"كوانتوم": محاكمة التاريخ بفيزياء المستحيل

جون مكلاين

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

إنّ الله لا يلعب النرد

لو عادت عقارب الساعة إلى الوراء، لسألنا فوكوياما قبل طرح كتابه الإشكاليّ "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992): هل قرأتَ ما قاله رسول حمزاتوف في حبّ بلاده "ليتكلّم البحر، أمّا أنت فالزم الصمت"؟ وهل كانا يتخيّلان معًا أنّ فلسطينيًّا، اسمه مريد البرغوثي، سيأتي بعدهما ليعقد للتاريخ محاكمته الخاصّة، قائلًا: "فليحضر التاريخ فورًا... وليُلغِ موعده مع الحرب الّتي ستجيء، أو مع أيّ سلم مفترَض"؟

لو امتلكنا أجوبة شافية على مثل هذه الأسئلة الحارقة، لعرفنا لِمَ ذهب الشاعر والروائيّ أحمد أبو سليم يردّد مقولة أينشتاين الشهيرة: "إنّ الله لا يلعب النرد"!

القارئ رواية أبو سليم يشعر لوهلة بأنّه في حضرة روائيّ "ساديّ"، يميل إلى نزعة تعرية الوجوه من جميع الأقنعة الماثلة والمحتملة...

 أبو سليم، في روايته "كوانتوم" (فضاءات، 2018)، يحوّل محاكمة البرغوثي للتاريخ، من الشعر إلى الرواية، عبر أبطال من مجاز وحقيقة: الجدران، والحجارة، والصخور، والبيت، والمكان، والفضاء، والزيتون، والليمون، وهند، ومؤمن، والقاروط.

هؤلاء هم الأبطال الحقيقيّون لحكاية القدس، الّتي حاول أبو سليم جاهدًا أن يحاكيها عبر مقولة العالم المصريّ جمال حمدان: "إنّ الجغرافيا تاريخ متحرّك، والتاريخ جغرافيا ساكنة"، وهذا ما سنجده جليًّا في غير فصل من فصول روايته، الّتي عقد من خلالها الروائيّ محاكمته للتاريخ قبل نهايته الّتي اقترحها فوكوياما - وتراجع عنها لاحقًا - فطرح عديدًا من الأسئلة الوجوديّة، لربّما ليلفت نظر البشريّة إلى أنّ اجترار الفكر يجعلنا نطوف حوله، دون أن نُنتج ما يفوقه كي تتقدّم الحضارة وتستمرّ، سواء كان عقيدة أو أسطورة، علمًا أو ادّعاء.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ساديّة

القارئ رواية أبو سليم يشعر لوهلة بأنّه في حضرة روائيّ "ساديّ"، يميل إلى نزعة تعرية الوجوه من جميع الأقنعة الماثلة والمحتملة؛ فنراه يسأل عن المطلق وشروطه، وعن علاقة الضحيّة بالجلّاد، وعن البطولة، وعن الخلاص، والعقلانيّة، والجنون، والهزيمة، والانتصار، والمقدّس، والأسطورة، والقاتل، والقتيل، وعن حضارة الموت، وكتلة الطين الّتي ترى الله!

أمّا "الساديّة" الّتي أشير إليها، فتكمن في تمرّد النصّ على ما عداه من نصوص، خاصّة حينما يدور الحديث حول سؤال الحقيقة ومدلولها بين مفهومي العبوديّة والحرّيّة، أو في امتحان البطولة والخيانة، وربّما بين شَرطَي الهزيمة والانتصار، وجميعها يرتبط ارتباطًا أصيلًا بفضاء العمل - القدس، وإنسانها قبل جدرانها، زيتونها قبل صخورها، والأهمّ فلسفة بقائها بوصفها وفق قول الراوي "هذه الأرض هي هويّة البشر" (ص 285).

 

 

إذن، نحن أمام ما يمكن أن نسمّيه "السرد العاري"، القائم على فكرة التحرّر من الرمزيّة لصالح الواقعيّة، لتحقيق مقاربة أسلوبيّة يمكنها أن تصوغ علاقة تعاقديّة ما، بين أحداث الرواية والقارئ، وهو ما برع فيه أبو سليم بلغة عميقة لافتة، وعلى الرغم من صدقها وعفويّتها، لم تخلُ من البعد الفلسفيّ.

 

سؤال الوجود

إذا كانت اللغة شكل المبنى المميّز في رواية "كوانتوم"، فإنّ السؤال الفلسفيّ للوجود كان الصورة المتفجّرة في متن الرواية على طولها وعرضها، حيث يكاد لا يخلو فصل من فصول الرواية، إلّا طرحَ جملة من الأسئلة الوجوديّة الصعبة حدّ الألم، على الرغم من اعتماد الروائيّ نمط كتابة لم تخضع لمبدأ الكتلة الواحدة وتسلسله المنطقيّ؛ إذ جاء كلّ فصل كأنّه حكاية في حدّ ذاتها، إلّا أنّها حكايات لم تغيّب الحدث المركزيّ، ألا وهو تناول قضيّة احتلال القدس عام 1967. وهذا الشكل كان واضحًا تمامًا في النصف الأوّل من الرواية، بعكس ما ذهبت إليه في النصف الثاني، الّذي تجلّى فيه الروائيّ فطرح أكثر هذه الأسئلة حساسيّة واشتعالًا، حين قال على لسان الراوي: "أوّاه يا الله، على أيّ شيء قامت هذه الحياة؟ على أيّ جنون؟ على أيّ كتاب؟ على أيّ انفلات؟ هل كنّا سنفعل ذلك أيضًا لو انتصرنا؟ ما الأجدى والأفضل، أن تكون القاتل أم المقتول؟" (ص 236).

ولأنّ "البشر تجاوزوا منطق الافتراس الفرديّ إلى الافتراس الجماعيّ" )ص 207)، و"المصائب تتضافر معًا، والهزيمة، والانحطاط، والموت، والوحدة" (ص 272)؛ نجد أبو سليم الفلسطينيّ اللاجئ المطعون، المجروح، المكلوم في وطنه، لم يتوانَ في نقد الحالة الفلسطينيّة، منذ ما بعد النكبة مرورًا باحتلال القدس، وصولًا إلى ما بعد أوسلو؛ وهو ما يذكّرنا بالشاعر الداغستانيّ رسول حمزاتوف وهو يقول: "أيّتها الجمجمة المسكينة/ لا نستطيع أن نعدّ ما لحق بك من ندوب وكدمات/ هذا المصير، أعترف أنّه غير مفهوم" (ص 534).

 

محاكمة التاريخ

إن كان الأمر عند حمزاتوف غير مفهوم، فكيف له أن يُفهَم عند غيره، ومنهم أبو سليم الّذي راح يُعرّي الحقائق من أقنعتها؟ يقول: "اليوم تختلط الأمور، وتتداعى كذبة الحقيقة، كذبة التاريخ، كذبة الواقع، كذبة الوجود، كذبة المنطق" (ص 357)؛ وهو ما دفع أبو سليم إلى طرح سؤال التاريخ دون أيّ محاولة للتجميل أو مواربة محتملة: "أيّ تاريخ بوسعه أن يحمل لعنة المدينة على كتفيه؟" (ص 214).

"الانتفاضة ولادة أخرى، كما هي الحرب ولادة... والولادة تعني احتمالات جديدة تمامًا كالفرق بين الماء الساكن الّذي يصبح قابلًا لأن يكون آسنًا، والماء الجاري، الّذي يتجدّد كلّ لحظة، ولا يمكن له أن يأسن"...

هكذا يدفع بالسؤال دفعة واحدة في وجه الجميع؛ لأنّه - أي الروائيّ - لو قُيِّض له أن يحكم هذا الكون ساعات، لجرح الأرض كي تنزف دمعًا وماء، لأنّ التاريخ ليس مجرّد "دفقة حزن أخير مع النهر" كما يؤكّد هو في مقام شعريّ آخر، لكنّه - أي التاريخ - مجموع الأحداث والأفكار والحقائق، وربّما القوّة الّتي تشكّل كلّ هذا وأكثر، وهو ما عبّر عنه الراوي بقوله: "من أصغر الأفكار تولَد أكبر الحقائق، وحركة التاريخ يصنعها بشر آمنوا بأفكارهم، بأنفسهم، وراحوا يدفعون الواقع باتّجاه آخر، مختلف" (ص 321).

على هذا النحو من الوجع، وعلى الرغم من مساجلة الرواية لمقولة المحتلّ ما بين حجر وحجر، "حجر داود الّذي قتل به جالوت، مقابل حجر فارس عودة الّذي قتل به دبّابة الاحتلال" (ص 309)، نجد الراوي يرفض أن يستسلم لقبح الواقع المرير، لهزيمة تبدأ من هزيمة الذات لنفسها، وهويّتها؛ ببساطة لأنّه "لا يفاضل بين خسارة وخسارة، ألم وألم، هزيمة وهزيمة" (ص 310)، فيقدّم مقولته العالية عبر البحث الدقيق عن "ماذا تعني البطولة بالضبط؟" (ص 305)، ذلك السؤال الّذي يحاول الراوي أن يُعنّفه ليُخرج منه عشرات الأجوبة، يأخذه مباشرة نحو الإجابة المثلى، شارحًا ماذا يعني فعل الانتفاض من خلال التجربة الّتي سبقت الحلول السلميّة: "الانتفاضة ولادة أخرى، كما هي الحرب ولادة... والولادة تعني احتمالات جديدة تمامًا كالفرق بين الماء الساكن الّذي يصبح قابلًا لأن يكون آسنًا، والماء الجاري، الّذي يتجدّد كلّ لحظة، ولا يمكن له أن يأسن" (ص 309).

 

فيزياء المستحيل

ولأنّ شغف المبدع لكلّ جديد، عادةً ما يؤثّر، إن لم نقل يتحكّم في اختياراته، نجد أبو سليم يستخدم عنوانًا إشكاليًّا، هدفه الأساس قلب العديد من المفاهيم المستقرّة. أمّا لماذا هو إشكاليّ فذلك يعود إلى أنّ الـ "كوانتوم" أو ما يمكن تسميته بـ "فيزياء المستحيل" كما يُطلق عليه عالم الفيزياء الأمريكيّ ميشيو كاكو، مفهوم نسبيّ يقوم على عمليّة التخاطب الّتي تجري بين الشخص ونظيره في العالم الموازي، حسب شرح أبو سليم المقتضب (ص 292)، إلّا أنّ الأخير أصرّ على توظيف هذه النسبيّة في معالجته الروائيّة؛ لأنّه يؤمن بأنّ نظريّة "الكوانتوم" أحد القوانين الّتي تحكم الكون (ص 289)، بل تُعَدّ لغته الحقيقيّة، وهذا ما دفعه إلى محاولة تحويل الأمر من الحقل النظريّ إلى حقل الواقع (ص 294). ولأنّ الأمر ليس بهذه السهولة؛ فإنّ الروائيّ باختياره لهذا العنوان، وتحميل الرواية لنظريّة فيزيائيّة، بوصفها المرتكز الأساس، إنّما أدخل العمل في تعقيد حمّل القارئ عبء ما لا يحتمل. ببساطة شديدة لأنّ "العالم حين يشرح شيئًا ما، يظنّ أنّ بعض الأمور مسلَّمات، لذا يقفز عنها، مع أنّها تكون بالنسبة إلى أمثالنا أشياء معقّدة عصيّة على الفهم"، وهذا ما ورد على لسان الراوي نفسه (ص 182).

نحن أمام عمل سرديّ فلسفيّ جادّ وعميق، قام على مخزون معرفيّ متراكم، هجر العاديّ والمألوف لصالح الاستثناء، ليطرح سؤال الوجود في محاكمة التاريخ...

وعلى الرغم من ذلك، فنحن أمام عمل سرديّ فلسفيّ جادّ وعميق، قام على مخزون معرفيّ متراكم، هجر العاديّ والمألوف لصالح الاستثناء، ليطرح سؤال الوجود في محاكمة التاريخ.

أخيرًا، جدير بنا الاعتراف أنّ رواية أبو سليم الّتي لم تستدعِ عالم آثار ليكتشف فضاءها - القدس، وهي مَنْ رأت فيه أنّه "عالم، سقفه السماء، وجدرانه آخر الدنيا"، استحضرت التراث العربيّ، ربّما ليكون شاهدًا على بُعد الهويّة؛ فكان أن حقّقت هذه المعادلة بشرطها السرديّ عبر تماثل شخصيّة هند، البطلة المركزيّة في الرواية، وشخصيّة زرقاء اليمامة؛ إذ امتلك كلٌّ منهما قوّة الإدراك والفطنة والتبصّر، وانتهى مآل كليهما بأن عُذّبت الأولى واعتصرت ذاكرتها إلى أن فقدت قدراتها، وقُتلت الثانية بعد أن اقتُلعت عيناها بعد اجتياح الأعداء لبلدتها وإبادة قومها.

 

 

أحمد زكارنة

 

 

شاعر وإعلاميّ يقيم في رام الله. يعمل في إذاعة "صوت فلسطين"، ويرأس تحرير موقع "اليوم الثامن"، كما عمل سابقًا مستشار تحرير في "صحيفة الحدث". له مجموعة شعريّة بعنوان "ما لم أكنه" (2017).