"ليتني كنت أعمى"... الفلسطينيّون وسمك السلمون

غلاف رواية وليد الشرفا

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

عين ثالثة

هي مشاهد شذّبتها المأساة وتجبّر بها الوجع، تاهت بين ركام الذكريات المستعرة على حدود الوطن، ومسافات تأصّل تحت رقوَتها إدراك حسّيّ تَولَّد من رحمه إبداع يقتات من الحبل السرّيّ، لقضيّة لا تسأم العيش بين نواجذ أرواحنا، دون أن تتذمّر فينا الذاكرة، أو تُعلن انهزامها بين أزقّة الموت والأمل والانتظار.

مَشاهد الواقع الرماديّ الّتي أسلمت وجهها لعلاقة مزدوجة تبادليّة بين الذات والآخر، من خلال العين الثالثة لعلي الطوق، المناضل والمصوّر، أحد أبطال العمل الروائيّ للكاتب الفلسطينيّ وليد الشرفا بعنوان "ليتني كنت أعمي" (الأهليّة، 2019)، إلى درجة أن يتمنّى المبصر العمى لهول ما تجسّد في أسفل رأسه من مأساة، والّذي مارس التفرّد بالنظر إلى مجمل المشهد الفلسطينيّ بعين الضحايا، الّتي لا تنفصل عن الضمير المستتر بين العالِم والوعي، بين المبدع والعمل، خاضع لرؤيةِ الكاتب المعرفيّة للواقع ومدى معايشته، ليخلق بتلك المعايشة بُعدًا آخر من الإبداع الّذي يعانق التفرّد بزاوية الرؤية للمشهد واستثنائيّة السرد، كما كتب باشلار الّذي طالما أحبّ الاستشهاد بهذه الصورة للشاعر إيلوار: "كم تتغيّر يدنا حين نضعها بيد أخرى، نعتقد أنّنا ننظر إلى السماء الزرقاء، وإذ بها فجأة هي الّتي تنظر إلينا".

يحاول الشرفا من خلال عين ياسر الّتي تُنير الطريق لعلي، وقدم علي الّتي فقدها ياسر، أن يضع المشهد رهينة إرادة لا يمكن أن تتكامل إلّا بشكل أعجوبيّ، لا يستقلّ فيها الجسد عن رأس يدبّره ويحرّكه ويوجّهه إلى مصيره الّذي بات مجهولًا...

ويبرز هنا سؤال لحوح، ليستقرّ بين نوافذ البيوت المهشّمة وطريق معتم بلا إنارة، أيُعقل أن نكون وبإرادتنا جزءًا من إطار النافذة الّذي استعان به الفنّان الألمانيّ ليجسّد الحصان الحديديّ رمزيّة لزخم الثورة الممتدّة من بيروت إلى جنين، مرورًا برام الله ونابلس! وما خلّفته من دمار وموت، أم أنّه تَشكّل من عدّة المحتلّ وعتاده، عُجن بدم فلسطينيّ خالص حين اقتحم مخيّم جنين، بآليّات لم تُسعف أصحابها أمام عزيمة الثوّار، يوم رسمت سواعدهم خطوط الكبرياء في جبين الموت؟

يرتبط حدس الخيال وولادة النصّ بين فكّي مكتنز يحمله الكاتب عبر أبطال روايته بين تجارب حقيقيّة ومتخيّلة، ووعيه لما يكتب بكلّ ما يتعلّق بتفاصيل النصّ الداخليّة من حوارات وأفكار لا بدّ لها من ظلال تمتدّ عبرها، لتشكّل بهذا التكامل المتداخل بين أبطال الرواية والراوي مشهدًا تكامليًّا، يتجسّد أمام القارئ بحرفيّة سرديّة؛ فلا يمكن فصل الراوي عن مخزون ما تشكّل منه والمتداخل بكلّ أركان الرواية.

 

بيروت لم تكن يومًا بداية

رتّل وليد الشرفا "قُدّاس الموت والحياة على فراش القضيّة"، شنّف بها مسامع مَنْ تخلّدت في أوردتهم ترانيم الموت، من أجل أن تورق في ضلوع ظلالهم أوراق الحياة، وعزف أعمق معزوفات الأسى لواقع اختلط بحلم نازف، منذ أن وطِئت أقدام الثوّار بعد خروجهم من بيروت أرضَ فلسطين، مرورًا بما رسمته اتّفاقيّة أوسلو من ملامح انفصام سياسيّ وثوريّ لا يستقيم مع التضحيات الجسام، يتناغم ذلك مع المونولوج الّذي تجاذبه ياسر الزرعيني؛ بأنّ: "الزمن هو البطل الّذي يموت كلّ يوم، وما الحياة سوى سفينة لنقل الموتى، لكن أحدهم يقفز إلى بحر الموت قبل الآخر" (ص 81)، واستطرد في إشارة أخرى: "يتبخّر في اللحظة كلّ ما قرأت عن الفنّ والأدب، وتُدرك أنّ هناك أشياء لا يمكن أن تُفهم إلّا إذا عشتها، وتتكاثف في اللحظة نفسها كلّ صدمات الأبطال الّذين قرأت سيرهم في تلك المسافة بين هذين السريرين: سرير الطبيب وسرير المريض، إذا كانا في سيّارة إسعاف مطاردة" (ص85)، محاولًا بهذه الكثافة من التفاصيل رسم المشهد، بدقّة تسلّط قنديل الزيت على عمل أدبيّ يعبّر عن واقع منفصم الدلالة، تنخر جسده كلّ التناقضات. هذا ما يبرزه ستاروبنسكي عند روسو: "تكمن وظيفة حلم اليقظة الفاصل عن الواقع، في امتصاص تعدّديّة التجربة المعيشة وعدم تسلسلها بابتداع خطاب موحّد، يتوازن ويتوازى فيه كلّ شيء".

يسوقني غلاف الرواية إلى جحيم جوفها المستعر، جحيم سطّرَته ملاحم الصمود أثناء حصار بيروت من عام 1982، يوم رست القضيّة على طريق الآلام، قبل أن تتفاقم أوجاع المخاض وما تلاها من بشاعة المشهد في صبرا وشاتيلا، حيث نقشت كلمات درويش بالكلس الأبيض على جدران الذاكرة الفلسطينيّة، مرارة تشكّلت على مقاس الثورة وفاقت احتمال ثوّارها: "يا فجرَ بيروتَ الطويلا... عجّل قليلًا... عجّل لأعرف جيّدًا: إن كنتُ حيًّا أم قتيلًا"، فامتشقت بعد عقدين مجزرة جنين، في ضباب ليل تباطأت خطواته قبل أن يبزغ فجر مرارةٍ بعثره زئير القذائف، وشَقّ سكونه صياح البنادق؛ فبيروت لم تكن يومًا بداية، ولن تكون النهاية أبدًا.

 

علي ومشاهده

شمس وزرقة سماء تشقّ صفاءها طيور مهاجرة إلى وطن مسلوب، وطن تُناور فيه الغربان أسراب العودة إلى أحضان الأرض، كلّ شيء يضيق ذرعًا بهذا السيناريو المقيت، كأنّما رسم الشرفا مشهدًا متكاملًا لعلي، محاولًا أن يقفز من إطار لوحة زيتيّة ضاقت به ألوانها الخاطفة، وخطوطها الملتوية تلتفّ حول أجزاء جسده الّذي لم يعتد كلّ هذا البذخ، بعد أن جلَده التقشّف، وشقّق النضال جلده بشظايا لم تبرح أعلى خاصرته، تذكّره بتفاصيل لا تبارح مخيّلته دون وخز يُدمي ذاكرته الحبلى بالوجع؛ فيتنهّد المشهد، حين قال: "ضغط الحذاء أصابع قدمي، وانغرست ربطة العنق في رقبتي، درجة حرارتي ترتفع، قشعريرة تسري في جسدي، كانت الشظيّة بين أسفل إبطي وأعلى خصري، هي ما نهشت لحمي وقتها، تحسّ أنّها مخلبا عقرب يحاول الخروج من تحت اللحم..." (ص15).

يسترجع علي الطوق كلّ شريط المأساة من جديد، تصفعه كلّ صرخة ألم تُصدرها حنجرة طفل وُلد بين ركام الحرب في بيروت، أو بُقِر بطن والدته ليكمل الحياة، أو جسد ياسر بعد أن دَفن جزءًا أصيلًا من جسده قبل أن يعود إلى فلسطين...

ويستطرد بفطرة الثائر المقيّد المكلوم، رافضًا الجرم التاريخيّ الّذي يُقترَف أمام عينيه وهو الشاهد والشهيد، الحاضر والمُشاهِد: "أرى الكاميرا كأنّها أرواح تصعد نحو السماء، أشعر أنّ غطاء الطاولة ينقط دمًا، وأنّ الكاميرا تنزف أفواهًا صارخة وعيونًا دامعة. عرفت الآن، لم أصوّر لأنّي رأيت الصور الّتي في عقلي، وليست الصور الّتي أمامي" (ص 16).

وتنهمر المشاهد كالرصاص، تخترق شريطًا متتاليًا كالوميض المتأصّل لا تخفت ملامحه في رأسه، تومض في ساحة النضال كأنّها تنزف دافئة أمامه: "عاد يوسف يقفز برِجل واحدة. هرولت وسقطت في طريق المنحدر، وبقيت أتدحرج حتّى كان تدحرجي الأخير تحت رجله، كان يحمل رجله الّتي بترها رصاص رشّاش ثقيل. كان الدم يتقاطر من رجله المبتورة الّتي فار دمها على الكوفيّة الّتي لفّ بها الجرح... ‘شايف هاي أوّل شقفة اندفنت بعيد عن عكّا‘" (ص 20).

فاستطرد القول: "وقتها تعلّمت الفرق بين أن تقول الكلام وأن تعيشه، وبين أن تلتقط الصورة وأن تكون مادّتها الملتقطة!" (ص 20).

 

هل تضع الضحّيّة يدها بيد قاتلها؟

وهل ينطلي المشهد على مَنْ لا تزال الدماء في أنفه زكيّة؟ والجرح لا يزال يفترشه الألم؟ هل يمكن للفقد أن تعوّضه اتّفاقيّات ومعاهدات؟ هل لأموال الدنيا أن تبدّد ذلك الألم المقيم في شرايين علي ورفاقه؟ هل يمكن أن يمسح الزمان نزف المآقي الّتي كان ياسر الزرعيني شاهدًا عليها؟ أسئلة كوخز الدبابيس، حين اقترب من علي الطوق ذاك الإسرائيليّ محاولًا بعربيّة غريبة التخفيف من حدّة اللحظة، قائلًا: "‘حبيبي إحنا هون للسلام، عشان أولادي وأولادك‘... نزعت يده بقوّة، مشيت، تبعني وهو يشدّد عليّ بالجلوس... سألني عن أولادي بلطف شديد؛ صرخت بوجهه: ليس لديّ أولاد. بدا الثأر عليه. ’ليه ليه؟‘، سألني أكثر من مرّة... لأنّ زوجتي ماتت... ماتت من المرض؟ ‘أنا حزين وزعلان كثير عشانك‘، ماذا كان مرضها؟" (ص 28-27).

عن أيّ سلام ذاك الّذي يتحدّث عنه؟ ولأجل مَنْ؟ وهل يمكن بعد كلّ تلك الخسارات والتضحيات؟

فصرخ عليّ بوجهه بكلّ الغضب الّذي يتفتّق من عينيه: "لم تمت من المرض، أنتم من ذبحتموها في صبرا وشاتيلا" (ص28-27).

كيف يمكن الضحيّة أن تضع يدها بيد قاتلها؟ وهل يجوز أن تفعل؟ هل يمكن القيادة الفلسطينيّة المنهكة، الّتي هامت على طبق التشريفات والبروتوكولات السياسيّة في أوسلو وما تلاها، أن تُدرك أنّ المساواة مع إسرائيل أمر غير وارد على الإطلاق، وأنّه لا سلام إلّا بالشروط الّتي تُمليها إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكيّة عليها؟ وقد هيّأت حالة التردّي العربيّ الشاملة لذلك، حين انشغلت بحروب جانبيّة أنهكت جسد الأمّة، وأهدرت طاقاته بالشعارات الفارغة وانعدام الكفايَة وانتشار الفساد في مجتمعات معاقة أصلًا، هذا الفشل اللامحدود مسؤوليّتنا جميعًا.

هنا يسترجع علي الطوق كلّ شريط المأساة من جديد، تصفعه كلّ صرخة ألم تُصدرها حنجرة طفل وُلد بين ركام الحرب في بيروت، أو بُقِر بطن والدته ليكمل الحياة، أو جسد ياسر بعد أن دَفن جزءًا أصيلًا من جسده قبل أن يعود إلى فلسطين، بعد أن قلبت جرّة قلم كلّ المعادلة.

يمتدّ الفضاء في رواية الشرفا، من بيروت إلى رام الله وأريحا فنابلس وجنين، ويحتلّ المساحة الكبرى في سيّارة الإسعاف، الّتي شهدت مُجمل التصوّر للمعاناة الّتي خاضها رجل خمسينيّ فقدَ عينيه...

ويعود علي أخيرًا بعد توقيع اتّفاقيّة أوسلو إلى فلسطين، لكنّه لم يستطع أن يرى عكّا ولا حيفا، ولا يافا، "هي فلسطين، أو قسم منها، ما الفرق بين يوسف ورجل يوسف! أمرّغ أنفي في تراب أريحا، كأنّي أشمّ رائحة دم يوسف وأبو الهيجا وعرب" (ص 28-27).

 

ثنائيّة الإرادة والبصيرة

يمارس الكاتب وليد الشرفا في روايته درجة عالية من التخييل، ترميزًا لواقع غير منفصل عنه؛ إذ يعتبر التخييل عملًا أساسيًّا في العمليّة الإبداعيّة، لأنّ التجرّد منه ينفي عن العمل فنّيّته؛ فالنصّ الأدبيّ مزيج من الواقع وأنواع التخييل، ولذلك هو يولِّد تفاعلًا بين المُعطى والمتخيَّل؛ فيمتلك بذلك وجودًا لاواقعيًّا، مختلفًا عن الواقع، ناتجًا عن الحلم والاستيهام للترميز إلى ما يرمي المؤلّف إليه، في إشارة إلى الصراع الّذي خاضه علي الطوق بين ما تفرضه عليه مَشاهد الواقع المرتبك، وما فرضته عليه رغباته الّتي افترست فرائصه وحيدًا، تدفعه لينظر إلى نفسه في المرآة ويبصق على نفسه، لتنهال الصور فوق رأسه تجلده وتؤنّبه بشراسة، كمغموس في مستنقع قذر.

"أغمض عينيّ وأقول في نفسي: كلّ احتمالات الحياة وتقلّباتها الّتي عشتها عذّبتني، كان يمكن أن أرتاح منها باحتمال واحد أو احتمالين: احتمال ألّا أكون موجودًا في هذه الحياة، واحتمال ثانٍ ألّا أكون فلسطينيًّا! لكن هنا يدخل احتمال ثالث هو أن أكون فلسطينيًّا رخيصًا".

يحاول الشرفا من خلال عين ياسر الّتي تُنير الطريق لعلي، وقدم علي الّتي فقدها ياسر، أن يضع المشهد رهينة إرادة لا يمكن أن تتكامل إلّا بشكل أعجوبيّ، لا يستقلّ فيها الجسد عن رأس يدبّره ويحرّكه ويوجّهه إلى مصيره الّذي بات مجهولًا في مهبّ المستجدّات المتلاحقة، جسد التحم بكرسي عجلات يعبّر عن حالة العجز الّتي آلت إليه الحالة الفلسطينيّة، وبصر أُطفِئ نوره جعَل الفلسطينيّ يتخبّط في طريق معتم، لا عودة منه إلّا بالتحام كليهما: الإرادة والبصيرة، لما هو آتٍ خلف ركام ما خلّفته السياسة، ووُئِدت على أعتابه الثورة. يوم "دفن عمر بمقبرة الأرقام دون شاهد قبر، بعد أن افتدانا، لم ير عين غزال، ولا حتّى رام الله. أسير الآن وأقترب من مشارف نابلس، تضمر فرحتي رغم أنّي مقتنع بأنّي يجب أن أعود، لم أر عكّا، ولا صفّورية، ولا عين ماهل، ولا يافا، ولا المجدل، لا فرق بين يوسف ورجل يوسف، لكن يوسف أهمّ من رجله" (ص 63).

 

سيّارة الإسعاف

ورد في مقالة للدكتور زكي العيلة، مُشيرًا إلى فضاءات المكان والزمان في الرواية الفلسطينيّة: "إنّ العلاقة بين الإنسان والمكان تظهر بوصفها علاقة جدليّة بين المكان والحرّيّة، وممّا لا شكّ فيه أنّ الحرّيّة في أكثر صورها بدائيّة هي حرّيّة الحركة؛ فالمكان يصبح إشكاليّة إنسانيّة إذا ما اغتُصب، أو إذا حُرمت منه الجماعة؛ لذلك يكتسب تصوير المكان خصوصيّة بالنسبة إلى الرواية الفلسطينيّة، الّتي تتحدّث عن مكان مغتصَب وعن نضال الشعب لاسترداده، وإشكاليّات هذا النضال، سواء في المكان المغتصَب أو في أمكنة اللجوء. وتبعًا لهذا التفرّد في الوضع الفلسطينيّ قام الخطاب الروائيّ برمّته على الإحساس المؤلم بالفضاء، ونهوض مفهوم الفضاء على أساس التناقض بين ما كان وما هو كائن، بين حلم الوطن وحقيقة المنفى."

يتجسّد هذا الفضاء في رواية الشرفا بسيّارة الإسعاف، في مقاربة هي أكثر ما تكون بنقيضها: "الفرق بين السجن وسيّارة الإسعاف، أنّك تحوّل جسدك في السجن إلى احتمال قسريّ للحياة، بينما تحوّل سيّارة الإسعاف جسدك إلى احتمال طوعيّ للموت! تمامًا كالفرق بين المسعف والسجّان" (ص 85).

وكأنّما صوّر الكاتب مشهدًا عميقًا بدلالاته، ليسقطه على ما يكابده الفلسطينيّ من خلال ما يعانيه سمك السلمون، من مشقّة الوصول إلى النهر الّذي فقس فيه...

يمتدّ هذا الفضاء في رواية الشرفا، من بيروت إلى رام الله وأريحا فنابلس وجنين، ويحتلّ المساحة الكبرى في سيّارة الإسعاف، الّتي شهدت مُجمل التصوّر للمعاناة الّتي خاضها رجل خمسينيّ فقدَ عينيه، في إشارة إلى علي الطوق، وياسر الشابّ الّذي فقدَ إحدى قدميه، في ما بقيت الأخرى معلّقة بالحياة، كما الفلسطينيّ لا يزال يتمسّك بالحياة، يتحسّس الطريق بعد أن تاهت به الدروب إلى وطنه، الّذي فقدَ أغلى ما يملك لأجل أن يراه بعين ياسر، وأن يطأه بقدم علي.

"على التلال قرميد المستوطنات البرتقاليّ والأخضر، تتوسّع المستوطنات... أستعيد ما قاله لي أخي أبو الصافي، عندما خرج في تبادل الأسرى بين الثورة والمحتلّ في عام 1985، بعد نحو ستّة عشر عامًا في الأسر، قال: ليتني لم أخرج، ما قيمة أن تخرج وألّا تعانق عمر أبو الوفا؟ قالوا إنّ جثمانه مدفون في مقبرة الأرقام" (ص 62-61).

 

عكس مجرى النهر

حين كان علي الطوق يقلّب المحطّات، ويسمع أخبار القيادة الّتي اجتمعت في أوسلو والتحليلات السياسيّة لارتدادات الحدث، "استقرّ على برنامج عن سمك السلمون، أشاهد وأسمع: ‘وفي نهاية هذه الرحلة، السمك يلفّ ويدور، وتصبح الأسماك جاهزة للرحلة الأصعب وهي العودة إلى بيوتها؛ أي إلى النهر الّذي وُلدت فيه وجاءت منه قبل سنوات، في طريقها إلى البحر، ستبدأ أسماك السلمون بالسباحة عكس مجرى النهر، لا يثنيها أيّ شيء... وتقفز أمتارًا طويلة لتتجاوز الشلّالات، يقف الدبّ مبتلًّا سمينًا، الكاميرا على عينيه، ينظر وينتظر، يتلقّف السمكة، وتحاول الفرار، لكن مخالبه وأنيابه أقوى منها، تمزّق أسنانه لحمها، وينسلخ جلدها ويفور دم بين أنيابه، بينما يصفق ذيلها صفقة المذبوح، في الخلف... القفز يستمرّ والالتقاط يستمرّ، الأسماك تسير وتسير، تصل أخيرًا... تضع أسماك السلمون بيوضها في النهر وتموت" (ص 71-72).

وكأنّما صوّر الكاتب مشهدًا عميقًا بدلالاته، ليسقطه على ما يكابده الفلسطينيّ من خلال ما يعانيه سمك السلمون، من مشقّة الوصول إلى النهر الّذي فقس فيه، بات فيه مصير الفلسطينيّ محتومًا، يستميت ليحمل راية النضال لأجيال قادمة رغم مشقّة الطريق، ورغم كلّ الانتكاسات والخذلان الّذي يبسط يده الغليظة على واقعه المأزوم، الّذي يُشير إلى حتميّة النهاية، لا لذنب اقترفه؛ إنّما لأنّه وُلد فلسطينيًّا لا يستكين أمام الذلّ والخذلان، يعمل جاهدًا حتّى آخر قطرة دم يروي بها أرضه العطشى؛ فينتهي بخلاصة السؤال: "كيف سيكون شكل موتنا؟ تحت الجنزير؟ بقذيفة؟ أم برصاصة قنّاص؟ ربّما بقنبلة من تحت الأرجل مزروعة، ربّما تنهار علينا الأسقف والجدران، ونعيش الموت والدفن في آن، ربّما سيكون من الأفضل استغلال فوران حزن أمّهاتنا على أصدقائنا قبل أن يبرد..." (ص 102).

 

 

فهيمة كتّاني - غنايم

 

 

محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة، وباحثة تهتمّ بالشأن الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ. تكتب في الأدب والثقافة والسياسة، حاصلة على بكالوريوس علوم الحاسوب والرياضيّات، وماجستير في الاستشارة التربويّة. تحضّر حاليًّا لقبي ماجستير علم الحضارات في جامعة حيفا، ودكتوراه الإدارة التربويّة في جامعة اليرموك.