نعمة خالد: لن أستطيع الكتابة عن البلاد كما كنت أكتب

نعمة خالد

بعد خروج أهل مخيّم اليرموك من مخيّمهم، بدأت ملامح النكبة الجديدة تتجلّى في الأدب الذي ينتجه أدباء وأديبات المخيّم؛ نكبة بعد سبعين عامًا يصاب فيها الأبناء والأحفاد بمصيبة الأجداد، من وطن إلى شتات، ومن شتات إلى شتات. نستضيف اليوم في "صالون"، الأديبة الفلسطينيّة السوريّة نعمة خالد، ابنة قرية المغار المحتلّة عام 1948، وابنة مخيّم اليرموك للّاجئين الفلسطينيّين في سورية. عن المخيّم، والرواية، والأدب النسويّ، والمنفى، والوطن، كان الحوار التالي.

يُعرف عنك انشغالك بقضايا المخيّم، سواء اليرموك في سورية، أو مخيّمات لبنان. إلى أيّ حدّ ترين أنّ هذه السرديّة غائبة وتريدين الحديث عنها؟

لا أدّعي أنّني محيطة بالمشهد السرديّ الذي انشغل بقضايا المخيّمات الفلسطينيّة، مهما كانت منافيها. وإذا ما كسرت الزمن قليلًا، سأذكر غسّان كنفاني، ورواية لعدنان عمامة، وأخرى لعارف الآغا. سأذكر زياد خدّاش في قصصه، والروائيّة ميّ جليلي، ولا أعتقد أنّ ثمّة متّسع للجميع، لكن لن أسقط رواية "تعالي نطيّر أوراق الخريف" لحسن حميد. لقد كان المخيّم حاضرًا في المدوّنة السرديّة الفلسطينيّة على صعيد القصّة والرواية، وفي الوقت عينه، غصّت القصائد النثريّة برائحة المخيّم، كذلك المسرح، إذ لم يترك وجع المخيّم على قارعة الزمن، بل أثّثه بفضاء يناسب حاله. هل يكفي أن أذكر تجربة زيناتي قدسيّة؟ إلّا أنّني في الوقت عينه، أقول إنّ صفحات زمن المخيّمات مليئة بالحكايا والقصص التي لم يستطع الكتّاب أن يدرجوها بين دفّتي كتاب، وما كتبتُ محاولة لرصد حالة أو حالات أردت توثيقها حتّى لا يقتلها النسيان أو الزمن؛ ربّما وثّقت بعض ما كان في عين الحلوة في رواية "البدد"، واليرموك حضر في رواية "ليلة الحنّة". أستطيع القول إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ قد أفردت مساحة واسعة للمخيّمات عبر مدوّنات تشكّلت في الفضاء الافتراضيّ، وما زالت الحكايا تتوالد كلّ يوم، حتّى في المنافي الجديدة ثمّة حكايا تتشكّل وجذورها هناك. ليشحذ كلّ سارد أو شاعر قلمه وليوثّق، فما زال المخيّم يحتاج لمن لا يتركه نهبًا للزمن.

تلجئين في سردك إلى لغة شعريّة، وقد أثنى إدوار الخرّاط على ذلك، إلّا أنّ آخرين نقدوا هذا التوجّه. لماذا تكتبين بهذه اللغة؟ وهل تذهبين إلى جمهور محدّد ليقرأك؟

بكلّ شفافية، حين أكتب، لا يكون في ذهني قارئ ما. تأسرني اللغة وشعريّتها، وتنساب طيّعة في الكتابة، أسبح بين حروفها دون خوف من مبضع ناقد، ولعلّ كثافة شعريّة السرد تغني في كثير من الأحيان عن صفحات من اللغة العاديّة اليوميّة، أو لغة الصحافة التي صارت ظاهرة في المشهد الروائيّ العربيّ. ليكن، أنا أسيرة الشعريّة في السرد لأنّها تصدر من أعماق أعماق ذاتي. لست أخاف من ناقد سيتّهمني بأنّني أغرقت السرد بالشعر، ليكن هذا ما ينضح منّي، إلّا أنّني أسعى جاهدة كي لا تكون هذه الشعريّة عبئًا على الرواية.

تربطين في عملك القادم بين حصار اليرموك وحصار برلين، منفاك الجديد. ما الذي يدفعك إلى ذلك؟

عندما توجّهت للكتابة بداية، كانت غايتي أن أكتب حصار المخيّم، لكنّها المصادفة، وأنا أتصفّح تاريخ المنفى الجديد، قرأت عن حصار برلين، لذا عزمت أن أكتب عن الحصارين لأوضح المفارقة التي عاشها المخيّم في حصاره. أردت أن أقرع جرس الآدميّين وأقول: الموت جوعًا يختلف كثيرًا عن الموت حبًّا. لكنّني، وفي إطار البحث والشغل على حصار برلين وما كان منه، وجدت مفردات متشابهة كثيرًا بين الحصارين، والفارق هو الموت. ما زلت أشتغل على النصّ والأمداء ما زالت مفتوحة.

تكتبين القصَة والرواية، وتنشغلين بالتفاصيل، سردًا وتكثيفًا. كيف تحدّدين القالب النصّيّ؟ متى تقولين هذه ستكون رواية وهذه قصّة، ولا سيّما أنّ ملامح القصّ اختلفت منذ عقود وأصبحت أكثر حرّيّة؟

النصّ ما يقودني إلى جنسه الأدبيّ، سواء أكان رواية أو قصّة. أطلق الدفقة الأولى وأنا أتابع بدقّة: هل طُرحت الأسئلة التي أريد كلّها؟ هل بدأ الصديد ينزّ من الكلمات وخفّ ورم النصّ في روحي؟ إذا ما كانت ضرورة لانفتاح النصّ على فضاء روائيّ، فسوف تقودني هذه الضرورة إلى ذلك، أمّا إذا أغلق النصّ ولم يعد بمقدوري أن أفتحه على مساحات أخرى، فأتوقّف. في القصّة والرواية أنشغل بالتفاصيل التي هي ديدن السرد.

كنت جزءًا من المشهد الثقافيّ في مخيّم اليرموك. هل يمكن أن تتحدّثي لنا عن ملامح المشهد الذي انتهى اليوم؟ من هم وجوهه؟ ما هي مفرداتهم؟ كيف كان ينظر محيطهم الدمشقيّ إليهم؟

لم يكن المشهد الثقافيّ في مخيّم اليرموك بمعزل عن المشهد الثقافيّ السوريّ، وكانت الوجوه الثقافيّة في المخيّم فاعلة في هذا المشهد. هذا لا يعفيني من القول إنّ فضاء المخيّم فرض بعض مفرداته على الحالة الثقافيّة فيه، وكان أن تسرّبت هذه المفردات إلى نصّ شعريّ لشاعر سوريّ، وسوف يختار هذا النصّ عينه إذا ما كان في أمسية شعريّة "مخيّمجيّة". بعضنا انشغل كثيرًا بالسياسيّ والفكريّ الذي عدّه جزءًا من الحالة الثقافيّة الأشمل. سأذكر غسّان الشهابي الذي كان يعمل جاهدًا في إطار توثيق الذاكرة الفلسطينيّة، وحمد موعد الذي انشغل بالهويّة وتبدّلاتها وحرب المياه القادمة. أذكر يوسف سامي اليوسف، الناقد المهمّ، وسلوى الرفاعي، القاصّة المرهفة، ومحمود سرساوي الشاعر، وأحمد سرساوي القاصّ، وأحمد سعيد نجم الذي ما زلت أشتمّ رائحة البرتقال من قصصه، كذلك غسّان السعدي الذي راح ينحت بدأب ما يمكن أن يكون مؤسّسة ثقافيّة فلسطينيّة.

المروحة واسعة في الثقافة، قصّة، ورواية، ومسرحًا، وسينما، ونحتًا، وفنًّا تشكيليًّا، وربّما لا يتّسع المقام لذكر الجميع، لكنّني لا أجرؤ على القول إنّ المشهد الثقافيّ في اليرموك توقّف بفعل ما حدث ويحدث في سورية، فكثيرون من حملوا حمولات الزمن الذي ولّى ليكون حاضرًا بكثافة في مشهد المنفى الجديد. ما زالت بيادر خان الشيح، المخيّم المنفي، حاضرة في تشكيل البعض، وشوارع اليرموك وحاراته حاضرة في الشعر والقصّة والرواية، كلّ مشهد ثقافيّ تتراكب فيه أمكنة المخيّم. فهل يمكننا القول إنّه توقّف؟

كيف تنظرين إلى التعامل الأدبيّ مع نكبة فلسطينيّي سورية الجديدة؟ هل تعتقدين أنّ الفلسطينيّين في فلسطين خذلوهم؟

خُذلنا ونُخذل، وأنا لا أعني كلّ فلسطينيّ، بل أقصد الساسة والمثقّفين الذين لم تحرقهم صرخة جائع في المخيّم، ولم تدفعهم الجموع في تغريبتهم الجديدة ليهمس أحدهم في أذن الموغل في دمنا: "يكفي، أما ثملت بعد؟" كأنّ بهم بألسنة مقطوعة وأيد مبتورة. إذا كانوا كذلك، فلا ضير، أتفهّم العجز الذي أعيشه الآن، أنا ابنة فلسطين، وأنا أرى القدس تنهب رويدًا رويدًا كما كلّ الوطن.

دخلتِ إلى فلسطين أكثر من مرّة. هل قدّمت هذه التجربة لك شيئًا على مستوى الكتابة؟

لن أستطيع الكتابة عن البلاد كما كنت أكتب. في المرّة الأولى سرقتني الدهشة والتحدّي لكلّ ما كان من شأنه أن يبعدني عن البلاد، لكنّني في المرّة الثانية، كلّ خليّة في جسدي صارت أذنًا وعينًا، ألتهم ما حولي بنهم، وفي الوقت عينه تتهدّم في روحي الكثير من أحلامي التي بنيتها على هون مع كلّ حديث لجدّي وأبي. ما رأيته حين المواجهة ليس كذاك الذي بنته أحلامي من ذواكر أسلافي، ما قالوه وربّي كان أكثر جمالًا ممّا رأيت! هل أكون قد خنت وطني إن قلت لا أستطيع الكتابة عنه كما كنت أكتب حين كان حلمًا؟

شاركتِ مؤخّرًا، في برلين، في ندوة عنوانها "الأدب النسويّ - الجنس الملتبس". هل تعدّين كتاباتك أدبًا نسويًّا؟

لا، أنا لا أكتب نصًّا نسويًّا، ولست مهمومة بذلك التصنيف، ليست داحس والغبراء بيني والرجل؛ نتكامل لننجز نصّ الحياة التي تستحقّ أن تعاش من دون جندرة للأمور.

ترجمت روايتك، "ليلة الحنّة"، إلى الألمانيّة. كيف يتلقّى الجمهور الألمانيّ نتاجك الذي يعدّ مليئًا بالمحلّيّة والتفاصيل المرتبطة بثقافة وتاريخ بيئة العمل. هل تنجح الترجمة في نقلّ كل شيء؟

منذ وصولي إلى المنفى الجديد، أستطيع القول إنّ "ليلة الحنّة" بالألمانيّة كانت لها مفاعيلها، وكما يحدث أن نستقبل نصًّا ألمانيًّا مغرقًا في محلّيّته، يحدث أن يُستقبل نصّ هنا، مترجم إلى الألمانيّة، مغرق في محلّيّته. هو الفضول وحبّ المعرفة لفضاءات غير تلك التي نعرف نحن البشر.

لمن تقرأ نعمة خالد اليوم؟

أقرأ الآن كتاب "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان، وهو لا ريب زمن نعيشه بكلّ تفاصيله. أقرا الشعر أيضًا لجيل الشباب، تسرقني منّي بعض النصوص، وبعضها لا يلامسني، وفي زمن المنفى تعزّ الكتب، وأنا لست ضليعة بالتكنولوجيا كثيرًا لأحمّل ما يطيب لي منها عبر الإنترنيت، لكنّني نجحت في تحميل ما كتب جلال الدين الرومي، لذا لست في زمن واحد في القراءة، بل أنتقل حسب المتاح لي.

 

رامي العاشق

شاعر وكاتب وصحافيّ فلسطينيّ – سوريّ. اعتقل في سجون نظام البعث السوريّ. لجأ إلى الأردنّ بعد الثورة، ثمّ إلى ألمانيا. حاصل على منحة أدبيّة من مؤسّسة "هاينرش بول". أسّس صحيفة "أبواب" عام 2015 وترأّس تحريرها لعامين. قبلها كان محرّرًا لـ "طلعنا عالحرّيّة". صدر له في الشعر: "سيرًا على الأحلام" ولابس تياب السفر"، وفي النثر: "مذ لم أمت".