نَوّارْ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

يستيقظ في منتصف الطريق، فاتحًا عينيه على نافذة الحافلة. كلّ شيء يسير إلى الخلف، والحافلة تتقدّم، البيوت تبدو لناظره من بعيد مبعثرة حينًا ومتلاصقة أحيانًا، متعدّدة الأشكال والأحجام، تتمايل مع ميلان الجبال في صعود وهبوط ثابتَين، وسرعان ما بدأت تظهر أمامه بيوت تحتلّ قمم الجبال، منتظمة في سطور، ويعلوها قرميد زهريّ اللون، متشابهة كنسخ مصوّرة، من حولها حزام من الأسلاك الشائكة وأشجار السرو تغطّي أجزاءً منها.

دارت الحافلة إلى جهة اليمين وأكملت سيرها. وفي منتصف الطريق تقريبًا، بدت أشجار اللوز مزيَّنة بيضاء، مغسَّلة بماء المطر، تغطّي مساحات واسعة تأسر الأنظار. يؤخذ بسحرِ النوّار الأبيض، واضعًا يديه على الزجاج لاصقًا وجهه فيه ينظر.

في سنّ مبكّرة، بدأ نوّار العمل في بيع السكاكر وزجاجات المياه. كان يدور منذ ساعات الظهيرة بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، في البرد القارس وفي حرّ الصيف، يبحث عن حياة بين الوجوه في الطرقات، عن بعض أرغفة الخبز يحملها عند المساء في طريق عودته لبيته الكائن في مخيّم العين، عن حال أفضل يبحث، أشبه برجل كهل شَظف، ضاقت به الدنيا، وأرهقه بؤس العيش.

بعد أشهر من العمل في الطرقات، استقرّ به الحال يعمل في مُجمَّع المواصلات العامّة. فيه الحافلات والمركبات الصغيرة الّتي تصل نابلس بمدن الضفّة الغربيّة، يقصده سكّان المدينة وما حولها. صار يبقى فيه لساعات، بشكل يوميّ دون انقطاع، يصعد إلى الحافلات، يجول المركبات ينده، يبيع بعضًا ممّا لديه.

تُبطئ الحافلة سيرها، ويميل السائق إلى جهة اليمين ثمّ يتوقّف. ينتصب نوّار عن مقعده، ينظر حوله إلى الركّاب يتذمّرون، "يبدو أنّ الحافلة تعطّلت"، يقول في ذهنه ويسير بيده صينيّته متّجهًا إلى الباب الأماميّ لينزل.

في الجهة المقابلة من الشارع، يقف شابّان بالقرب من محطّة انتظار، يرتديان ملابس واسعة ملوّنة، وحذاءين جلديّين تبرز من خلالهما أصابع أقدامهما، ذوا شعر طويل منسدل إلى أكتافهما، تعلوه طاقيّة صغيرة من الخلف تلتصق.

يسير ليقطع الشارع متّجهًا إلى الجهة المقابلة، ضامًّا صينيّته الفضّيّة بين ذراعيه. يتقدّم مقتربًا من جادّة الشارع. تبدأ أعين الشابّين تترقّب خطواته. يكمل تقدّمه حذرًا؛ فالمركبات تسير مسرعة من أمامه.

يقترب، يترقّبان.

يصل الرصيف في الوسط، أعينهما لا تنفكّ تراقب، وفمواهما يتهامسان.

ينظر نوّار يمنة ويسارًا ويُنزل قدمه عن الرصيف. أصوات الهمس تعلو.

يخطو خطوته الأولى وعيناه تشخصان إلى الطريق من حوله. أيديهما تمتدّ نحوه تؤشّر، وسيّارة مسرعة عن اليمين تتقدّم، تتوالى الصرخات من الخلف ومن الأمام، يرتبك، وفي مكانه يجمد، زامور السيّارة يجعله يركض إلى الأمام.

 لم يَخطُ سوى خطوتين حتّى جاءته الرصاصات من الأمام في الصدر، تدور به الدنيا ويهوى جسده، وقبل احتضان الأرض ترطمه السيّارة فيرتفع، ثمّ يُلقى على بعد أمتار في الشارع.

***

كان أبو أحمد سائق الحافلة الأقرب إلى نوّار، رجل في الخمسين من عمره، قضى نصفها يعمل سائقًا بين مدينتَي نابلس ورام الله. منذ أن شاهد نوّار في الساحة يدور ويصرخ "حوايج، مَيْ، حوايج"، أصبح زبونًا دائمًا له، فهو يشرب المياه بغزارة خلال العمل. وفي يومٍ انتزع نوّارًا من بين يدَي سائق آخر أراد تربيته؛ لأنّ زعيقه منعه من إكمال قيلولته اليوميّة، هكذا ردّ السائق على أبو أحمد عندما فكّ يديه الغليظتين من حول جسد نوّار الصغير النحيل. ومن بعد هذا اليوم صار نوّار يحتمي به إذا ما استفاق ذلك السائق من نومه.

كان يبدو على ملامح الطفل تعب وهمّ متلازمان، برغم ابتسامته الدائمة على وجهه. سكوته الطويل المتأمّل عندما يكون وحيدًا ينتهي عند قدوم أقرانه بلهوٍ وضحكات لا تنتهي. هذا ما لاحظه أبو أحمد من مراقبته الدائمة لنوّار، حتّى راوده الفضول ليتقرّب منه أكثر، ويصبح جزءًا من داخله.

مُلقًى بجسده على الأرض، تغطّيه الدماء تتدفّق من كلّ موضع، تسيل مبتعدة عن الجسد بأمتار، ومن حوله تتناثر زجاجات المياه وأكياس السكاكر، ودماء لطّخت الصينيّة الفضّيّة ضخّها صدره لحظة ثقبته الرصاصات. تجمهر الناس يتدافعون، يصرخون، لا حول لهم وما بيدهم من حيلة.

لا أثر للشابّين في الشارع، السيّارة مصطفّة مكانها، زجاجها مهشّم، وأبو أحمد فاتح عينيه وسعها مشدوهًا، يضرب وجهه بيديه، يبكي ينحب كما النساء، جاثيًا على ركبتيه يردّد "نوّار مات، أنا قتلته".   

***

في المخيّم تتراصّ البيوت في نسق مبعثر من الذاكرة، متلاصقة في دفء وهدوء واضحَين. يطغى عليها اللون الرماديّ، بكلّ تفاصيلها. تجتمع في محيط محصور، معبّرة عن وحدانيّة الهمّ، كأنّها تحتمي بعضها ببعض.

دخل أبو أحمد برفقة نوّار يصطحبه إلى بيته. كانت الأزقّة تَرْفَعّ كلّما مضيا في سيرهما نحو وسط المخيّم، حتّى أصبحت لا تتّسع إلى الاثنين معًا إلّا إذا سار أحدهما خلف الآخر، وكلّما اقتربا إلى هدفهما، اكتظّت الأزقّة أكثر، من المارّة والواقفين، ومن الجالسين أمام البيوت والمتفرّجين، ومن الأطفال الراكضين حولهم يلعبون.

في نهاية الزقاق ظهرت والدة نوّار منتظرة قدومه، تحمل في يدها مقشّة تجول الأرضيّة بها، ولحظة لمحته من بعيد بدأت الشتائم تتوالى وتنهمر.

عند وصولهم أمام الباب بدأت تخاطب أبا أحمد:

- هذا الولد يريد أن يقتلني... تفضّل تفضّل، لا يسمع كلامي، الفاشل يبقى فاشلًا، لا يدرس... تفضّل تفضّل، تنتهي المدرسة... يأتي ليلقي حقيبته ويخرج مع أكياسه، سيقتلني... تفضّل تفضّل، ماذا تراني أفعل معه؟

أبو أحمد متعجّبًا مبتسمًا يقول لها: "هذا جيل لا ينصاع لأحد، لكنّه أخبرني عكس ذلك!"، ويجلس متفحّصًا البيت الّذي يتكوّن من غرفتين فقط، إحداهما للنوم والثانية للجلوس والأكل، فيها مطبخ وحمّام صغيران. نظر إلى الحائط أمامه نحو صورة على طرفها شريط أسود، ومن دون سؤال، أجابت:

- هذا زوجي توفّي منذ خمس سنوات، وترك لي اثنين خلفه سامحه الله. سأعدّ الشاي، تفضّل تفضّل.

- أنا أبو أحمد، أعمل في...

- أعرف، أهلًا وسهلًا.

- إذن، أين هو جمال؟

- ذاك أسوأ من هذا، في الخارج يبقى حتّى الليل، ربّما رأيتموه في الخارج عند قدومكم. أنا أعمل في الخياطة، أخيط ملابس هذا المخيّم كلّها. نوّار يساعدني في مصاريف البيت، أمّا جمال فلا يزال صغيرًا، إنّه أصغر من نوّار بعامين.

خرج أبو أحمد بعد أن أخذ موافقة الأمّ على اصطحابه ولدها إلى رام الله في يوم العطلة، أي بعد يومين من هذا اليوم. قال لها إنّه كثير الإصرار عليه لأخذه، منذ ألفه في العمل وهو يطلب منه الذهاب معه في أحد الأيّام، لكنّه لم يرغب في ذلك دون علم الأهل. وقال إنّه ربّما يحصل على رزق أكبر هناك، فوافقت.

كان يومًا ماطرًا. ما إن انطلقت الحافلة، حتّى راح نوّار في نومه، مسنِدًا رأسه على النافذة عن يساره.

***

مرفوع على أكفٍّ، يسير غيمة تتلوها غيمة، يبتعد كنجم في آخر المجرّة، وعيناها تلاحقانه تغسلان خدّيه بالدموع واعتصار الألم. منذ ذاك اليوم وهي تجلس أمام البيت تنظر إلى آخر الزقاق، وتراه، في كلّ ليلة يظهر لعينيها آتٍ ثمّ يبهت ويزول.

حتّى اليوم، بعد أسابيع، ظهر من آخر الزقاق أبو أحمد، يسير بخطوات متثاقلة، بطيئة، مطأطِئ الرأس شاحبًا.

تُتمتم "تفضّل" ودخلت.

يدخل ويجلس في نفس المكان، ينظر إلى نفس الصورة، الّتي علّقت بجانبها صورة أخرى لنوّار، فتجيبه دون أن يسأل:

- لم أشهد ألمًا في حياتي أشدّ من رحيله، كان يعينني، وكان وجوده أمامي يثلج صدري، يغنيني عن أيّ شيء في الدنيا، الآن كيف ستكون الحياة، إذا لم يأتِ إلى البيت إطلاقًا، لا في الصباح ولا في المساء ولا بعد... أردته أن يحيا طفولته كباقي أبناء جيله، أن أرى في عينيه ارتياحًا، لكنّي لم أشهده. لم يكن فاشلًا البتّة، كلّا لم يكن.

يُتمتم أبو أحمد بكلام غير مفهوم تمامًا، فيه مواساة واعتذار. تصمت الأمّ ثمّ تعود لمجلسها أمام البيت. يخرج بعد قوله كلمات العزاء مرّة أخرى بصوت أجشّ، يبتعد ببطء من أمامها.

في صباح اليوم التالي يذهب إلى عمله للمرّة الأولى منذ الحادثة، يجلس في حافلته، يُمعن النظر في الساحة الواسعة وما فيها من مارّة وركّاب لبعض الوقت، فيبدأ الصوت بالظهور "حوايج... مَيْ... حوايج". لا يلتفت، ثمّ يظهر مرّة ثانية بوضوح، ينتفض، ويلاحق الصوت ببصره، الصوت يقترب إلى مسامعه، يلتفت يمنة ويسارًا، يحاول التركيز، يسكت الصوت فجأة، فيرجع أبو أحمد مسترخيًا إلى مقعده لوهلة. يعود الصوت يعلو بين الحافلات، يفزّ عن كرسيّه، صوت حقيقيّ لا لبس فيه، يرنّ في أذنه، لا ينساه، يقترب في اتّجاه الحافلة، حتّى يمرّ من أمامها: "نوّار، إنّه نوّار"، يتملّكه الذعر والاندهاش. يلتفت إليه قائلًا: "أتريد ماء؟"، يومئ برأسه أن لا، ويجلس.

 

 

أحمد أبو عيد

 

 

من مواليد طولكرم. يدرس العلوم السياسيّة في "جامعة النجاح الوطنيّة". ينشط في عدد من الأطر الأهليّة والسياسيّة.