شجرة الجمّيز

جمّيزة | ماري آنّا فيلخ

 

تناقلت الأقاويل في القرية عن أنّ شجرة الجمّيز الكبيرة جدًّا يسكنها جنّ من نار. لم تقتصر هذه الأقاويل على الجدّات الجالسات عند عتبات البيوت وهنّ يتذكّرن الهجيج وسقوط البلاد ويتحسّرن، أو على الرجال المتّكئين على العكاكيز، والسائرين ببطء في أزقّة القرية الرمليّة صوب بيوتهم ليأخذوا قيلولة الظهيرة، ولا على بنات مدرسة "الخنساء" الابتدائيّة للبنات وهنّ واقفات، مرغمات على الاصطفاف الصباحيّ. كما أنّها لا تقتصر على حرفيّي القرية، كالخزفيّ والعربجيّ وبائع الحلوى الشاميّة، ولا على حلّاق البلدة، ولا حتّى على الأولاد الصغار أبناء الرابعة والخامسة، الذين يحذّرون بعضهم البعض من الركوب أو التأرجح على أغصانها الغليظة، أو لمس جذعها بقصد أو دون قصد. حقًّا، إنّ جذع شجرة الجمّيز وأغصانها المتورّمة فيها نتوءات لا شكلًا واحدًا لها، تشبه مرتفعات متراصّة تكتسح سهولًا بعيدة واسعة.

تقف شجرة الجمّيز هذه على حافّة مدخل ترابيّ لحارة قديمة. يُقال إنّها من أقدم الحارات في القريّة، وربّما في البلاد أجمع. قَدِمَ سكّانها من بلد، نسيت اسمه، يتوسّطه نهر سخيّ بالخيرات، أحبّه وكرّمه الناس بالمعز السوداء والشقراء، وقلادات القرنفل والعنبر، وقيل أيضًا بالأطفال الصغار الرضّع وهم في سباتهم.

في ليلة كاحلة لا قمر فيها، ارتعشت أجواف النهر فجأة... ودون سبب يُذكر، فاض ماؤه بكثرة وأغرق كلّ مَنْ سكن بمحاذاته. نجا مَنْ نجا وغرق مَنْ غرق. يُقال إنّ ثلاثين شخصًا، خمسة رجال وسبع عشرة امرأة وثمانية أطفال، ثلاث إناث وخمسة ذكور، هم فقط مَنْ حالفهم الحظّ وفرّوا قبل أن تجرفهم المياه إلى قاع النهر، دون أن يعلموا كيف. كتم هؤلاء الناجون قصّة النهر وحرصوا على ألّا يتناقلوا هذه الأخبار بينهم، خوفًا من أن تلحقهم لعنة النهر، أو ربّما تثير بهم شوقًا دفينًا وحرقة تجبرهم على الرجوع.

كيف وصلت إذًا هذه القصّة إلى القرية؟

أحيانًا، تصل القصص من رهبان يتوافدون على الأديرة النائية ويسكنون فيها وقتًا غير معلوم، ويوثّقون بقلوبهم وبألسنتهم الحياة، وكيف أنّ يد الله في كلّ مكان. وأحيانًا يأتي الملّاحون من بقاع الأرض ببضائعهم وصناديقهم الثقيلة، فيبيعون قطعة فضّة ثمينة، أو قطعة عاج منحوتة، مقابل كأس جعة وحضن امرأة، أو قصّة حسنة. وأحيانًا تأتي المتجوّلات وتقرأن البخت للحسناوات، فتسمعن قصصهنّ وتسردن على مسامعهنّ أخبار الرجال الحالمين من القرية المجاورة. تتوافد القصص من كلّ حدب وصوب، فتأتي أحيانًا أخرى دون قصد، ومع سقوط أوّل مطر مرتبك، ومع بزوغ فجر ناعس، وعند لمس يد امرأة عطشى، أو يد فأس ثائرة.

ما زلتَ لم تقل لماذا يتناقل أهل القرية الأقاويل عن شجرة الجميّز ويحذّرونها.

تمهّل ودعني أكمل.

عرف الناس قصّة النهر ذات فجر، وتناقلوها بعدما خرج رجل مِنْ أسلاف مَنْ عرف النهر مهرولًا من بيته، شبه نائم، وقصّ دون أن يشعر على مَنْ وقع عليه نظره سهوًا ماذا جرى لأهل النهر. كان ارتباكه أكبر عندما فتح عينيه وشاهد نفسه يهذي بشيء لا يفقهه، حافي القدمين، يستر عورته سروال ليليّ كتّانيّ، وفانيلا بيضاء تكشف بعض شعر صدره الغزير.

لم يبق أحد لم يعلم قصّة النهر منذ ذلك الحين وحتّى اليوم.

قبل أن تربط الأمرين معًا، دعني أقول لك إنّ قصّة شجرة الجمّيز الكبيرة، التي يسكنها الجنّ، لا تمت بصلة إلى قصّة النهر والناجين، وإنّ تتابع القصّتين محض صدفة فقط.

سأسرد لك الآن قصّة شجرة الجمّيز.

سمعت ذات يوم أنّ شجرة الجمّيز أحبّت جنًّا من نار حبًّا عظيمًا، فآوته إلى حضنها، وصنعت له أسوارًا صغيرة لتواريه عن أعين الناس وآذان الوشاة، هي تلك النتوءات المتعرّجة. عندما تجلس تحت شجرة الجمّيز ترى ضوءًا أزرق ذا بريق حادّ، فوق أحد أغصانها الداخليّة، يُقال إنّها إحدى أعين الجنّ التي ترعى شجرة الجمّيز عندما تنام.

أحيانًا، عندما يغفو الجنّ وشجرة الجمّيز، أو يبعثرهما الحبّ والنشوة، تستطيع أن تضع كفّ يدك على جذع الشجرة وتقطف جمّيزة واحدة أو اثنتين، لا أكثر. أقول لك لا مذاق يعلو فوق سحر مذاق الجمّيز. إن لم تصدّقني، اذهب بنفسك وتأكّد.

 

داليا الطوري

 

من مواليد 1973، ابنة الرملة واللدّ في الأصل، وتعيش في حيفا. معالجة بالنصوص الأدبيّة (البيبليوثرابيا)، ومعلّمة للّغتين العربيّة والعبريّة، ومترجمة، وقد اشتركت في ورشات كتابة إبداعيّة باللغتين.

 

 

 

 

*  يُنشر  النصّ بالتعاون مع مبادرة "فناء الشعر"، وهو نتاج ورشة للكتابة الإبداعيّة بإدارة أسماء عزايزة، صدرت نصوص المشاركين فيها بعنوان "خلل طرأ لحظة ولادتنا".