيّة، هو الأداة الأكثر تأثيرًا لمواجهة التشكيك بوجوده. لا يكفي الخطاب العاطفيّ، والثقة بالنفس، والشعارات القويّة لمواجهة حملات التشكيك القويّة. امتلاك الذاكرة أساس بناء السرديّة المضادّة، وللرواية دور أساسيّ في تقديم ملامح تلك السرديّة وبنائها على الذاكرة الفرديّة والجمعيّة.

'يافا تعدّ قهوة الصباح'

أريد أن أستعرض تجربتي مع رواية محدّدة، 'يافا تعدّ قهوة الصباح'، التي تدور أحداثها في مدينة يافا وقرية بيت دجن في أربعينات القرن الماضي، لإلقاء الضوء على كيفيّة تعاملي مع الانزياح الزمانيّ والمكانيّ، والأثر المحتمل لذلك في النتاج النهائيّ.

واجهت، أثناء قيامي بالأبحاث، شحًّا في المصادر بأشكالها كافّة، لكن كان لكتاب واحد دور حاسم في تحديد المنهج الذي استطعت اتّباعه، لاحقًا، لتجميع شظايا الذاكرة، 'تاريخ عائليّ لفلسطين' لكارل صبّاغ. يتابع المؤلّف في الكتاب تاريخ عائلته، عائلة صبّاغ، في فلسطين، لأكثر من مئتي سنة، ويرسم عبر هذا التاريخ العائليّ لوحة بانوراميّة للمجتمع الفلسطينيّ.

بدأت مشروعي في كتابة 'يافا تعدّ قهوة الصباح' بهدف تقديم المشهد الحضريّ الفلسطينيّ قبل النكبة؛ النسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ، والثقافة الاجتماعيّة السائدة، والعلاقات الجندريّة والاجتماعيّة على نحو عامّ، وكذلك نبض الحياة اليوميّة وامتدادها في التاريخ.

واجهت صعوبة بالغة في العثور على معلومات محدّدة تساعدني في بناء المشاهد وتحريك شخصيّاتي بسلاسة فيها. بحثت في التاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ لتلك الفترة، ثمّ استمعت لعدد كبير من الشهادات من مسنّي المدينة الذين عايشوا تلك الحقبة، المقيمين والنازحين.

صورة معقّدة

إذًا، كان ملاذي، في النهاية، الذاكرة الحيّة لأشخاص ما زالوا على قيد الحياة. كنت في سباق مع الزمن لاستعارة ذاكرتهم قبل فوات الأوان. بعضهم رحل عن عالمنا منذ ذلك الوقت، حاملًا ذاكرته معه. هذا يلفت انتباهنا إلى ضرورة إنقاذ ذاكرتنا الوطنيّة التاريخيّة من الفناء قبل فوات الأوان.

كان قرّائي الفلسطينيّون والعرب، المسكونون بالحنين لزمن ضائع، يتوقّعون منّي أن أسحر لهم مشهدًا عامرًا بالجمال والرخاء، يغذّي بكائيّاتهم على ما ضاع؛ بيّارات برتقال ينعم بخيراتها الجميع، فلّاحين وحضر يرفلون بأثواب سعادة نادرة.

ما تبدّى لي من أبحاثي والشهادات التي استمعت إليها، كان صورة أكثر تعقيدًا: مجتمعًا إقطاعيًّا يشبه مثيله في بقيّة بلاد الشام، واستقطابًا طبقيًّا قاسيًا، وفلّاحين يعملون في أراضي السادة الإقطاعيّين ولا يملكون شيئًا، وإقطاعيّين يتحكّمون بقوّة عملهم، حتّى بحياتهم وأفراد عائلاتهم. هذا في الريف، أمّا في المدن الكبرى، كيافا، فكان المشهد مختلفًا: حركة تجاريّة نشطة، وعلاقات اجتماعيّة متحرّرة، وسعي للتعليم المدرسيّ والجامعيّ، وحياة ثقافيّة وترفيهيّة مزدهرة، وفوارق طبقيّة، طبعًا.

غربلة الذكريات

أعترف أنّ اتّكائي على ذاكرة الشهود وضعني أمام مهمّة معقّدة، وهي غربلة الذكريات المشبعة بالمشاعر، واستخلاص الحقائق الموضوعيّة منها.

أحد المشاهد التي أثارت جدلًا، بل واستنكارًا، في أوساط بعض النقّاد والكثير من القرّاء، مشهد محاولة اغتصاب ابن الإقطاعيّ لابنة ناطور البيّارة، وتقديم الأمر على أنّه جزء من المشهد الطبقيّ في تلك الفترة.

أذكر أنّ إحدى المسنّات النازحات من إحدى قرى يافا قالت لي بالحرف، في إشارة إلى سيّد إقطاعيّ: 'كان يلتقي عالمرة وبنتها يا خالتي'، أي أنّه كان يقيم علاقة مع فلّاحة وابنتها، على الرغم من الزوج الذي لا حول له ولا قوّة.

يافا قبل النكبة

لم أتردّد لحظة في نقل كلّ هذا، طبعًا، وإن كنت توقّعت أنّ قرّائي ينتظرون منّي أن أوقظ يافا التي في مخيّلتهم وحنينهم، أن أغسل عن محيّاها الجور، وأقدّم لها القهوة فتعود بكامل بهائها، لكنّني ارتأيت أن أوقظها وأدعوها لتعدّ القهوة، وتروي من ذاكرتها الحقيقيّة، بكلّ ما فيها من جمال وبشاعة، بلا انتقاء ولا تجميل ولا تضليل.

هكذا حاولت، أنا ويافا العائدة من أحلامٍ جَمَّلَها الفقدان، أن نعيد بناء الأمكنة، ونوقظ الشوارع والأسواق والملاهي الليليّة، والقصص الجريحة والأفراح، والأنين والأهازيج، ومواسم الحجّ، وأعياد الميلاد، ونقدّم لوحة ليتأمّلها القارئ الذي تفصله عنها بضعة عقود ونكبة.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ خاصّ بفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، يضمّ شهادات أدبيّة قُدّمت في ملتقى فلسطين الأوّل للرواية العربيّة، المنعقد في رام الله بين 7 -11 أيّار 2017، برعاية وزارة الثقافة الفلسطينيّة.

 

** روائيّ وناقد فلسطينيّ من مواليد عام 1957. يكتب بثلاث لغات: العربيّة، والمجريّة، والإنجليزيّة. له 6 روايات منشورة بالعربيّة، و 12 مؤلّفًا آخر باللغات الثلاث، بين أعمال روائيّة، ومسرحيّة، ونقديّة، وشعريّة، ثلاثة منها أعمال مشتركة مع آخرين. يعمل في قناة الـ BBC في لندن، منذ عام 2004. عضو في جمعيّة Bush Writers التي تضمّ الكتّاب البريطانيّين والأجانب الذين عملوا في BBC منذ تأسيسها.