جبران خليل جبران... استثناء فنّيّ في المخيّلة الغربيّة

جبران خليل جبران (1883 - 1931)

 

جمهور جبران

في ستّينات القرن الماضي، سُئل ألفرد كْنوف، صاحب دار نشر "كْنوف" الشهيرة: "مَن جمهور جبران؟"، فأجاب: "لا أدري، يبدو أنّهم طائفة دينيّة".

حقيقة لا يعرفها كثيرون أنّ جبران أكثر الشعراء مبيعًا بعد شكسبير ولاو تسو، وفي هذا الأمر تَجلٍّ لمكانة جبران الشاعر على المستوى الكونيّ؛ مبيعات كتاب "النبيّ" حتّى الآن فاقت تسعة ملايين نسخة، أمّا في ستّينات القرن الماضي فبلغت خمسة آلاف نسخة في الأسبوع الواحد. "المجنون" أوّل كتب جبران بالإنجليزيّة، لاقى استحسان النقّاد سنة نشره 1918، وتُرجم حال صدوره إلى لغات عديدة. ثمّة مَنْ لاحظ تأثير نيتشه وطاغور والإنجيل لديه، وأُشيع آنذاك أنّ النحّات الفرنسيّ رودان قارنه بالشاعر الإنجليزيّ وليام بليك.

يتّفق النقّاد على أنّ جبران لم يكن يومًا ما في مستوى وليام بليك أو والت ويتمان، لكن جُملته الكثيفة وثيمته الروحيّة الوجوديّة، جعلت كلماته أيقونات في العقود الأولى من القرن العشرين

بعامّة، يتّفق النقّاد على أنّ جبران لم يكن يومًا ما في مستوى وليام بليك أو والت ويتمان، لكن جُملته الكثيفة وثيمته الروحيّة الوجوديّة، جعلت كلماته أيقونات في العقود الأولى من القرن العشرين؛ نتيجة تأثّر النخبة الأمريكيّة بالروحانيّات وكنوز الشرق المعرفيّة في ذلك الوقت. في ستّينات القرن العشرين، موجة شعبيّة أكبر من الأولى رفعت أسهم جبران، وقد أسهم في صناعتها "الهيبيز"، الّذين كانوا يبحثون عن جُمل بسيطة شبيهة بشعارهم الدارج: "مارسوا الحبّ لا الحرب".

 

الأسئلة

أسئلة الحكّائين في قصص جبران وأقواله المأثورة تحمل أقنعة كثيرة، متدرّجة، من سطح حبّة الرمل إلى مجمع الآلهة، أسئلة تتحرّك كزوبعة وجوديّة: "لِمَ أنا ههنا يا ربّ؟ لِمَ أنا ههنا وأنا ثمرة عجراء؟ لِمَ أنا ههنا يا إله النفوس الضائعة؟ أيّها الضائع بين الآلهة؟".

أسئلة، قد تبدو ساذجة مع الملامسة الأولى، لكنّها تحمل ثيمات فلسفيّة كونيّة مثيرة، بإمكان طبقات عديدة من الوعي البشريّ الوصول إليها، واستخدامها بصفتها أدوية أو مسكّنات أو أنماط حياة كاملة. 

في رسالة كتبها إلى مي زيادة عام 1919، يعترف جبران، بشكل ما، بتفاصيل الذائقة ومدلولاتها الّتي رفعته عاليًا. يقول في وصف استحسان النقّاد الأمريكيّين لكتابه "المجنون": "وقد يكون ارتياح هؤلاء الغربيّين إلى ’المجنون‘ وأخيلته، ناتجًا عن مَلَلِهِم أخيلة نفوسهم، وعن ميلهم الطبيعيّ إلى الغريب وغير المألوف، خاصّة إذا كان شرقيّ المظاهر".

 

السنوات الأولى

كي نفهم أسرار حضور جبران في التراث الثقافيّ الشعبيّ في أمريكا، علينا أن نبحث أيضًا في سنوات جبران الأولى، أصول حكمته وخفايا صحبته:

كآبته الأولى تكمن في فقدان الأب في سنّ صغيرة؛ ليس بالمعنى الفيزيائيّ، بل المعنويّ. كان أبوه مقامرًا يعيش في الحانات. فقدان أمّه وأخته وأخيه في سنة واحدة، بعد عودته من لبنان إلى أمريكا عام 1902، أسهم في زيادة سوداويّته في الكتابات اللاحقة، الّتي صقلت بشكلٍ ما صوته الإبداعيّ الخاصّ: صوت المهاجر، الغريب، الّذي ينظر إلى البحر من بعيد؛ فلا يرى بلاده الّتي خرج منها، ولا التلّة الّتي يقف عليها... صوت غنائيّ، تراجيديّ، منبوذ.    

فقدان أمّه وأخته وأخيه في سنة واحدة، بعد عودته من لبنان إلى أمريكا عام 1902، أسهم في زيادة سوداويّته في الكتابات اللاحقة، الّتي صقلت بشكلٍ ما صوته الإبداعيّ الخاصّ

معلّمه الأوّل في بوسطن، فْريد هولاند داي، المصوّر الغرائبيّ الّذي كان يعتمر العمامة ويدخّن الشيشة، لقّب جبران الصغير بالمتصوّف؛ ألقى أمامه الكتب فابتلعها جبران منذ اللحظة الأولى، حين كان في الثالثة عشرة من عمره، وطلب المزيد. امتلك داي دار نشر، وحلقة كبيرة من الأصدقاء الروحانيّين، أصبحوا في ما بعد من المعجبين برسومات جبران، الّذي لمّا يكن يكتب بالإنجليزيّة بعد. 

مُلهمته الأولى جوزفين بيبودي، شاعرة وكاتبة مسرحيّة أمريكيّة، نقّحت كتاباته الأولى بالإنجليزيّة، وانبهرت بمادّته الشعريّة المختلفة. تعرّفت على جبران عن طريق داي، كان مراهقًا وكانت تكبره بتسع سنوات. رسائل جبران إلى جوزفين، المحفوظة في مكتبة "جامعة هارفارد"، تشي بعلاقة أفلاطونيّة حميمة على مدار سنوات طويلة. تُذكّر هذه الرسائل نوعًا ما برسائله إلى مي زيادة. بعد جوزفين، كانت ماري هاسكل وصيّة على موهبة جبران، فنّيًّا وماليًّا، لكن جبران حافظ أيضًا على علاقة غير حسّيّة أو جنسيّة مع ماري.  

 

حياة لم تّتسع للطموح العظيم

حياة جبران القصيرة لم تتّسع لطموحه العظيم؛ الألقاب الباذخة وأرقام المبيعات أخذت مسارها المستقلّ بعيدًا بعد موت صاحبها. القرويّ، ابن الجبل، سليل الشرق المسيحيّ، أراد لاسمه كما أراد لجسده في "النبيّ" أن ينزل عن التلّة ويعتلي السفينة، كي تأخذه إلى البلاد الّتي وُلد فيها، لكن "كآبة صمّاء" أصابته فمنعته من الرجوع.    

من السهل تعرُّف عالم جبران، عن طريق ربط مشروعه الجماليّ بـ "شعراء المهجر"، أمثال ميخائيل نُعيمة وإيليّا أبو ماضي. جبران - كإخوته من "شعراء المهجر" و"الرابطة القلميّة" - دعا إلى استخدام رموز الأرض والطبيعة، والتخلّص من أغراض الشعر التقليديّة كالمديح والهجاء والفخر، وكلّ ذلك في سياق ضخم، هو استدراج بُعد إنسانيّ، يصنع تقاطعات جماليّة كونيّة لم تحدث من قبل في تاريخ الشعر العربيّ. من هؤلاء مَنْ عاد إلى بلاد الميلاد، كميخائيل نُعيمة، ومنهم مَنْ بقي ودُفِنَ في الغربة، في تراب آخر. 

"أعطني الناي" في حنجرة فيروز، جعلت من جبران ضيفًا رقيقًا وعذبًا في البيوت العربيّة، وجسد سلمى كرامة المسجّى خلف أشجار السرو في "الأجنحة المتكسّرة"، جعله كاتبًا رومانسيًّا أثيرًا

الاستثناء   

"أعطني الناي" في حنجرة فيروز، جعلت من جبران ضيفًا رقيقًا وعذبًا في البيوت العربيّة، وجسد سلمى كرامة المسجّى خلف أشجار السرو في "الأجنحة المتكسّرة"، جعله كاتبًا رومانسيًّا أثيرًا على ذائقة عاطفيّة ميلودراميّة. أمّا مقولاته وحِكمه الناجزة فهي على كلّ لسان؛ لذلك فإنّ حضور جبران في الثقافة العربيّة أعلى كثافة وأشدّ قوّة من أيّ شاعر مهجريّ.

أمّا في الخارج، ولا سيّما في أمريكا، فجبران استثناء حقيقيّ؛ إنّ اسم جبران الفنّيّ في المخيّلة الغربيّة استثناء واضح جليّ، لا بدّ من أنّ شعراء عربًا كثيرين يحسدونه عليه، على الرغم من موت جسده النحيل واختفائه عن الأرض، قبل تسعة وثمانين عامًا في العاشر من نيسان (أبريل).

 

 

د. أشرف الزغل

 

 

شاعر وباحث من فلسطين. له أربع مجموعات شعريّة؛ 'دواليب الرماد' (بالاشتراك مع عبد الرحيم الشيخ)، و'نوم كما أرى'، و'صحراء في المترو'، و'صورة العائلة البشعة'. حصل على جائزة الكاتب الشابّ – حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطان عام 2001.