ثلاث روايات: يولا وأخواته، لوزها المرّ، تفصيل ثانويّ

 

لا شيء يربط قراءة هذه الروايات الثلاث: "يولا وأخواته" (دار المتوسّط، ميلانو) للكاتب راجي بطحيش، و"تفصيل ثانويّ" (دار الآداب، بيروت) للكاتبة عدنيّة شبلي، و"لوزها المرّ" (دار الأهليّة، عمّان) للكاتب هشام نفّاع، سوى أنّ قراءتها كانت متتالية مصادفة؛ لأنتبه لاحقًا إلى أنّ جميع كتّابها فلسطينيّون من الأراضي المحتلّة عام 1948، وصدرت عام 2017.

سأحاول في هذه المقالة تقديم انطباعات ذاتيّة عن الروايات الثلاث باختصار، بعيدًا عن النقد الأدبيّ، فهو ليس من اختصاصيّ؛ إيمانًا بأنّ انطباعات القرّاء الذاتيّة عن الأعمال الأدبيّة لا تقلّ أهمّيّة عن النقد الأدبيّ المتخصّص؛ فنحن إن كنّا نفتقد الأخير بشكل بارز في المشهد الأدبيّ الفلسطينيّ، وغياب تيّارات فلسطينيّة متنوّعة فيه، نفتقد أيضًا ظاهرة كتابة القرّاء قراءاتهم الذاتيّة عن الأعمال الأدبيّة. ولعلّها فرصة للتفكير في تعزيز هذا النوع من المراجعات الصحافيّة الثقافيّة للكتب، الّتي تعتمد على مطالعة آراء جمهور القرّاء، في عصر أُعلن فيه لدى البعض عن موت الأدب والمؤلّف والناقد.

 

"يولا وأخواته": المأساة سخريةً مكثّفة

تبدو الرواية منذ البداية مختلفة عن نمط الروايات السائد، الّتي نعرفها من ناحية المبنى الروائيّ؛ فهي لا تأخذ مسارًا تصاعديًّا على شكل "بداية - وسط - نهاية"، كما نألف المبنى الكلاسيكيّ؛ ما يجعل مهمّة القراءة أصعب. يأخذنا راجي بطحيش في هذا العمل إلى عوالم عائلة برجوازيّة من مدينة الناصرة، الّتي تهاوت إلى واقع جديد، أفقد العائلة مكانتها المعهودة في ظلّ تحوّل سياسيّ وثقافيّ، وإلى خريف يهبط على المدينة وأهلها، ويصيب أفراد العائلة: الجدّة ماري، والأمّ عايدة، والأخت سوسن، والأخت الثانية جانيت، والأخت الثالثة ميّ، والأخ إميل، والأخ كميل (امتزج إميل وكميل بشخصيّة يولا).

يبدو أنّ هذا الخريف، الّذي أسّس له بطحيش في مقدّمة الرواية، هو ما سيرسم مسار الشخصيّات وحياتهم؛ فهم "سيرحلون جميعًا جسديًّا وميتافيزيقيًّا، تاركين وراءهم حكاياتٍ مفتعلةً لوطن كامل". ويتمثّل رحيلهم إمّا بالهجرة، وإمّا بالجنون، وإمّا بالانتحار، وإمّا بالإصابة بالإيدز، وإمّا بالعيش في حالة نكران وتفكّك في ظلّ علاقات قوّة متداخلة ما بينها، وعنف مصدره الدولة والأب. المثير في الرواية قدرة كاتبها على تحويل قصص الشخصيّات المأساويّة هذه، إلى سخرية مكثّفة تفكّك سرديّات ومقولات وعادات اجتماعيّة ثقافيّة.

ولعلّ تناول العلاقات الجنسانيّة دون استخدام "كليشهات" صوريّة، أعطى العمل زخمًا أكبر، ولا سيّما حين تفاجئك أحداث تُسْرَد باعتياديّة وجرأة دون مقدّمات تمهيديّة؛ إذ يُموضع الكاتب هذه العلاقات حالةً طبيعيّةً، بلا ابتذال إنشائيّ أو تردّد بكسر "صورة الفلسطينيّ".

لا تتميّز الرواية بتقديمها أسلوبًا ومبنًى مختلفين، قد يضعانك أحيانًا في حيرة في أثناء القراءة، وتمعّن أكبر، وأحيانًا الاستغراب أو انتظار حدث ضخم يشدّك إلى النهاية فقط؛ بل تتميّز بطرحها في تناول مواضيع حياتيّة فلسطينيّة، مختلفة عن تيّار مركزيّ في الرواية الفلسطينيّة والأدب الفلسطينيّ بعامّة. ينتابك، في بعض المواقع من العمل، شعور بضرورة تقوية الأسلوب المختلف المستخدم؛ لتعزيز البناء السرديّ للرواية، ولشدّ حالة الصراع.

 

"لوزها المرّ": سرد ذاتيّ... كتابة يوميّة

استكمالًا للنقطة الأخيرة الّتي ذكرتها عن الرواية الأولى، تبدو رواية "لوزها المرّ" رافضة هي أيضًا، أن تتموضع في خانة الرواية بالمبنى الكلاسيكيّ، غير أنّها تعتمد على شخصيّة واحدة بلا حدث مركزيّ. للوهلة الأولى، يبدو العمل بعيدًا عن الرواية، وثمّة من يعدّها أنّها ليست رواية (وهو ملحظ شرعيّ)، وإنّما أقرب إلى السرد الذاتيّ على طريقة الكتابة اليوميّاتيّة لمذكّرات الراوي، وهو الشخصيّة المركزيّة، إذ يأخذنا إلى عوالمه الشخصيّة القلقة، بمصارحة مفتوحة وعميقة؛ جاعلًا من شقّته في مدينة حيفا، الّتي يحبّذ التجوّل فيها عاريًا، مسرحًا لسرد تقاطعات همومه اليوميّة، شعرًا وفلسفة.

يطرح هشام نفّاع في "لوزها المرّ" مجموعة من المواضيع المتشابكة، بين الحياة العاطفيّة للشخصيّة المركزيّة والسلطة الأبويّة وفشله، من دون وجودٍ لحدث مركزيّ كبير واحد، ينظّم عمليّة السرد ويؤسّس للصراع، إنّما مجموعة أحداث متعدّدة ما زالت تتفاعل. من هذه الأحداث الّتي تبرز انعكاساتها: دراسة الاقتصاد عن غير حبّ؛ امتثالًا لرغبات آخرين لنيل الرضا والتقدير، والانتقال من القرية إلى المدينة، وفشل في علاقته العاطفيّة مع النساء اللائي كنّ مشاريعَ حالمة، ورحيل صديقه العزيز، وحالة العزلة والوحدة.

لا يخفي الكاتب مصارحته القرّاء بفعل كتابة الرواية، ويضع أمامهم غير مرّة خيارات وتساؤلات حول كيف أو ماذا يكتب، وهو أمر نلحظه منذ الصفحة الأولى للعمل، ويتكرّر غير مرّة: "فتح عينيه ... تشير إلى العاشرة صباحًا ... لا ... يجب أن تبدأ الحكاية من مكان آخر ... بمزيج غامض خياليّ الرائحة عابق بالغرائز؟ ... أو ربّما بفصل النمل؟". هذا الانتقال غير المتوقّع والمكاشفة في فعل الكتابة، والانتقال السريع بين ضمير الغائب وضمير المتكلّم، يضعان القارئ في صلب المعارك الدائرة بين الكاتب وذاته، على أنّه لا شيء يخفيه في ذلك.

يطغى على العمل التكثيف الصوريّ، ولغة عالية الإتقان تدمج بين السرد والشعر والمناقشة الفكريّة والوجوديّة، ويمكن عدّه عملًا ثقيلًا بحاجة إلى قراءة متأنّية، وإلى قارئ متمرّس يستطيع الخوض في الأعماق والدهاليز، ولا سيّما أنّ بعض المواقع فيها قد تحيل إلى بعض الملل السرديّ.

 

"تفصيل ثانويّ": صور موت الفلسطينيّ واحدة

تختار عدنيّة شبلي في "تفصيل ثانويّ" تقسيم الرواية فصلين اثنين فقط، مختلفَين عن بعضهما بعضًا زمانيًّا ومكانيًّا وفي الأحداث، وكأنّ في كلّ حدث رواية مختلفة: الأوّل يعود إلى عام 1949 في صحراء النقب، حيث اقترف جنود الاحتلال الإسرائيليّ، المرابطون في الجنوب، عند الحدود مع مصر؛ ليمنعوا عودة اللاجئين الفلسطينيّين بعد النكبة، اقترفوا جريمة بحقّ فتاة فلسطينيّة، تناوبوا على اغتصابها ثمّ قتلها.

أمّا الفصل الثاني فيحصل في أيّامنا هذه، عندما تقرّر باحثة فلسطينيّة، تسكن في رام الله، أن تستعين بهويّة صديقتها الفلسطينيّة الزرقاء؛ من أجل الذهاب إلى الأراضي المحتلّة عام 1948؛ للبحث عن قصّة الفتاة المغتصبة في الفصل الأوّل؛ في محاولة للكشف عن جريمة الاغتصاب، وتعقّب تفاصيل ما حدث.

ويبدو أنّ اختيار الكاتبة هذه التقسيمة لا يهدف إلى بناء روائيّ تشويقيّ فقط، بل يحمل مقولة تمحي المكان والزمان بين مرحلتين مستمرّتين: مرحلة النكبة ومرحلة ما بعد النكبة، وكأنّهما حالة واحدة لم تتوقّف، ولا سيّما عندما نتتبّع ما يحصل للفتاة الباحثة في النهاية.

يختلف إيقاع الرواية في الفصل الأوّل عن الثاني؛ إذ يقع الأوّل في إيقاع بطيء، يحمل التكرار ووصفًا دقيقًا للمشاهد، مع تفاصيل أحيانًا زائدة على الحاجة، حتّى لو كانت مشاهدها تعبّر عن لوحات سرديّة عالية. كانت الأحداث تدور داخل معسكر الجيش وخارجه، حتّى اغتصاب الفتاة وقتلها. أمّا الفصل الثاني فكان مختلفًا كلّ الاختلاف؛ الإيقاع كان سريعًا، والشخصيّات مليئة بالحيويّة، أحداث متسارعة تقود إلى أحداث جديدة شائقة، دقّة عالية في وصف التفاصيل الصغيرة، الّتي تمثّل الحالة السياسيّة في فلسطين، في مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية حتّى يومنا هذا، إضافةً إلى أسلوب سرديّ متدفّق، مفتوح على احتمالات متعدّدة لمآلات الشخصيّة المركزيّة في كلّ فعل تقوم به.

تبدو دلالات اختتام الرواية بهذا الشكل متعدّدة؛ فهي توحي إلينا بعودة الفتاة المغتصبة عام 1949 إلى الحياة مرّة أخرى، كما تحيلنا إلى أنّ صور موت الفلسطينيّين واحدة رغم اختلاف الأزمنة، الّتي تبدو كأنّها زمن وفضاء واحد مستمرّ، بدأ عندما حطّ الجنود أقدامهم في البلاد.

 

ربيع عيد

 

صحافيّ فلسطينيّ، كاتب وعضو طاقم في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. يعمل في الصحافة منذ عدّة سنوات. كتب في العديد من المواقع والصحف العربيّة، كما عمل رئيسًا لتحرير صحيفة فصل المقال. حاصل على البكالوريوس في  العلوم السياسيّةمن جامعة حيفا، والماجستير في الإعلام والدراسات الثقافيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا.