كان يا ما كان، بلد جوّات دكّان*

للفنّانة فيكتوريا كوزموليسي

 

البلد لم يكن حقيقةً داخل الدكّان، ولا الدكّان نفسه كان موجودًا، بل هي متطلّبات الحكاية؛ فيحقّ لي أن أفعل ما أشاء بحكايتي؛ فأنا خالقها، وأذهب بأحداثها حيث شئت، ولا يحقّ لأحد أن يعترض، فمن لم تعجبه الحكاية فليبحث عن بلد آخر، أو عن دكّان أخرى، أو عن كاتب آخر وحكاية أخرى.

تقول الحكاية إنّ هذا الدكّان كان صغيرًا، إلى درجة أنّه لم يكن يكفي البائع إلّا أن يقف فيه بقدم واحدة، بينما القدم الأخرى على الرصيف، ورغم صغره، إلّا أنّ ذكاء البائع وحاجته جعلاه يستغلّ المكان عموديًّا؛ فألّف رفوفًا ثلاثة تحيط به من جنبيه ومن ورائه، بينما ترك المساحة المواجهة للشارع فارغة؛ كي يستطيع الناس رؤية بضاعته، فماذا كان يبيع في دكّانه الّذي أخذ اسم" دكّان" مجازًا؟

في الحقيقة أنّ هذا الدكّان، هو الوحيد على الكرة الأرضيّة الّذي يبيع بلادًا، ودعونا نُدخل عنصرًا قدَريًّا في الحكاية؛ كأن نقول إنّ ملاكًا أعطى هذا الدكّان لهذا الرجل، بشرط ألّا يغادره إلّا عندما يبيع كلّ البضاعة الموجودة فيه، وفي حالة مغادرته للدكّان قبل أن تنفد البضاعة؛ فإنّ الرجل سيخسر كلّ شيء، وطبعًا أنتم تعرفون أنّه لا يمكن المزح مع الملائكة، الّتي تأتي في الحكايات، وإلّا لفسدت كلّ الحكايات، وأصبحت بلا معنى.

راح الرجل يبيع البلدان، ويومًا بعد يوم كانت الرفوف تفرغ، فالجميل في الأمر أنّ كلّ بلد من بضاعته لا يوجد منه سوى قطعة واحدة؛ بمعنى أنّك لو اشتريت بلدًا منه، فلن تجد بلدًا آخر يشبهه مع أيّ شخص آخر؛ لذا فإنّ البضاعة كانت مميّزة وفريدة.

مرّ عليه أنواع كثيرة من البشر، منهم مَنْ يطلب بلادًا باردة، ومنهم مَنْ يطلب بلادًا صغيرة، وبعضهم كان يحبّ البلاد الّتي تكثر فيها الجبال، وبعضهم كان يشتري البلد في علبة مغلقة فيفاجَأ في البيت بأنّ البلد مليء بالصحارى والرمال والجفاف، لكن كما تعرفون أيضًا؛ فإنّ البلاد الّتي تُشترى لا تُردّ ولا تُستبدل؛ لذا فقد كان الأذكياء يدقّقون في مواصفات البلد قبل أن يشتروه؛ لأنّهم يعرفون أنّهم لن يشتروا كلّ يوم بلدًا، إنّما هي مرّة واحدة، تشتري بلدًا وينتهي الأمر إلى الأبد.

المهمّ، دعونا نعود إلى الحكاية، فبعد أن نفقت كلّ البضاعة إلّا صندوقًا واحدًا صغيرًا، أحسّ البائع بأنّه صار غنيًّا، وأنّ هذا الصندوق سيُباع قريبًا، وسيتحرّر من شرط الملاك، ويعيش حياته كملك عظيم، لكنّ الرياح لم تجرِ بما تشتهي سفنه؛ فأخذت الأيّام تمضي وتمضي، دون أن يقترب أحد من البائع، وكأنّ كلّ الناس اشترت بلادًا؛ فلم يعد أحد بحاجة إلى بلد؛ فصار البائع ينفق من مكاسبه من بيع البلدان الأخرى، في عمل الدعاية للبلد الّذي تصوّر أنّه سيبيعه سريعًا، لكن حتّى هذه الدعاية لم توفّق في بيع هذا البلد، الّذي تبقّى وحيدًا وحزينًا على الرفّ، بعد أن غادرت البلدان الأخرى.

خطرت للبائع المسكين فكرة؛ فلماذا لا يتّفق مع بعض الناس ويبيعهم هذا البلد بسعر رخيص؟ فقد ملّ الوقوف، ويريد أن يستمتع بالمال الّذي جمعه من بيع البلدان، وحدث هذا بالفعل، وبِيع البلد الأخير لثلاث جهات، ولم يعد يعنيه من هم أو كيف سيقتسمون البلد، المهمّ أنّه انتهى من الأمر وحقّق شرط الملاك الّذي وهبه الدكّان، فلملم المال الّذي باع به البلدان، وقرّر أن يخطو خطوته الأولى نحو عالم السعادة.

من الواضح أنّ البائع كان غبيًّا إلى درجة لا تصدّق؛ فقد أعطاه الملاك فرصة حين جرى تأخير بيع البلد الأخير؛ كي يشتريه هو نفسه، لكنّه لم يفطن للأمر، ولم يدرك في حينها أنّه الوحيد الّذي بقي بلا بلد، لكنّه عرف الحقيقة المؤلمة، بمجرّد أن خطا نصف خطوة خارج دكّانه، حين فاجأه حارس بسلاح ضخم: "لو سمحت، غير مسموح لك أن تدخل بلدنا"؛ وهنا انتبه الرجل صاحب الدكّان للأمر...

لقد باع كلّ البلاد؛ لذا فهو غير مسموح له دخول أيّ بلد، "يا الله! ما أشدّ غبائي! لماذا لم أشترِ البلد الأخير؟"، لكن هذا لم يعد يجدي؛ فالبائع لم يعد لديه غير الدكّان الّذي لا يكفي إلّا لقدم واحدة، ومبلغ كبير من المال، وما زال من يومها إلى الآن يقف الوقفة نفسها، ويعضّ أصابعه ندمًا على الفرصة الّتي ضيّعها بشراء البلد الأخير، وما زال واقفًا على قدم واحدة، بعد أن اتّخذ الحارس قرارًا بعدم جواز وضع قدمه الأخرى في بلد آخر.

 

 

* من "ليلة انتحار الفرس البيضاء"، عنوان المجموعة القصصيّة الأولى لخالد جمعة، صدرت عن "دار خطًى للنشر والتوزيع" في غزّة، صيف عام 2018.

تقع المجموعة في 92 صفحة من القطع المتوسّط، وتتكوّن من 20 قصّة قصيرة، صمّم غلاف المجموعة محمود ماضي، ورسم لوحته الفنّان باسل المقوسي.

 

 

خالد جمعة


 

شاعر فلسطينيّ وكاتب للأطفال يقيم برام الله. يعمل محرّرًا للشأن الثقافيّ في وكالة "وفا". له تسعة إصدارات شعريّة، وعشرون إصدارًا في أدب الأطفال، وأعدّ مجموعة من المسرحيّات، كما كتب أكثر من 100 أغنية لحّنها أهمّ الملحّنين الفلسطينيّين. تُرجمت بعض أعماله إلى لغات عالميّة عديدة.