مديح لأمجدَ آخر: مقهى الشعر الذي لا يفرغ من تهاليل البدوي

أمجد ناصر والروائيّ حيدر حيدر

 

منذ البداية، في ديوانه الأوّل، "مديح لمقهًى آخر" (1979)، منذ انحداره الأوّل "مع الإبل، مع وبرها المتعطّش للعشب والشعر، صوب الحجارة الكبيرة والجرف والمدن المبهمة"، بدأت رحلة أمجد ناصر، رحلة العطش والسير في مضارب الأرض؛ بحثًا عن المعنى في حجارة الشعر.

كان الوطن، بحُكم العلاقة المكانيّة الأولى، بالنسبة إلى الشاعر وطنًا بدويًّا، لكنّ الشاعر في ارتحاله المستمرّ - كأيّ بدويّ – لم يتخلّ عن وطنه البدويّ؛ فبقي معلّقًا "واقفًا على كتفيه مثل الشجر"؛ يُظلّه إذا اشتدّ حرّ الغربة، ويُرطّبه إذا جفّ حلق الشعر.

 

غلاف ديوان "مديح لمقهى آخر"

 

في المدينة الأولى، الانكشاف البكر على المعنى المحصور بين جدران أسمنتيّة، حيث أخذته "الأقدام إلى حالات مقتضبة في العتم"، حيث الملمس البارد لألواح الأسمنت، حاول الشاعر أن يبني حياة أخرى، لم يَضِع في عتمتها، بل يمدّ يديه يُشعل سيجارة "ليطرد بالدخان الحيّ سطوةَ الوحدة الأسمنتيّة".

ورغم الخوف، والقليل من الدم، وأقدامه الّتي تسبح في براري الأسمنت، لم تتحوّل المدينة بالنسبة إليه إلى حصان خاسر، بل إنّها "لمّا تزل غارقةً في الصهيل"، و"لم تتحوّل إلى حصان خاسر" بعد.

ولأنّ البدويّ لا يحيا "دونما أغانٍ وحملانٍ وغوايات"؛ فقد ظلّ الشعر حارسًا لأغنية البدويّ الشاعر، فهو "ولدٌ خائبٌ في العشيرة والشعر، جئتُ من مضربٍ في شمال الرياح، وفي لغتي نبرةٌ كالصهيل"، لغته خالية من الاستعارات والتهويل؛ فهو ينظر إلى الأشياء الحيّة بكثير من التبجيل.

بقي أمجد يشقى بأوجاعه اللغويّة، "لأنّ القصائد لا تُطفئ الأسئلة"، أسئلة النايات المهشّمة والعظام النخرة والقبائل البائدة؛ فهو الولد الّذي خلّفته العشائر في قبضة الشعر، سوطُهُ من "جلدِ ثورٍ، أمرُّ به فوق ظهر اللغات الأنيقة والسافلين"، بقي في سماء الصحراء "تحجُّ إليه العقاربُ من كلّ صوب"، وتتعقّبه الرصاصات "تجيء أقربَ للقلب من جهة الأنظمة". 

منذ البداية يكرّس أمجد ناصر قصائده للّذين مضوا إلى غير رجعةٍ، إلى الرعاة "الّذين تبعثرت ألحانهم ورائحةُ آباطهم بين الشعاب والهشيم السائب ومضوا"، إلى التهاليل "المرتدية ثيابَ العروس"، إلى النسوة "اللائي أغوينَ أشرسَ الوعولِ وأثرنَ شبقَ النحاسِ"، وما زال هتافه الأبديّ يصهل: "هلمّوا أيّها الرعاةُ إلى قِصاعنا العامرة؛ لنشرعَ بالتهاليل".

 

 

ضياء البرغوثي

 

 

 

كاتب وصحافيّ من فلسطين. حاصل على ماجستير اللغة العربيّة وآدابها، يعمل في التحرير، ويكتب في الشأن الرياضيّ والثقافيّ.