"خبط الأجنحة": البدوي الرحال بين أمزجة المدن

إشيبان يادا

 

"خَرجتُ من عَشيرتي ولدًا

فعُدتُ مُتوّجًا بالزيزفون والطعنات

والقُبَل الحَرام والفُتوحات الصغيرة

وفي يديّ صرّة من النُّجوم الشرسة" (خبط الأجنحة، 69).

 

هذه سيرة رحّال، تنقّل بين المدن الكبيرة، وعايش نخبة من أهلها الشعراء والأدباء، يروي حكايته على شكل مذكّرات مثقلة بالاغتراب. هو ابن لا مكان، بدويّ أخذت الريح مضربه الأوّل، وأخذت المدن فطرته في تقصّي الأثر؛ فلم يعد قادرًا على اقتفاء أثر المضرب، وتاه بين روائح المدن الكبيرة الّتي تتشكّل من جديد، مع كلّ صباح يفد فيه إليها زائر.

أين كان مضرب هذا البدويّ؟ وطنه الجغرافيّ الأردنّ، أم وطنه العاطفيّ فلسطين الّذي ضحّى من أجله بانضمامه إلى المقاومة؟ يكاد يكون الترحال أحد أبرز سمات نصّ أمجد ناصر، فهو إلى جانب مسيرته الجغرافيّة رحّال بين الشعر والنثر، بين الأدب والسياسة، بين الحبّ والفلسفة، بين عمّان والقاهرة ولندن وبيروت الّتي خرج منها مطرودًا.

في "خبط الأجنحة – سيرة المدن والمنافي والرحيل"، عشرة أبواب تفتح 5 منها بقصائد، يخرج أمجد ناصر في رحلة يجوب من خلالها المدن الكبيرة، يحلّق بأجنحة الصحافيّ الكاتب، ويبدع من قلب كلّ خطوة في رحلته الطويلة، متأثّرًا بالوجوه الّتي تلاقيه، والأقلام الّتي يقرؤها، والحوادث الّتي تعترض مسيرته.

 

 

"خبط الأجنحة" يؤلّف ما بين المذكّرات، والسرد، والتوصيف، والسيرة الذاتيّة، والشعر. تمتزج التعابير الّتي تصف مشوار ناصر، لتحوّل النصّ إلى ما يشبه أدب الرحلات، نجوب معه الأمكنة الجغرافيّة، ونخوض المعارك النفسيّة، ويحلو لنا ما يصف من مناطق جغرافيّة بكلّ ما في تفاصيل التنقّل، من جفاء المطارات والمعابر وانتظار المستضيف.

يسرد ناصر يوميّاته، سيرة ذاتيّة هو فيها القصّة والقاصّ، رحلة نحو داخله لا يغادرها، أدقّ التفاصيل والأسماء، ترافق كلماته أحلام شابّ عربيّ وتَوقه إلى وطن عربيّ حرّ، تعكس انبهاره بالمعالم التاريخيّة في كلّ ركن حلّ فيه، ونظرته الثاقبة إلى فنّ العمارة الهندسيّة.

رغم مرور سنوات على تاريخ الباب الأوّل في الكتاب وما تلاه، إلّا أنّ ناصرًا لم يخفِ انفعاله وانبهاره من لقائه بالأماكن الجديدة والشخصيّات المعروفة، لم يتكبّر على رهبة المسرح، لم يدفن لحظات الخوف بين الجمل؛ بل صاغها بكلّ خفّة، فلم تستوقفنا إلّا لنبتسم لصدق المعنى.

لا يتوقّف أمجد ناصر عند أوّل الحبّ الّذي اختبره في عمّان؛ فإنّ صخب المدن الكبيرة الأجنبيّة والعربيّة، وتَدافُع الأحداث السياسيّة والأدبيّة وتواليها، جعلا من نصّه هذا تعبيرًا عن حالة إعجاب، وأحيانًا حالة من عدم تصديق الواقع الّذي يعيشه، حالة التقدير والاعتراف بشعره.

يؤكّد ناصر أنّ حياة البداوة كانت في معزل عن السياسة حتّى ثمانينات القرن الماضي، وبابتعاده عن مسقط رأسه صار الوطن العربيّ هاجسه، وفلسطين بوصلته إنسانًا وشاعرًا، هذا هو الحسّ العروبيّ المتأصّل فيه، يحاول التعويض عن حالة الإحباط العربيّ العامّة. هذا النصّ وثيقة تأريخ صيغ كلّ ما فيها على هيئة موقف.

غريب هو هذا النصّ لما يحويه من تناقض حول هويّة ناصر؛ فقد لفظ أصوله البدويّة بتغيير اسمه من يحيى النعيمات إلى أمجد ناصر، لكنّه رغم ذلك معتزّ ببداوته الّتي تنظّم الشعر بالفطرة، وتحترف سرد حكايات الترحال والليل في الجلسات العائليّة. عاش حياته الّتي رافق الشعر أمسياتها العائليّة؛ إذ جلس الطفل يحيى يشهد نظم القصيد على لسان أجداده، الّذين نظموا أبياتًا ردّدتها الألسن، وغاب مع مرّ السنين ناظمها.

تحمل نصوص أمجد ناصر العشرة وقصائده، رواية تجارب خدشت هويّته وتكوينه، وصقلت قدرته الإنسانيّة على التكيّف والتصالح مع الغربة؛ خلقت فيه الحنين إلى الوطن، صاغت نوعًا من الخضوع لمشهد تحوُّله إلى ضيف في بيت الأهل. لقد غيّرت التجارب في صفاته الجينيّة؛ فلم يعُد قادرًا على قصّ أثر واقع جغرافيّ يتبدّل، وثقافات مدن تزدهر.

ينجح ناصر في كتابه هذا باستخدام مجسّات إنسانيّة، تلتقط تفاصيل دقيقة في علاقاته بمحيطيه، تسعفه تعابيره الواضحة الجادّة وجزيئات المشاعر، وقدرته التصويريّة الّتي تجعل بعضًا من الأحداث شريطًا يراه القارئ ويتفاعل معه، يمكننا جسّ نبضه المتسارع عند إعلان وفاة علي شلش، وخفقانه الثقيل حنينًا إلى "وفاء"، وسماع أنفاسه المتلعثمة عند هرولته نحو المسرح.

هذه ليست شهادة ناصر على حقبة من حياته، بل سيرة الأماكن الّتي يشحذها الزمن، ونافذة على المشهد الثقافيّ العربيّ الوليد الاغتراب، وكشفًا للعلاقات المتينة بين الأدباء والشعراء، الّتي أفرزها لانشغال بالهم المشترك. هذا توصيف لمرحلة تخثّر الإنجاز لما بعد الهزائم والانتكاسات والحروب العربيّة – العربيّة.

واحد من النصوص الأكثر شموليّة وتعميمًا، وفي الوقت ذاته أكثرها حميميّة. كتابة أقرب إلى أن تكون حالة تعافٍ وشفاء من ندوب ماضٍ ليس ببعيد.

 

 

سماح بصول

 

 

تسكن في الرينة، شمال فلسطين. صحافيّة، محرّرة 'دوغري نت' بالعربيّة، ومركّزة مشروع الإعلام العربيّ في مركز 'إعلام'. حاصلة على البكالوريوس في اللغة العبريّة وأدبها، طالبة ماجستير في ثقافة السينما.