الجوع ما بين سيرتين

Miki de Goodaboom

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"فكيف لا نخلص من ذلك إلى أنّ هؤلاء جاعوا، وأنّ هذا الجوع قد أيقظ ملكاتهم؟"[1].

تأصَّل الجوع في اسم الكتاب، فأنت تدخل الرواية قارئًا لترى ما قصّة الجوع هنا، ولا نقصد المجاعة أو حالة الجوع الّتي تعمّ البلاد لنتحدّث عنها. نحن هنا نتحدّث عن الجوع بصفته فكرةً ورغبةً مستمرّة، ونقرأ الجوع في هذه المقالة بين سيرتَين بخاصّة، أولاهما ذاتيّة "بيوغرافيا الجوع" لآميلي نوثومب، والثانية سيرة غيريّة "حكايتي شرح يطول" لحنان الشيخ، عن أمّها كاملة.

تبدأ السيرتان منذ أصغر الأعمار، ومن بدايات ذكريات الطفولة المبكّرة، السنوات الأولى وأهمّيّة الطعام فيها، واللافت الّذي أدّى إلى ربط هاتين السيرتَين، أنّه رغم اختلاف البيئات الاجتماعيّة الّتي نشأت فيها آميلي وكاملة، فإنّ رغبتهما في الطعام كانت أساسيّة الحضور في الطفولة. آميلي الّتي عاشت في عائلة دبلوماسيّة، لا تزال تتنقّل مع أهلها بين المدن المختلفة من شرق الأرض إلى غربها، وكاملة الّتي نشأت في عائلة لبنانيّة فقيرة جدًّا، ولا ينفق عليها والدها بعد انفصاله عن أمّها وهي طفلة، تنقّلت بين النبطيّة وبيروت، وأمضت حياتها في ركض متسارع.

 

كاملة

في "حكايتي شرح يطول"، السكّر واللحم مفقودَين دائمًا منذ طفولة كاملة المبكّرة، بسبب سوء الوضع المادّيّ لأهلها، وهي لا يلحّ عليها شعور فقْد الأب وأنّها من عائلة فقيرة، كما لا يلحّ عليها شعور الرغبة في وجود الأب، لكن يلحّ في داخلها - باستمرار - الرغبة في أصناف الطعام غير الموجودة، الّتي لا تستطيع الوصول إليها، فتحلم بأكوام السكّر والحلوى الموجودة في بيروت؛ فهو "تركنا حتّى صرنا خفيانين السكّر واللحمة، وانجبرنا نروح عَ بيروت"[2].

 

 

يستمرّ وصف كاملة للطعام ورغبتها في الأصناف المختلفة في الصغر، والسكّر بخاصّة، "ولم أهتمّ بأيّ فرد في العائلة، ولكنّي صببت كلّ اهتمامي على الحلوى الّتي أصبحت شغلي الشاغل، أهجس بها وبأسمائها"[3]. وتتذكّر دومًا بُخل زوج أختها، الّذي يتزوّجها لاحقًا بعد وفاة أختها ودون إدراكها.

ولأنّها لم تستطع أن تأكل جيّدًا إلّا بعد أن ولدت أوّل طفلة لها، وقتئذٍ تشرّطت وأصبحت تطلب الحلوى وأصناف الطعام المختلفة، لتلبّي في داخلها رغبة الجوع العارم، والجوع لأصناف محدّدة. ولاحقًا، وبعد العديد من المشاكل يليها الاستقرار، أصبحت رغبتها في القهوة، فنجان القهوة والبنّ الغالي الّذي يتطلّب مالًا ونقدًا، كسعر القهوة والغاز، وفيها أدركت أنّ القهوة ورغبات الطعام لا تتوقّفان عند متطلّباتها الماليّة.

تكبر كاملة فتتغيّر حياتها وتعيش حياة مرتاحة مادّيًّا نسبيًّا، وتغرق بعدها مجدّدًا في حياة متعبة فيها ركض، وهي الّتي لا تتقن الطبخ وأعمال "ستّات البيوت المعدّلات"، حتّى بعد أن تتزوّج حبّ حياتها، الّذي تُشبّهه أيضًا بالطعام في مراحل الحبّ الأولى "محمّد قد وقع صريع غرامي، ‘ساح كإنّو سَمنة‘ أمام جمالي وخفّة دمّي"[4]، وأنّ "رؤيتي لمحمّد أصبحت ضروريّة كالخبز"[5].

تتلاشى لاحقًا طلبات الطعام بتقدّم السنّ، وتختلف الرغبات وإدراك كاملة ذاتها عندما تكبر. ولا ننسى أبدًا أنّ هذه السيرة غيريّة؛ فكان من الممكن وبسهولة تجاهل جانب الطعام، لكنّنا ندرك إلحاحه في النفس، من ضرورة ذكره المستمرّ في فترة الطفولة المستمرّة وكيف كانت، ولربّما هذا هو سبب الإلحاح حول الطعام في السيرة.

تبدأ السيرتان منذ أصغر الأعمار، ومن بدايات ذكريات الطفولة المبكّرة، السنوات الأولى وأهمّيّة الطعام فيها، واللافت الّذي أدّى إلى ربط هاتين السيرتَين، أنّه رغم اختلاف البيئات الاجتماعيّة الّتي نشأت فيها آميلي وكاملة، فإنّ رغبتهما في الطعام كانت أساسيّة الحضور في الطفولة

كان التركيز على الطعام جزءًا من الجوع لرغباتٍ لا تنتهي، الأهل والسينما، وشكل من الاستقرار، والزواج بمحمّد حبيبها، وبعد ذاك تحلّ المسؤوليّة والتربية والأبناء، في سيرة يكون فيها الجوع ركضًا ورغبة مستمرّة باختلاف تسميات الجوع، الجوع كرغبة وفكرة مُلحّة.

 

آميلي

"الجوع هو أن تريد. إنّه رغبة أشمل من الرغبة"[6].

تبدأ سيرة آميلي وهي تدرك الحياة صغيرة، وتعي بها، وتَذكُر أهمّيّة الطعام لها بعد خمس صفحات فقط، وتسترسل في وصف الطعام الّذي تكتشفه في كلّ مرّة على مرّ السيرة، "إذ بدا لي أنّ العنصر الزخرفيّ المتكرّر في الفنّ الأوقيانيّ البدائيّ هو الـ ’يام‘: أي الإنيام؛ صنف من البطاطا الأوقانيّة، هي موضع تقديس فعليّ في المعتقدات الغالبة هناك"[7].

 

 

اللافت في هذه السيرة، أنّ آميلي تعي بعد فترة أنّ الجوع لديها ليس حاجة إلى الطعام فحسب، بل هي فكرة تجتاحها وتبقى في وجدانها باختلاف نوع الطعام، وللسكّر خاصّة، "لنقيضي أنا، فالجوع هو أنا"[8]. يأتي جوعها وتركيزها فقط على الطعام، ويلحقه بعد ذلك جوع الشراب للكحول والماء. وهناك تبدأ آميلي بتصنيف مهمّ؛ إذ تعتبره مختلفًا حسب نوعه، وحسب ما يلامس في داخلها، إذ "لم يكن مَيلي إلى عشق الكحول حائلًا دون توقيري الماء؛ فالماء يلبّي ظمأ مختلفًا عن ظمأ الكحول"[9]. وتصنّف جوعها ورغبتها المستمرّة في الكحول والشمبانيا، من سنّ مبكّرة، بحاجةٍ أخرى، وأنّ الماء مختلف يروي الظمأ بشكلٍ لا يشابهه فيه أحد، وكان كلّ هذا حتّى قبل أن تبلغ خمس سنوات. ولاحقًا، فإنّ تطوّر الرغبة في الشمبانيا تختلف، "تلك الجرعات المتلألئة، وطعم الوخز في الحلق، وذاك النحو في استعجال السكّر بخفّة الغفلة؛ وذروة المُبتغى"[10].

من متعة الطعام في هذا النصّ أنّ كثيرًا منه يأتي استراقًا، ورغبة الممنوع المستمرّة، كالسكاكر الّتي كانت تمنعها عنها والدتها، "وما إن بلغتُ السنّ الّتي تخوّلني أن أكون مستقلّة غذائيًّا، قصرتُ طعامي على السكاكر وما زلتُ إلى اليوم. هذا ما يلائمني تمامًا"[11].

وتركّز آميلي على الجوع بكونه شيئًا غير دنيويّ، يخصّ الله؛ فحتّى الله يحتاج إلى الطعام ويرغب فيه بشكل انتقائيّ، "لو كان الله يأكل، لأكل سكّرًا"[12]؛ فـ "الله ليس هو الشوكولاتة، بل إنّه اللقاء بين الشوكولاتة والحنك القادر على تذوّقها"[13].

 

أسئلة الجوع

"كان الرعب يزيد جوعي جوعًا، فأغبّ ممّا يأتي قدرًا مضاعفًا، أحتضن العالم بقوّة حتّى الاختناق"[14].

ما بين السيرتَين تختلف الخلفيّات والحياة الاجتماعيّة، واختلاف الطبقات الاجتماعيّة هنا لفت النظر إلى أهمّيّة السكّر والسكاكر، ما يمكن أن نسمّيه "طعام الراحة" (Comfort Food)، حتّى من قبل أن يكون ثمّة مفهوم لفكرة "طعام الراحة"، وحتّى من قبل أن تدرك كاملة مثلًا أنّ السكّر مهمّ، ويداعب جوانب عصبيّة في الدماغ تغذّي الرغبة والراحة.

إنّ اختلاف البيئات الاجتماعيّة في الروايتين، وتنوّع أصناف الطعام المرغوبة والماء مع آميلي، مقابل الرغبات الّتي يمكن أن نصنّفها بأبسط مع كاملة، والّتي تُثير أسئلة مختلفة عن الجوع، كثيرًا ما تُتناسى في السِّيَر الّتي مرّت عليّ

تفتح هذه السِّيَر سؤالًا عن الطفولة، عن الرغبات والجوع، بتساؤلاته: هل هو فعلًا حاجة الجوع إلى الطعام؟ وهل حاجة الجوع إلى الطعام هي إلى الطعام ككلّ، لتشفي جوعًا تتفرّع منه المجاعة؟ هل الجوع الّذي نرجوه هو فعلًا حلّ لنبقى فقط على قيد الحياة؟ أم أنّ رغبات الجوع في دواخلنا، هي سؤال يمكننا أن نصنّفه بأنّه بحدّة جوع الأسئلة الوجوديّة، الّتي تلاحقنا وتصدمنا من فترة إلى أخرى؟ سؤال الجوع والرغبة؛ الرغبة في السفر، في الاستقرار المكانيّ، في الاستقرار بأشكاله المختلفة، رغبة الوحدة، رغبة الخلود، وغيرها الكثير من الرغبات. وأوّل ما لاحقَ الكثيرين في الصغر أصل الرغبة في الحلوى والطعام الممنوع، حسب البيئة والعائلة وما فينا من رغبة دفينة، تبدأ بأصناف الطعام والنوم المتأخّر، والتوق إلى أن نكون "كِبارًا"، ومن ثَمّ تتفرّع أشكال الرغبة والجوع بصفته توقًا مستمرًّا إلى شيء آخر، آخر فحسب.

إنّ اختلاف البيئات الاجتماعيّة في الروايتين، وتنوّع أصناف الطعام المرغوبة والماء مع آميلي، مقابل الرغبات الّتي يمكن أن نصنّفها بأبسط مع كاملة، والّتي تُثير أسئلة مختلفة عن الجوع، كثيرًا ما تُتناسى في السِّيَر الّتي مرّت عليّ، إلّا تلك الّتي تتحدّث عن مراحل من الفقر، وكأنّ حالة التعالي على رغبة الجوع وفكرتها، هي شكل من التعالي على مفهوم الجوع ككلّ، وكأنّ الكُتّاب يتناسون الجوع في سبيل إثبات شيء ما. إثبات لأنّنا لم نرغب أو نجُع يومًا، وكأنّ تناسي حالة الطعام والجوع للطعام هو شكل من إثبات أشكال الحداثة، بأنّنا كنّا بخير مادّيًّا، كنّا نجوع قليلًا ولم يكن هذا مركزيًّا لنا، مع أنّ الطعام – ورغباته - يُعَدّ أساسًا في كلّ ما نمرّ به من رغبات وجوع لاحق في سير الحياة.

"ها قد فزت على الجوع، وبتّ أستمتع بثمالة الخواء"[15].

..........

إحالات:

[1] آميلي نوثومب، بيوغرافيا الجوع، ترجمة باسم حجار، ط 2 (بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2008)، ص 10.

[2] حنان الشيخ، حكايتي شرح يطول، ط 2، (بيروت: دار الآداب، 2006)، ص 7.

[3] المرجع نفسه، ص 30.

[4] المرجع نفسه، ص 68.

[5]آميلي نوثومب، بيوغرافيا الجوع، ص 69.

[6]المرجع نفسه، ص 22

 [7]المرجع نفسه، ص  9.

[8] المرجع نفسه، ص  21.

[9] المرجع نفسه، ص  53.

[10] المرجع نفسه، ص 50.

[11] المرجع نفسه، ص 28.

[12] المرجع نفسه، ص 37.

[13] المرجع نفسه، ص  38.

[14]  المرجع نفسه، ص 119.

[15] المرجع نفسه، ص 214.

 

 

مجد حمد

 

 

حاصلة على البكالوريوس في الإعلام من جامعة بيرزيت، وعلى الماجستير في الأدب المقارن من معهد الدوحة للدراسات العليا. مهتمّة بالأبحاث والنصوص التي تجمع النظريّات من مختلف التخصّصات؛ تأثيراتها في المجتمع وتفاعله معها، ولا سيّما الدراسات المرتبطة بالمدن وفهم الحيّز والفضاء.